ما هو الخير؟ - كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية للبابا شنودة الثالث

· · 976 كلمة · 5 دقيقة قراءة

كلنا نؤمن بالخير، ونريد أن نعمل الخير.

ولكننا نختلف فيما بيننا في معنى الخير وفي طريقته.

وما يظنه أحدنا خيرًا، قد يراه غيره شرًا !!

فما هو الخير إذًا؟ وما هي مقاييسه؟

لكي نحكم على أي عمل بأنه خير، ينبغي أن يكون هذا العمل خيرًا في ذاته، وخيرًا في وسيلته.. وخيرًا في هدفه، وبقدر الإمكان يكون أيضًا خيرًا في نتيجته.

وسنحاول أن نتناول هذه النقاط واحدة فواحدة، ونحللها. وسؤالنا الأول هو: ما معنى أن يكون العمل خيرًا في ذاته !

وفى الواقع أن كثيرين -بنية طيبة- قد يعملون أعمالًا يظنونها خيرًا. وهي على عكس ذلك ربما تكون شرًا خالصًا..

مثال ذلك الأب الذي يدلل ابنه تدليلًا زائدًا يتلفه، وهو يظن ذلك خيرًا!! ومثال ذلك أيضًا الأب الذي يقسو على ابنه قسوة تجعله يطلب الحنان من مصدر آخر ربما يقوده إلى الانحراف. وقد يظن ذلك الأب أن قسوته نوع من الحزم والتربية الصالحة. ومن أمثلة الذين يظنون عملهم خيرًا وهو شر في ذاته، أولئك الذين عناهم السيد المسيح بقوله لتلاميذه: “تأتى ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله”.

إن الناس يختلفون فيما بينهم في معنى الخير. ويختلفون في حكمهم على الأعمال. ويتناقشون حول ذلك ويتصارعون. وقد يعمل أحدهم عملًا، فيعجب به الناس ويمتدحونه، ويسرفون في مدحه، بينما يتضايق البعض من نفس هذا العمل الذي يمدحه زملاؤهم. ويتناظر الفريقان، وكل منهما يؤيد وجهة نظره بأدلة وبراهين، ويتولى الفريق الآخر الرد عليها بأدلة عكسية. ويبقى الحق حائرًا بين هؤلاء وهؤلاء.

من أجل هذا كان على الإنسان أن يتمهل ويتروى، ولا يتعجل في حكمه على الأمور.

بل على العكس أيضًا أن يعمل عملًا، ويحاول أن يتأكد أولًا من خيرية تصرفه. ومن أجل هذا أيضا أوجد الله المشيرين وذوى الخبرة والفهم كإدلاء في طريق الحياة. وهكذا قال الكتاب المقدس “الذين بلا مرشد يسقطون مثل أوراق الشجر”. وأوجد الله المربين والحكماء. وجعل هذا أيضًا في مسؤولية الوالدين والمعلمين والقادة وآباء الاعتراف، وكل من يؤتمنون على أعمال التوعية والإرشاد.

ولكن يشترط في المرشد الذي يدل الناس على طريق الخير، أن يكون هو نفسه حكيمًا، وصافيًا في روحه..

وينبغي أن يكون هذا المرشد عميقًا في فهمه، لئلا يضل غيره من حيث لا يدرى ولا يقصد. ولهذا السبب لا يصح أن يسرع أحد بإقامة نفسه على هداية غيره، فقد قال يعقوب الرسول: “لا تكونوا معلمين كثيرين يا أخوتي، لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا”.. حقًا ما أصعب السقطة التي تأتى نتيجة أن يتبوأ أي إنسان مسئولية الإرشاد فيضيع غيره.. ولهذا قال السيد المسيح: “أعمى يقود أعمى، كلاهما يسقطان في حفرة”.

لذلك كان كثير من الآباء المتواضعين بقلوبهم يهربون من مراكز القيادة الروحية، شاعرين أنهم ليسوا أهلًا لها، وخائفين من نتائجها. وعارفين أن الشخص الذي يقود غيره في طريق ما، أو ينصح غيره نصيحة معينة، إنما يتحمل أمام الله مسئولية نتائج توجيهاته ونصائحه، ويعطى حسابًا عن نفس هذا الشخص الذي سمع نصيحته. وقد قيل في ذلك إن نفسًا تؤخذ عوضًا عن نفس.

