مقياس الطول و مقياس العمق (روحانية العبادة) - كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية للبابا شنودة الثالث

· · 950 كلمة · 5 دقيقة قراءة

أود في هذا المقال أن أحدثكم عن روحانية العبادة لكي يختبر الإنسان مقدار درجته في العبادة، هناك مقياسان:

أما مقياس الطول، فهو مقدار الوقت الذي يقضيه الإنسان مع الله في كافة نواحي العبادة: في الصلاة، في التأمل، في الترتيل، في الألحان، في التسبيح، في القراءات الروحية..

في مقياس الطول لا أريد أن أحدثك عن الدرجات الروحية العالية لئلا تقع في اليأس. لا أريد أن أحدثك عن حياة الصلاة الدائمة فربما لا يكون هذا هو طريقك في الحياة، وقد تكون هذه من درجات النساك العابدين. ولا أريد أن أحدثك عن تدريب صلب العقل الذي سار فيه القديس مقاريوس الإسكندري، ولا عن حالات اختطاف الفكر، ولا عن تدريب خلط كل عمل من أعمال الحياة بالصلاة.

ولا أريد أن أحدثك عن أمثال القديس أرسانيوس الذي كان يقف للصلاة وقت الغروب والشمس وراءه، ويظل واقفًا مصليًا حتى تطلع الشمس أمامه مقضيًا الليل كله في الصلاة..

ولكني أحب أن أسألك كم تعطى الله من وقتك؟ وكم تعطى لأمور العالم من وقتك؟ وهل هي نسبة عادلة؟ وهل الوقت الذي تقضيه في العبادة كاف لغذاء روحك؟

هناك إنسان يزعم أنه يصلى كل يوم. وقد يكون مجموع صلواته في اليوم بضع دقائق، لا تشبع روحه ولا تشعره بالصلة بالله..

وقد يقف إنسان ليصلى، وسرعان ما يشعر بالسأم والملل، ويحب أن ينهى صلاته بأية طريقة كما لو كان عبئًا ثقيلًا عليه!! ذلك لأن قلبه جاف من الداخل ليست فيه محبة الله..

وقد يعتذر إنسان عن الصلاة بضيق الوقت. وقد يكون السبب الحقيقي هو عدم وجود الرغبة وليس عدم وجود الوقت!

إن أكبر رد على مثل هذا الإنسان هو داود النبي الذي كان ملكًا، وقائدًا للجيش، ورب أسرة كبيرة جدًا، ومع ذلك نراه يصلى “عشية وباكر ووقت الظهر”. ويقول لله: “سبع مرات في النهار سبحتك على أحكام عدلك”.. ولا يكتفي بالنهار بل يقول أيضا: “في نصف الليل نهضت لأشكرك على أحكام عدلك”. ولا يكتفي بالليل بل يقول: “كنت أذكرك على فراشي، وفي أوقات الأسحار كنت أرتل لك”. ولا ينهض فقط في وقت السحر بل يقول للرب: “سبقت عيناي وقت السحر، لأتلو في جميع أقوالك ومع كل صلوات الليل هذه، نراه يقول في شوق إلى الله: “يا الله أنت ألهي، إليك أبكر، عطشت نفسي إليك”..

وفى النهار يقول: “محبوب هو أسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي”..

إنه مثل جميل، لرجل من رجال الصلاة، كان مشغولًا جدًا، وعليه مسئوليات وأعباء لا حصر لها، ومع ذلك نجح في عمل الصلاة، وضرب مثالًا رائعًا لمقياس الطول في العبادة.. فلا يصح إذن أن نعتذر بالمشغوليات. لأننا إن آمنا بأهمية أمر من الأمور، نستطيع أن نوجد له وقتًا. المشكلة إذن في عدم وجود الرغبة.

وقد يكون السبب هو عدم الإحساس بالاحتياج إلى الصلاة.. مثال ذلك الشاب الذي زارني في إحدى المرات وقال لي: “إن شاء الله ستبدأ امتحاناتي يوم السبت، فأرجوك أن تذكرني في صلواتك يوم الأربعاء لأنها مادة صعبة”. فقلت له: (وماذا عن امتحان يوم السبت؟). فأجاب: “إنها مادة سهله لا تحتاج إلى صلاة”..! نعم، ما أكثر تلك الأمور التي نراها لا تحتاج إلى صلاة.. إنها الثقة بالنفس أو بالظروف المحيطة أو ببعض المعونات البشرية، التي تجعلنا نشعر أننا لسنا في حاجة إلى صلاة.. كأننا ننتظر الوقت الذي يسمح فيه الله بضيقة أو مشكلة، وحينئذ فقط نصلى!!

أعود إلى سؤالي: ماذا عن مقياس الطول في حياتك الروحية؟ وهل أنت من جهة وقت العبادة في نمو مستمر؟

أما عن مقياس العمق فهو حالة القلب أثناء العبادة.. فقد يصلى إنسان وقتًا طويلًا ولكن في غير عمق.. بصلوات سطحية أو بصلوات من العقل فقط أو من الشفتين وليست من القلب، أو بصلوات من عقل غير مركز يطيش أثناء الصلاة في العالميات..!

إن مقياس العمق في الصلاة يجعلنا نسأل الأسئلة الآتية:

هل صلواتك بحرارة؟ وهل هي بإيمان؟ وهل هي بحب وشوق نحو الله؟ وهل صلواتك في انسحاق وتواضع قلب؟ وهل هي في خشوع وهيبة شديدة لله؟ وهل هي في تركيز وجمع للعقل؟ وهل صلواتك تشعر فيها بالصلة الحقيقية أمام الله كما لو كان قائمًا أمامك تخاطبه وجهًا لوجه (اقرأ مقالًا آخر عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات)؟ وهل هي من القلب حقًا أم من الشفتين فقط؟ وهل تتكلم فيها مع الله بدالة وثقة؟ وهل أنت تجد لذة في صلاتك وتتمنى لو استمرت معك كل الوقت أم أنك تؤدى فرضًا لابد أن تؤديه؟ وهل صلواتك من أجل نفسك فقط أم من أجل الآخرين أيضًا؟ وهل صلاتك هي لله وحده أم فيها عناصر الرياء ومحبة الظهور أمام الناس..

إنها أسئلة كثيرة إن أجبت عليها تعرف مقدار العمق الذي لك في عبادتك..

ويدخل في مقياس العمق نوعية الصلاة أيضًا.. فهل صلاتك مجرد طلب، أم فيها أيضًا عنصر الشكر، وعنصر التسبيح والتمجيد، وعنصر التوبة والانسحاق والاعتراف بالخطية..

ثم أيضًا هل صلاتك بفهم؟

هل تعنى كل كلمة تقولها لله؟ وهل تفهم معاني الألفاظ التي ترددها وبخاصة في الصلوات المحفوظة وفي المزامير؟

ويبقى بعد كل هذا أن نسأل: هل أنت حقًا تصلي؟ هل ينطبق عليك مقياس العمق؟ هل تشعر أن صلواتك قد وصلت فعلًا إلى الله؟ وهل تشعر أنه قبلها، وأنك مطمئنًا واثقًا أن الله سيعمل معك عملًا..

وهل في صلاتك تشعر أنك حفنة من تراب تحدث خالق الكون العظيم، فتقف أمامه في خشوع تشكره على الشرف الذي منحك إياه إذ سمح لك أن تقف أمامه..

إن قست نفسك بهذين المقياسين، مقياس الطول ومقياس العمق، ووجدت نفسك لم تبدأ بعد حياة العبادة، فنصيحتي لك أن تبدأ من الآن، وأن تحسن حالتك يومًا بعد يوم.. ولا تنهمك في أمور العالم الانهماك الذي يجفف قلبك ويقسي روحك ويجعلك تنظر إلى أمور العبادة بعدم اكتراث!!

أيها القاري العزيز، ضع أمامك على الدوام قول السيد المسيح: “ماذا يستفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! أو ماذا يعطى عوضًا عن نفسه “؟!.. اهتم إذن بنفسك واحرص على أبديتك. ولتكن لك علاقة عميقة بالله. وان وجدت صعوبة في بداية الطريق فلا تيأس. وان حاربك الشيطان فقاومه، وأثبت في عبادتك. وسيأتي الوقت الذي تذوق فيه جمال الحياة الروحية فتجدها شهية وممتعة، فتأسف على الأيام التي ضاعت عبثًا من حياتك. ابدأ في عمل الصلاة، وفي صلاتك اذكر ضعفي. وليكن الرب معك يقويك على عمل مرضاته..

التصنيفات: عظات مكتوبة
مشاركة: