الذاتية و إنكار الذات - كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية للبابا شنودة الثالث
لا تظنوا أيها الأخوة الأحباء أن عبادة الأصنام قد تلاشت من الأرض. فهناك صنم خطير يكاد يعبده الكل.. انه الذات ego 🔗
كل إنسان مشغول بذاته، معجب بذاته، يضع ذاته في المرتبة الأولى من الأهمية.. أو في المرتبة الوحيدة من الأهمية.. يفكر في ذاته، ويعمل من أجل ذاته، ويهمه أن تكبر هذه الذات، بل تصير أكبر من الكل، ويهمه أن تتمتع هذه الذات، بشكل اللذات، بأي ثمن، وبأي شكل.
هذه هي الذاتية، أو التمركز حول الذات.. وفيها يختفي الكل، وتبقى الذات وحدها.. فيها ينسى الإنسان غيره من الناس، أو يتجاهل الكل، وتبقى ذاته في الصورة، وحدها.. ولا مانع من أن يضحى بالكل من أجل ذاته.. وأن يفكر هذا الإنسان في غيره، يكون تفكيره ثانويًا، في المرحلة التالية لذاته، أو قد يكون تفكيرًا سطحيًا، أو تفكير عابرًا..
وإن أحب ذلك الإنسان الغارق في الذاتية، فإنه يحب من أجل ذاته، ويكون من يحبه مجرد خادم للذاته.. هو لا يحب الغير من أجل الغير، وإنما يحب من يشبعه في ناحية ما.. يحب مثلًا من يمدحه، أو من يقضى له حاجياته، أو من يشبع له شهواته، أو من يحقق له رغبة معينة.. فهو في الحقيقة يحب ذاته لا غيره. وما حبه لغيره سوى وسيلة يحقق بها محبته لذاته.
لذلك لا مانع عند هذا الشخص أن يضحى بهذا الحب إذا اصطدم بذاته ورغباته.. ولعل هذا يفسر لنا الصداقات التي تنحل بسرعة إذا ما اصطدمت بكرامة ذاتية أو غرض ذاتي.. ولعل هذا يفسر لنا أيضًا الزيجات التي تنتهي إلى الطلاق أو إلى الانفصال بينما يظن البعض أنها قد بدأت بحب، وبحب عنيف أو عميق.. قطعًا أن ذلك لم يكن حبًا بمعناه الحقيقي، لأن في الحب تضحية، وفيه احتمالا وبذلا وعذرًا للآخرين. والمحبة كما قال الكتاب: “تحتمل كل شيء”..
إنما مثل هؤلاء أشخاص كانوا يحبون ذواتهم فيما هم يتغنون بمحبتهم لغيرهم.
كان في محبتهم عنصر الذاتية، لذلك ضحوا بهذه المحبة على مذبح الذاتية أيضًا.. إن المحبة تصل إلى أعماقها حينما تتكلل بالبذل.. إن المحب الحقيقي هو الذي يضحى من أجل أحبائه بكل شيء، ولو أدى الأمر أن يضحى بذاته.. وكما قال الإنجيل: “ليس حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه عن أحبائه”.
أما المحبة التي تأخذ أكثر مما تعطى، فهي ليست محبة حقيقية، إنما محبة للذات. كذلك المحبة التي تحب لتأخذ.. إنها تحب ما تأخذه، ولا تحب من تأخذ منه.. لذلك كانت محبة الله محبة كاملة مثالية، لأنها باستمرار تعطى دون أن تأخذ ولذلك أيضًا كانت محبة الأم لطفلها محبة حقيقية، لأنها باستمرار تعطى وباستمرار تبذل..
ولكن لعل إنسانًا يسأل: ولماذا لا نحب ذواتنا؟ وأية خطيئة في ذلك؟ ومن من الناس لا يحب ذاته؟! إنها غريزة في النفس..
نعم، جميل منك أن تحب نفسك، ولكن تحبها محبة روحية. تحب ذاتك من حيث أن تهتم بنقاوة هذه الذات وقداستها وحفظها بلا لوم أمام الله والناس..
و تحب ذاتك من حيث اهتمامك بمصيرها الأبدي ونجاتها من الدينونة الأخيرة حينما تقف أمام منبر الله العادل لتعطى حسابًا عن أعمالها وعن أفكارها ونياتها ومشاعرها.. هذا هو الحب الحقيقي للذات.. الحب الذي يطهر الذات من أخطائها ومن نقائصها، ويلبسها ثوبًا من السمو والكمال.
وهناك شرط آخر لمحبة الذات الحقيقية، أن الإنسان في محبته لذاته يحب جميع الناس، ويكون مستعدًا أن يضحى من أجلهم بكل ما يملك، ولو ضحى بذاته أيضًا..
لا يجوز لك أن ترتفع على جماجم الآخرين، ولا أن تبنى سعادتك على شقائهم، أو راحتك على تعبهم..
ضع مصلحة الآخرين قبل مصلحتك، وفضل خيرهم على خيرك. ودرب ذاتك كيف تضحى من أجل الناس، سواء شعروا بهذه التضحية، أو لم يشعروا، وسواء شكروا عليها أو لم يشكروا..
من هنا علمنا السيد المسيح فضيلة عظمى، وهى إنكار الذات.. وشرح لنا كيف أن الذي يحب أن يسير في طريق الرب، عليه أولًا أن ينكر ذاته.
إن الشخص النبيل لا يزاحم الناس في طريق الحياة، بل يفسح لهم مجالًا لكي يعبروا، ولو سبقوه.. أنه يختفي لكي يظهر غيره، ويصمت لكي يتكلم غيره، ويمدح غيره أكثر مما يمدح نفسه، ويعطى مكانه ومكانته لغيره، وإن كان بذلك يسعد نفسه من نفوس الناس..
إن الإنسان الكامل هو دائم التفكير في غيره، ومحبة غيره، وصالح غيره، وأبدية غيره، وقداسة غيره..
أما ذاته فيضعها أخر الكل، أو يضعها خادمة للكل.. إنه لا ينافس أحدًا من الناس. فطريق الله يسع الكل.. وهو يشعر بسعادة عميقة كلما أسعد إنسانًا يجد سعادته في سعادته، وراحته، يجد فيهم ذاته الحقيقية. لا ذاته الشخصية.. إنه يفرح لأفراحهم، ولو كانت الآلام تحيطه من كل جهة.. وإن أصابهم ألم لا يستريح، وإن كانت وسائل الراحة تحت قدميه..
إنه شمعة تذوب لكي تضئ للآخرين.. لا تفكر في ذاتها إنها تنقرض، إنما تنشغل بالآخرين كيف يستنيرون.. وفي أنارتها للناس لا تفرح بأنها صارت نورًا، إنما تفرح لأن الآخرين قد استناروا.. ذاتها لا وجود لها في أهدافها.. ولو فكرت في ذاتها، لما استطاعت أن تنير للناس..
إن أنجح الناس في المجتمع هم الأشخاص المنكرون لذواتهم، وأكثر الناس فشلًا هم الأنانيون.
إن انجح إداري هو الذي يعطي فرصة لكل إنسان أن يعمل، ويشرف على الكل في عملهم، ويبدو هو كما لو كان لا يعمل شيئًا بينما يكون هو مركز العمل كله. وأكثر إنسان محبوب في العمل، هو الذي كلما نجح عمله، يتحدث عن مجهود فلان وفلان، وينسب النجاح إلى كثيرين غيره، ويختفي هو كأنه لم يعمل شيئًا.. وكأنه يفرح بنجاح غيره لا بنجاح نفسه..
إن الناس يفرحون بمن يعطيهم فرصة، وبمن يقدرهم، وبمن يشيد بمجهودهم. أما الإنسان المتمركز حول ذاته، الذي يخفى الناس لكي يظهر هو، ويعطل كل الطاقات لكي يمجد طاقاته الخاصة، فإنه يفشل في كسب محبة الناس، وقد يفشل العمل كله بسببه..
الإنسان المخلص يهمه أن ينجح العمل، على أي يد تعمله. أما الأناني فيهمه أن يتم النجاح على يديه، ولو أدى الأمر إلى تعطيل العمل كله. إن ذاتيته هي العقبة الكؤود التي تعرقل كل نجاح.
الإنسان المتمركز حول ذاته لا يفكر في راحة غيره، سواء كان راحة فرد أو راحة المجتمع كله. ربما لا يهتم بالصلح العام، ولا بالنظام العام، وإنما يرضيه فقط أن يجد طريقة. لذلك فإن الأنانيين هم أكثر الناس كسرًا للقوانين.
الرجل الكامل ينكر ذاته في علاقته بالناس، وأيضًا في علاقته بالله.. وما أجمل قول المرتل في المزمور “ليس لنا يا رب ليس لنا، ولكن لاسمك القدوس أعطِ مجدًا”.. إنه يبحث عن مجد الله وعن ملكوت الله أولًا وأخيرًا.. يهمه أن يطيع وصية الرب، ولو أدى به الأمر أن يغضب ذاته، أو يضغط على نفسه، أو يضحى براحته. إنه يبذل ذاته من أجل وصية الله..
حتى في صلاته، ينسى ذاته ويذكر الله.. إنني أتعجب إذ أجد كثيرين في صلواتهم متمركزين حول ذواتهم.. كل صلواتهم طلبات خاصة.. يزحمون الصلوات بطلباتهم ورغبتهم، وأيضًا بخطاياهم واعترافاتهم.. أما الله وملكوته فلا يشغلهم في الصلاة.. ما أجمل ذلك المصلى الذي يقول في صلاته: (من أنا يا رب، التراب والرماد، حتى أتحدث عن ذاتي وطلباتي في صلاتي. أريد أن أنسى نفسي وأذكرك أنت، أريد أن أسبح في جمالك غير المدرك، وفي كمالك غير المحدود.. أريد أن أتأمل في صفاتك الإلهية التي تبهرني فأنسى ذاتي.. وعندما أنسى نفسي، سأجدها فيك، في قلبك الكبير المحب.. هذا القلب الذي أحبه من أعماقي، والذي أود أن أحيا عمري كله وأبديتي أيضًا متأملًا في محبته، وحنوه، وعفوه، ورقته، وطول أناته، و إشفاقه على الخطاة الذين أولهم أنا)..