فعلى الإنسان حينما يسترشد أن يدقق في اختيار مرشديه، ولا يسمع لكل قول، ولا يجرى وراء كل نصيحة مهما كان قائلها. وأن يتبع الحق وليس الناس. وكما قال بطرس الرسول: “ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس”. إذن الخير مرتبط بالحق، ومرتبط بكلام الله إن أحسن الناس فهمه، وإن أحسنوا تفسيره، وإن ساروا وراء روحه لا حرفه.

إن كلام الله هو الحق الخالص، والخير الخالص، ولكن تفسير الناس لكلام الله قد يكون شيئًا آخر.

إن كلام الله يحتاج إلى ضمير حي يفهمه، وإلى قلب نقى يدركه. وما أخطر أن نحد كلام الله بفهمنا الخاص!! وما أخطر أن نغتر بفهمنا الخاص، ونظن أنه الحق ولا حق غيره، وأنه الفهم السليم ولا فهم غيره..!

إن الذي يريد أن يعرف الخير، عليه أن يتواضع..

يتواضع فيسأل غيره، ويقرأ ويبحث ويتأمل، محاولًا أن يصل وأن يفهم.. وحينما يسأل، عليه أن يسأل الروحيين المتواضعين الذين يكشف لهم الله أسراره. وعليه أن يسأل الحكماء الفاهمين ذوى المعرفة الحقيقية والإدراك العميق. وكما قال الشاعر:

فخذوا العلم على أربابه واطلبوا الحكمة عند الحكماء

لو كنا جميعًا نعرف الخير، ما كنا نتخاصم وما كنا نختلف.. علينا إذن -في تواضع القلب- أن نصلى كما صلى داود النبي من قبل: “علمني يا رب طرقك، فهمني سبلك”.

إن الصلاة بلا شك هي وسيلة أساسية لمعرفة الحق والخير، فيها وبها يكشف الله للناس الطريق السليم الصحيح.

وهنا نسأل سؤالًا هامًا:

هل الضمير هو الحكم في معرفة الخير؟ وهل نتبعه بلا نقاش؟

أجيب وأقول: يجب على الإنسان أن يطيع ضميره، ولكن يجب أيضا أن يكون ضميره صالحًا. فهناك ضمائر تحتاج إلى هداية. إن الأخ الذي قتل أخته دفاعًا عن الشرف، أو الأخ الذي قتل أخته لأنها أرادت الزواج بعد زوجها الأول.. ألم يكن كل منهما مستريح الضمير في قتله لأخته (اقرأ مقالًا آخر عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات)؟! ألم يسر كل منهما على هدى من ضميره، وكان ضميره مريضًا؟!

إن الضمير يستنير بالمعرفة: بالوعظ والتعليم، بالاسترشاد، بالنصح، بالقراءة.. فلنداوم على كل هذا، لكي يكون لنا ضمير صالح أمام الله..

لأننا كثيرًا ما نعمل عملًا بضمير مستريح، واثقين أنه خير..!!

ثم يتضح لنا بعد حين أنه كان عملًا خاطئًا!

فنندم على هذا العمل، الذي كان يريحنا ويفرحنا من قبل.

وأمثال هذا العمل قد يسمى في الروحيات أحيانًا" خطيئة جهل"..

إن الإنسان الصالح ينمو يومًا بعد يوم في معرفته الروحية. وبهذا النمو يستنير ضميره أكثر، فيعرف ما لم يكن يعرفه، ويدرك أعماقًا من الخير لم يكن يدركها قبلًا..

وربما بعض فضائله السابقة تتضح له كأنها لا شيء، بل قد يستصغر نفسه حينما كان يتيه بها في يوم ما..!

من هنا كان القديسون متواضعين.. لأنهم كل يوم يكشفون ضآلة الفضائل التي جاهدوا من أجلها زمنًا طويلًا..!

وذلك بسبب نمو ضميرهم وشدة استنارته في معرفة الخير..

والخير يرتبط بنسيانه..

إذ ننسى الخير الذي نفعله، من فرط انشغالنا بالسعي وراء خير آخر أعظم منه، نرى أننا لا نعمله نحن، وإنما يعمله الله بواسطتنا. وكان يمكن أن يعمله بواسطة غيرنا، ولولا أنه من تواضعه ومحبته شاء أن يتم هذا الخير على أيدينا، على غير استحقاق منا لذلك..

ولكن ما هو الخير؟ وكيف يكون خيرًا في ذاته؟ وفي وسيلته؟ وفي هدفه؟ وفي نتيجته؟

أري أنني قد طفت معك حول إطار هذه الصورة.. التي ليتنا نستطيع أن نتأملها في مقال آخر إن أحبت نعمة الله وعشنا..

التصنيفات: عظات مكتوبة
مشاركة: