كتاب حياة الرجاء - كتب البابا شنوده الثالث

· · 38526 كلمة · 181 دقيقة قراءة

كذلك يظنون أنه لا فكاك من الخطايا التي استمرت معهم زمانًا، حتى صارت شبة مسيطرة عليهم، يكررونها في كل اعتراف بلا توبة، مهما حاولوا التوبة.. هؤلاء يقولون مع داود النبي ما ورده في المزمور الثالث:

“كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه” (مز 3).

وللأسف لا يكملون باقي المزمور وما فيه من رجاء..

ولأهمية هذا الموضوع، ولحاجة الكثيرين إليه، تكلمت في عظات عديدة جدًا عن الرجاء ودخل الرجاء ضمن عظات أخرى من الصعب أن أحصيها، ولذلك لما أردت أن أجمع كل ما قلته في موضوع الرجاء، بدأ الأمر صعبًا، مما تسبب في تعطيل صدور هذا الكتاب الذي دخلت أجزاء من مقالات في المطبعة وجمعت.. وانتظرت أخواتها، وطال الانتظار… وتحيرت ماذا أقدمه للطبع، وماذا أتركه أو أرجئه؟؟

وأخيرًا اكتفيت بهذه المقالات الخمس عشرة التي ضمها هذا الكتاب، حتى يمكن أن يصدر الآن. على أن نستبقي المقالات الأخرى الخاصة بالرجاء، لكي تنشر في جزء ثان، أو تضاف إلى هذا الكتاب عند إعادة طبعة بمشيئة الله.

والرجاء هو أحد الفضائل الثلاث الكبرى التي ذكرها الرسول في (1 كو13: 13).

وأعنى بها: الإيمان والرجاء، والمحبة.

ولقد أصدرنا لك كتابًا عن (حياة الإيمان) في بداية الثمانينيات، وها هوذا كتاب الرجاء. وبقى كتاب ثالث نصدره عن المحبة.. محاضراته كلها جاهزة، لا تنقصها سوى مراجعة بسيطة وتقدم إلى المطبعة.. بصلواتك.

وبهذا تكمل المجموعة إن شاء الله.

البابا شنوده الثالث


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


2- الرجاء 🔗

الرجاء هو أحدي الفضائل الثلاث الكبرى التي ذكرها معلمنا بولس الرسول في رسالته الأولى إلى كورنثوس حيث قال.. (الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ، هذِهِ الثَّلاَثَةُ) (1كو13:13) وهذه الثلاثة ترتبط بعضها بالبعض الآخر فالإيمان يلد الرجاء، لأن الذي يؤمن بالله، إنما يكون رجاء فيه، والذي يكون له رجاء في الله، يحبه وهكذا يصل إلى قمة العلاقة بالله في المحبة.

الرجاء قديم قدم البشرية بل أقدم منها، فأول رجاء عرفة البشر هو رجاء في الخلاص، حينما وعد الرب قائلًا لآدم وحواء (إن نسل المرأة يسحق رأس الحية) (تك15:3).

وظل هذا الرجاء في قلوبهم آلاف السنين حتى تحقق أخيرًا في تجسد الرب، وفي صلبه عن البشرية.

وحتى الذين لم ينالوا هذا الرجاء، عاشوا فيه، وكما قال معلمنا بولس (لم ينالوا المواعيد، ولكنهم نظروها من بعيد وصدقوها) (عب13:11).

وهكذا رقدوا على رجاء، إلى أن افتقدهم الرب وأرجعهم إلى الفردوس مرة أخرى.

على أن الرجاء كان موجودًا قبل آدم وحواء، في قصة الخليقة الأولى، كان هناك رجاء لتلك الأرض الخربة الخاوية المغمورة بالمياه، وعلى وجه الغمر ظلمة (تك1:1).

وحقق الله لها هذا الرجاء حينما قال (ليكن نور فكان نور) ورتب الله هذه الأرض الخربة، فإذا بها في أجمل صورة ممكنة، فيها الأشجار والأثمار والأزهار والأطيار. ورأى الله أن كل شيء فيها حسن جدًا. ولذلك مهما كانت الأرض خربة في يوم من الأيام ومهما كانت خاوية، ومهما كانت مغمورة بالمياه، ومهما كانت مظلمة، فهناك رجاء أن الله يخرج منها هذه الصورة الجميلة من الطبيعة المملوءة بالجمال التي نراها الآن.

الرجاء إذن هو شيء هام في الحياة ولو فقد الإنسان الرجاء فقد كل شيء، لأن الإنسان الذي يفقد الرجاء، يقع في اليأس، ويقع في الكآبة، وتنهار معنوياته، ويقع في القلق، والاضطراب ومرارة الانتظار بلا هدف وقد يقع بذلك ألعوبة في يد الشيطان، لذلك نقول إن الشيطان هو الذي يقطع الرجاء.

أما أولاد الله فباستمرار عندهم رجاء، يعيشون في الرجاء في كل وقت.. في الضيقة يعيشون في رجاء، ومهما تعقدت الأمور، ومهما بدا أن الله قد تأخر عليهم، مهما بدا كل شيء مظلمًا، هناك رجاء.

وأولاد الله عندهم رجاء أيضًا في الحياة الأخرى، في العالم الآخر في تحقق وعد الرب من حيث ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان. هذه هي الحياة الأخرى التي نجاهد على الأرض لكي ننالها. وعلى رأى معلمنا القديس بولس الرسول “إن كان لنا رجاء في هذا العالم فقط، فنحن أشقى جميع الناس” (1 كو 15).

وهناك رجاء أيضًا حتى للخطاة في التوبة، بل أشر الخطاة على الأرض لهم رجاء.

وهناك رجاء للص وهو على الصليب في أخطر سعات حياته. وهناك رجاء لزكا رئيس العشارين الذي كان يمثل قمة الظلم في عهده، وهناك رجاء للمجدلية التي كان فيها سبعة شياطين فإذا بها إحدى المريمات القديسات، وقد استحقت أن تكون مبشرة للحد عشر بالقيامة. وهناك رجاء حتى للشجرة التي لم تثمر ثلاث سنوات فقال الرب “أنقب حولها وأضع زبلًا، لعلها تثمر فيها بعد” (لو 13: 8).

المسيحية تعطي رجاء حتى للقصبة المرضوضة وللفتيلة المدخنة.

القصبة المرضوضة قادر الله أن بعصبها، والفتيلة المدخنة قادر الله أن يرسل لها ريحًا فتشعل، ولهذا من جهة الرب “شجعوا صغار النفوس”. وأعطى في ذلك رجاء حتى للركب المخلعة، وحتى للأيدي المسترخية.

في المسيحية يوجد رجاء للأفراد ويوجد رجاء للهيئات، ويوجد رجاء للكنائس ويوجد رجاء للبلاد ويوجد رجاء للعالم كله.

لنا رجاء في افتقاد الرب للبشرية في كل وقت. هذا الرجاء لا يضعف أبدًا عند المؤمنين مهما بدا الأمر صعبًا وكيف ذلك؟

لقد كان هناك رجاء ليونان النبي وهو في بطن الحوت. هل إنسان يكون في جوف الحوت ويكون له رجاء؟ ولكن يونان ركع على ركبتيه وصلى وهو في جوف الحوت. وقال للرب “أعود فأرى هيكل قدسك”. كان له رجاء، وقد تحقق.

وكان هناك رجاء حتى للثلاثة فتية وهم في أتون النار، ولدانيال وهو في جب الأسود.

وكان هناك رجاء حتى للعاقر التي لم تَلِد، التي قال لها الرب في سفر إشعياء “ترنمي أيتها العاقر، ووسعي خيامك، لأن نسلك سيرثون أممًا ويعمرون مدنًا خربة” (اش 54).

كان هناك رجاء أعطاه لنا الرب في رمز الذين قاموا من بين الأموات. حتى لعازر الذي قالت عنه أخته مرثا أنه قد أنتن (يو 11) قدم لنا الرب رجاء في أن يقوم من الأموات.

وهناك رجاء قدمه الرب في شفاء الرب في شفاء الأمراض المستعصية.. في إعطاء البصر للعميان، والصحة للجدع والعرج والمشلولين، وكل ذي عاهة، وصاحب اليد اليابسة، حتى الإنسان الذي قضي ثماني وثلاثين سنة إلى جوار البركة لا يجد من يلقيه فيها، كان له رجاء أن يأتي له المسيح ويقول له “احمل سريرك وامش” (يو 5).

مهما كان الأمر مستعصيًا، ومهما بدا للناس معقدًا، هناك رجاء يقدمه الله.

ولعل الرب أعطانا مثالًا جميلًا في هذا حينما قال “غير المستطاع عند الله “بل صدقوني هناك آية أعمق من هذه جدًا، وهي قول الكتاب “كل شيء مستطاع للمؤمن”.

عبارة “كل شيء مستطاع” (مر 9: 23) تعطينا رجاء لا حدود له.

وهكذا يقول بولس الرسول في الرجاء “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني” (في 14: 13). عبارة كل شيء هي مدى أوسع جدًا يعطينا فكرة أنه لا حدود للرجاء، مادام لا حدود لقدرة الله ولمحبته.

إذا لا حدود للرجاء في المسيحية.

والإنسان المسيحي يجد اختبارًا لفضيلة الرجاء فيه، حينما يقع في ضيقة أو في تجارب متنوعة، أو في آلام صعبة، أو في مشاكل تبدو لا حلول لها، يعرف بالرجاء أن الرب عنده حلول كثيرة، وان الرب لابد أن يأتي مهما بدا أمام الناس أنه قد تأخر.

صدقوني أنني في بعض الأحيان كنت أعاتب أبي ومعلمي القديس داود النبي، حينما كان يقول للرب “أسرع ولا تبطئ”.

لأن الرب يا أخوتي ليس عنده إسراع ولا إبطاء. الله يعمل، ويعمل في كل حين، وهو لا يتأخر مهما ظن التلاميذ أنه قد مر الهزيع الرابع من الليل ولم يأت بعد الرب لابد سيأتي، إذا كان عندنا إيمان، نؤمن أن الله لابد سيعمل وسيعمل بقوة وسيعمل في الوقت المناسب.

أما عبارة التأخير، فهي تحمل مفهومًا نسبيًا عند البشر، يظنون أنه قد تأخر، ولكن مواعيد الله هي، تحددها حكمته، وتحددها رؤيته الصادقة للأمور على حقيقتها.

فالله يعمل باستمرار، وإن ظننا في وقت من الأوقات أنه قد تأخر، يقول لنا المرنم في المزمور “أنتظر الرب، تقو ليتشدد قلبك، وأنتظر الرب” (مز 27: 14).

وهنا نعرف معني الرجاء على حقيقته..

إن الإنسان يرجوا الرب وينتظر الرب، ليس في قلق، ولا ضجر، ولا في تذمر، ولا في شك.

ولكن ينتظر الرب، وقد تشدد قلبه، هو قوي القلب في الداخل، قوي بالإيمان إن الرب يعمل، لا أقول أن الرب سيعمل، فهذا مستوى ضعيف. وإنما أقول أن الإنسان يكون عنده رجاء أن الرب يعمل فعلًا.

أنت لا تؤمن أن الله سيعمل في المستقبل، وإنما ينبغي أن تؤمن أن الله يعمل حاليًا. ولذلك يكون عندك رجاء، فيما لا تراه من عمل الله، ولكن توقن تمامًا وتثق أن الله يعمل. إن الطائرة قد تبدو لمن يستخدمها لأول مرة أنها واقفة في الجو، بينما تكون في سرعة أكثر من ثمانمائة كيلومترا في الساعة، ولكنها تبدو واقفة! وبعض المراوح الشديدة الحركة تبدو متوقفة، وهي تكون في اقوي درجة من السرعة، وكذلك الكثير من الأجهزة.

الله يعمل، أنت لا تراه يعمل لكن تؤمن بذلك، ويكون لك رجاء بنتيجة عمله التي ستراها بعد حين.

في الضيقات.. الإنسان الذي يرجو الله ينفعه قول المزمور “إن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي، وأن قام عليّ قتال ففي هذا أنا مطمئن”.

ولماذا هو مطمئن؟ لأنه يرجو عمل الله فيه، ويري كما كان أليشع يري، أن هناك جيوش الرب تحارب حول المدينة “وان الذين معنا أكثر من الذين علينا” (2 مل 6: 16) ويقول مع المرنم “نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين، الفخ أنكسر ونحن نجونا” (مز 124).

الإنسان الذي عنده رجاء، لا ينظر إلى الضيقات، إنما ينظر إلى الله الذي ينتصر على الضيقات. الذي قال “أنا قد غلبت العالم “ويظل فيه هذا الرجاء إلى أخر نسمة، في كل حين، في كل حال، في كل موقف، الرجاء لا يفارقه.

وهذا الرجاء يعطي الإنسان سلامًا في القلب، طمأنينة في الداخل، فرحًا قلبيًا على أساس، ولهذا يقول الرسول في الأصحاح الثاني عشر من رسالته إلى رومية “فرحين في الرجاء (رو 12).

الرجاء بأن الله لا يعسر أمر عليه وأنه قادر على كل شيء، الرجاء في محبة الله وفي مواعيد الله، الرجاء في الله الذي قال “لا أهملك ولا أتركك” الله الذي قال “ها أنا معكم كل الأيام وألي انقضاء الدهر” الذي قال “نقشتكم على كفي” الذي قال “إن أبواب الجحيم لن تقوى عليها.. الرجاء في الله الذي عمل في القديم، والذي يعمل كل حين، الذي نقول له مثلما قالوا في القديم قم أيها الرب الإله وليتبدد جميع أعدائك، وليهرب من قدام وجهك كل مبغضي اسمك القدوس”.

الله الذي غلب العالم، نرجوه أن يغلب العالم أيضًا مرة أخرى، يغلب الإلحاد الذي في العالم يغلب الإباحية والمادية، ويغلب الحقد والكراهية التي في العالم ويغلب الانقسام والتفكك الذي في العالم ويغلب العنف واستخدامه الذي في العالم.

هذا هو الإله الذي نرجوه الذي يعيد الأرض إلى صورتها الأولى. وأيضًا الله الذي يقف إلى جوار أولاده باستمرار، الذي رآه يوحنا في رؤياه وهو “في وسط المنائر السبع، وفي يمينه ملائكة الكنائس السبع” (رؤ 1: 20).

فالله ما يزال وسط أولاده، وفي يمينه رعاه الكنائس وقادتها، وهو يقول لنا أغنيته الجميلة “لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي” (يو 10: 29).

لنا رجاء في الله الذي قال عنه يوحنا الحبيب في رؤيا:

“أبصرت وإذا باب مفتوح في السماء” (رؤ 4: 1).

فالإنسان الذي يعيش في الرجاء باستمرار ينظر بابًا مفتوحًا في السماء ويري الله واقفًا في هذا البابا يقول إنه يفتح ولا احد يغلق” (رؤ3: 7).

الله الذي يسعى لخلاصنا دون أن نسعى نحن، والذي يحبنا أكثر مما نعرف الخير لأنفسنا الله ضابط الكل الذي يقود الكون كله والذي حياة العالم كله في يديه. هو يدبر الأمور حسب حكمته التي لا تحد، نحن نرجو هذا الإله، ونحن نغني مع الرسول قائلين:

“كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله” (رؤ 8: 28). ونقصد الخير بالمقاييس الإلهية وليس الخير بمفاهيمنا البشرية. الله هذا صانع الخيرات، هو الذي نرجوه. وهو الذي نعلق كل رجائنا عليه. وهو الذي نقول له في بعض الصلوات القداس الإلهي “يا رجاء من ليس له رجاء. معين من ليس له معين”. ونقول في المزمور “الاتكال على الرب خير من الاتكال على البشر، الرجاء، بالرب خير من الرجاء بالرؤساء” (مز 118).

الرجاء في مواعيد الله الصادقة والرجاء في الحياة الأبدية الجميلة، في القيامة السعيدة، الرجاء الذي نعلقه لا في أمور العالم، وإنما في ذلك الوطن السماوي، “المدين التي لها الأساسات التي صنعها وبارئها الرب” (عب 11).

الإيمان في حياة أخرى جديدة لا تعرف خطية، ولا تعرف أثمًا، الإيمان في التجديد العجيب الذي نناله في السماء، حيث ترجع إلينا الصورة الإلهية الأولى، وفي وضع لا يخطئ فيما بعد، الرجاء في الحرية التي ننالها من الرب، بحيث تكون حرية تفعل الخير فقط، ولا تعود تعرف الخطية بعد، الإيمان بملكوت الله الذي نعيش فيه في ذلك الأبد، ونعد أنفسنا له من الآن.

هذا هو الرجاء الحقيقي الذي نرجوا فيه ما لا يرى. لأن الأشياء التي ترى تدخل في العيان، وليس الرجاء. غنما نحن نرجو ما ننظره بالصبر، وليس ما نراه كما يقول الرسول “هذا الرجاء المفروض أن ندعو الجميع إليه”.

المفروض أن نقول لكل احد: إن كل باب مغلق له ألف مفتاح، والله يستطيع أن يفتح جميع الأبواب المغلقة ونقول له أن كل ظلمه لابد بعدها نور، وكل مشكلة لها حل أو عشرات الحلول وكل ضيقة لها إله هو إلهنا الصالح الذي يخرج من الجافي حلاوة، ومن الآكل آكلًا. والذي يحول كل الأمور إلى الخير، كل الأمور التي نمر بنا في حياتنا إن كانت خيرًا ستصل إلينا صانع الخيرات يحول الشر إلى الخير.

لذلك نحن نعيش في الرجاء فرحين باستمرار يملأ قلوبنا، لأننا لا نعتمد على ذواتنا ولا على وسائط عالمية، إنما نعتمد على الله الذي يعمل كل خير.

في هذا الرجاء أحب أن نعيش جميعًا، ككنيسة ترجوا ملكوت الله وتنتظره، وترجو عمل الله فيها كل حين، ونؤمن بعمله، وكعالم واسع الأرجاء في كل قاراته، يرجو من الله أن يسود السلام في كل مكان ويسود الخير في كل مكان،، ويرجع الحب إلى قلوب الناس جميعًا، فيرتبطون به، ويعيشون به وكما قال المسيح “بهذا يعرف الناس أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضكم نحو بعض”.

هذا الرجاء إن لم يكن فينا فلنطلبه كعطية مجانية من الله، الذي يملأ القلوب بسلامه وبرجائه. له المجد الدائم من الآن وإلى الأبد آمين..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


3- حياة الرجاء يلزمها الثقة 🔗

حياة الرجاء يلزمها الثقة في الله، والثقة في مواعيده، وفي عمله وفي محبته لك وللكل، وفي حكمة تدبيره.

لكي يمتلئ قلبك بالرجاء، ينبغي أن تثق بأن الله يحبك أكثر مما تحب نفسك وانه تعرف ما هو الخير لك أكثر مما تعرف أنت بما لا يقاس. وأن كل تدابير الله من جهتك هي في عمق الحكمة والخير، مهما غير ذلك من خلال الشك..

ولابد أنك تعلم انك في يد الله وحده، ولست في يد الناس ولا في أيدي التجارب والأحداث، ولا في أيدي الشياطين..

أنت في يد الله وحده. والله قد نقشك على كفه (إش 49: 16). وقد يظلل عليك بجناحيه (مز 90) ويحرسك الليل والنهار، ويحفظ دخولك وخروجك (مز 120). ومن محبته لك، دعاك أبنًا له (1 يو 3: 1). وهو الراعي الذي يرعاك فلا يعوزك شيء (مز 23: 1). نحن كلنا شعبه وغنم رعيته. ولا يمكن لله كراع صالح أن يغفل عن غنمه. ولا يمكن له كأب أن يغفل عن أولاده.

أما إن كان لديك مشكلة، فيريحك جدًا أن تنتظر الرب. ولابد أنه سينقذك منها. فهذه نصيحة مباركة يقدمها لنا أحد مزامير صلاه باكر، يقول فيها المرتل:

“انتظر الرب. تقو وليتشدد قلبك، وانتظر الرب” (مز 26)[27].

والنصيحة التي يقدمها لنا هذا المزمور، ليس مجرد أن ننتظر الرب، وإنما أن ننتظره في قوة، ونحن متشددون في الداخل.. لا ننتظر الرب في ضيقة، أو في ضجر وتذمر واحتجاج: لماذا لم يعمل الرب حتى الآن؟ أين محبته؟ أين عمله؟! ولا ننتظر ونحن نشك في عمل الله، أو نشك في قيمه الصلاة وفاعليتها!! ولا ننتظر الرب في ضعف داخلي، وفي انهيار، وقد فقدنا معنوياتنا!! كلا، فكل هذه المشاعر ضد فضيلة الرجاء، فالإنسان المضطرب أو اليائس أو الخائف أو المنهار، يدل على أنه فاقد الرجاء.. لأن الذي ينتظر الرب في رجاء، إنما يمنحه الرجاء قوة. وكما قال إشعياء النبي:

“وأما منتظرو الرب، فيجددون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون. ويمشون ولا يعيون” (إش 40: 31)

فما معني عبارة “يجددون قوة”؟ معناها أنه كلما حاربهم الشيطان بالقلق أو بالضعف والاضطراب، تتجدد القوة فيهم من تذكرهم لمواعيد الله الصادقة، وصفاته الإلهية المحبوبة باعتباره الأب والراعي والحافظ والسائر والمعين.. الله الحنون، المحب، صانع الخيرات، الذي لا يغفل ولا ينام.. فكلما يتذكرون صفه من هذه الصفات تتجدد القوة فيهم، ويرفعون أجنحة كالنسور.

إن منتظر الرب يثق ثقة لا تحد بمحبة الله الفائقة للبشر، وبحكمة الله التي هي فوق إدراكنا البشري..

يثق أن الله يعطينا باستمرار دون أن نطلب، وقبل أن نطلب. فكم بالحري إن طلبنا.. وهو يثق أيضًا أن الله يعطينا ما ينفعنا، وليس حرفية ما نطلبه. لأنه ربما تكون بعض طلباتنا غير نافعة لنا.. وهنا تظهر حكمة الله في محبته..

لذلك في حياة الرجاء، لابد أن تثق بحكمة الله في تدبيره.

لا تطلب وتُصِر. أنما أطلب وقل: لتكن مشيئتك..

وحينما تقول: “لتكن مشيئتك” ليكن ذلك بفرح، بغير ألم ولا حزن.

هناك أمور كثيرة لا تدريها. وهي معروفه ومكشوفة أمام الله.

ربما الذي تطلبه، لا يكون مناسبًا لك ولا نافعًا لك. وربما الوقت الذي تحدده، يعرف الله تمامًا أنه غير صالح، ويري أن تأجيل الاستجابة أفضل.. لذلك تواضع، وأترك الحكمة الله أن تتصرف. وانتظر الرب في ثقة..

أليس من المخجِل أننا نثق بذكائنا وفطنتنا أكثر مما نثق بالله!

إننا نضع حلولًا للأمور، واثقين أنها أفضل الحلول، أو أنها الوحيدة النافعة. وربما يكون في ذهن الله حل آخر لم يخطر لنا على بال، هو أفضل بما لا يقاس من كل تفكيرنا. ليتنا إذن نثق بالله.. وننتظر حله في رجاء.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


4- أمور تساعد على الثقة 🔗

وكما نثق بمحبة الله وحكمته، نثق بمحبة الله وحكمته، نثق أيضًا بمواعيده المليئة بالرجاء..

نثق بموعده الصادق “ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر” (متى 28: 20). نثق بقوله “لا تخف لأني معك” (تك 26: 24) “لا أهملك ولا أتركك. تشدد وتشجع”، “لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك” (يش 1: 5، 6) “تشدد وتشجع. لا ترهب ولا ترتعب، لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب” (يش 1: 9) “لا تخف أيها القطيع الصغير” (لو 12: 32)”.. أنا معك، ولا تقطع بك احد ليؤذيك” (أع 18: 10) “يحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أن معك -يقول الرب- لأنقذك” (أر 1: 19).

وما أكثر عبارات الرجاء التي تحفل بها المزامير..

ليتك تجمع هذه الآيات وتقرآها أو تتذكرها كلما كنت في حاجة إلى الرجاء في حياتك. يكفي أن تسترجع مثلًا مزمور 90 (91) أو 120 (121) حيث يقول لك الوحي الإلهي: “يسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات وأما أنت فلا يقتربون إليك. بل بعينيك تتأمل، ومجازاة الخطاة تبصر” (لأنه يوصى ملائكته بل ليحفظوك في سائر طرقك..” “تطأ الأفعى وملك الحيات، وتسحق السد والتنين، لأنه عليَّ اتكل أنجيه. أستره لأنه عرف اسمي” (مز 90) “لا يسلم رجلك للزلل.. الرب يحفظك”، “الرب يحفظك من كل سوء. الرب يحفظ نفسك. الرب يحفظ دخولك وخروجك” (مز 120).

كلها آيات تبعث الرجاء في النفس، وتقوي القلب في الداخل.

ويزيد الرجاء فيك أيضًا، تذكرك معاملات الله لقديسيه..

إن تذكرت كل هذا، يمتلئ قلبك بالرجاء، وتنتظر الرب في ثقة.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


5- قصة يوسف الصديق 🔗

إنسان يقسو عليه إخوته، ويلقونه في بئر، ثم يبيعونه كعبد لتجار من الإسماعيليين. وبعد أن يخلص لسيدة كل الإخلاص، وينجح في عمله جدًا، تلفق ضده تهمة رديئة من امرأة سيدة، ويلقي في السجن. وتطول به الأيام في سجنه..

ولكن كل هذه الأمور، كانت تعمل للخير.

فلولا التهمه التي أوصلته إلى السجن، ما كان خبرة يصل إلى فرعون فيجعله وزيره الأول والثاني في المملكة.

وطبعًا لولا قسوة إخوته، ما كان قد بيع إلى بيت فوطيفار. ولولا أن امرأة فوطيفار كانت خاطئة، ما كانت تشتهيه، ثم تلفق له التهمة التي أوصلته إلى السجن.. ولولا سجنه ما كان قد تعرف على رئيس سقاه فرعون الذي أخبر فرعون الذي أخبر فرعون الذي اخبر فرعون بقدرته على تفسير الأحلام، فاستدعاه فرعون. وخرج من السجن إلى المملكة (تك 39-41).

وبدون كل هذا، ما كان أخوته قد تابوا، وبكوا، واعترفوا بخطيئتهم، وعادت المحبة إلى الأسرة، ونجوا من المجاعة، واجتمعوا كلهم في مصر..

المشكلة أن الناس تحصرهم المشكلة، ولا يكون لهم الرجاء في أنها ستؤول إلى الخير.

يقفون عند البداية التي تبدو سيئة أو مؤلمه، ولا يتابعون العمل الإلهي، الذي يحول الشر إلى خير، والذي يخرج من الجافي حلاوة (قض 14: 14).

لا شك أن قصة يوسف الصديق، هي درس في الرجاء، وفي أن كل الأشياء تعمل معًا للخير.

نتدرج إلى نقطة أخرى تبدو غريبة وعجيبة، وهي: خطية آدم.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


6- خطية آدم 🔗

إنها خطية، جرت على العالم ما لا يحصي من الكوارث. وبها دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت (رو 5: 12).

ومع ذلك، فإن الله الذي يخرج من الجافي حلاوة، استطاع أن يجعل كل الأمور تعمل معًا للخير.

وكنتيجة لذلك عرفنا عمليًا محبة الله لنا (يو 3: 16). وبركات الكفارة والفداء.

ولو كان آدم لم يخطئ، لبقي في الفردوس. في جنة يأكل فيها ويشرب، ويعيش مع الحيوانات والطيور والأسماك.. أما الآن، فقد صار لنا الملكوت بكل ما يحمل من بركات غير مرئية، فيها ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن، وما لا يخطر على قلب بشر” (1 كو 2: 9).. ولنا فيه عشرة الملائكة القديسين..

وهذا يذكرنا بنقطة أخرى عجيبة وهي: الموت.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


7- الموت 🔗

كل الناس يكرهون الموت، ويرونه سببًا للحزن! ويلبسون لأجله السواد، ويقابلونه بالدموع والبكاء.. ولكنه أيضًا من الأمور التي تعمل للخير..

فالموت هو الطريق إلى حياة أفضل، وإلى مستوى أعلى ستؤول إليه البشرية..

حيث في القيامة، سنقوم بأجساد سماوية يمكنها أن ترث الملكوت (1 كو 15).. ولولا الموت لبقينا في هذا الجسد المادي أليس الموت أيضًا يعمل معًا للخير.

فلنتأمل قصة القديس الأنبا أنطونيوس، وموت أبيه.

كان موت أبيه درسًا عميقًا له في فناء الحياة الدنيوية وبطلانها. ولقد نظرا الشاب أنطونيوس إلى أبيه الميت، وقال له “أين هي عظمتك وسلطانك؟! لقد خرجت من الدنيا على الرغم منك. ولكني سأخرج منها بإرادتي، قبل أن يخرجوني مثلك كارهًا”.. وكانت بداية الحياة الرهبانية..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


8- الأمراض 🔗

المرض آفة يحاربها الناس ويهربون منها إلى الطب والدواء.. ومع ذلك فإن الأمراض “تعمل معًا للخير، للذين يحبون الرب” (رو 8: 28)..

أمراض كثيرة قادت إلى التوبة، وفعلت ما لم تفعله أعمق العِظات..

وبخاصة الأمراض الخطيرة والمؤلمة.. كم قد أدخلت كثيرين في عهود مع الله، وفي نذور قدموها إلى الله، وفي حياة جديدة مع الله، أو أدخلتهم في توبة واستعداد للموت.. وهكذا كانت تعمل معًا للخير.

وأمراض قادت الناس إلى الصلاة وإلى الصوم.

وإلي زيارة الأماكن المقدسة،، والتشفع بالملائكة والقديسين، وإلى إقامة القداسات، والقيام بأعمال الرحمة نحو الفقراء والمساكين.

وهكذا كما استفادة المريض نفسه اقترابًا إلى الله، استفاد أيضًا أقاربه ومحبوه فوائد روحية عديدة..

بل الأمراض كانت نافعة للقديسين، لإشعارهم بضعفهم ومنع المجد الباطل عنهم.

وفي ذلك يقول القديس الرسول “ولكي لا ارتفع بفرط الإعلانات، أُعطيت شوكة في الجسد. ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع” (2 كو 12: 7).

وقد صلى بولس ثلاث مرات، ليشفيه الله من ذلك المرض. ولكن الله قال له “تكفيك نعمتي”. واستبقي مع بولس هذه الشوكة التي في الجسد،، لأنه -تبارك اسمه- كان يعرف كم تعمل مع قديسه للخير، وكم تجلب له من اتضاع قلب..

وقصة القديس بولس مع المرض، تذكرنا بيعقوب أبي الآباء.

لقد صارع مع الله وغلب (تك 32: 28)، ونال البركة. ومع ذلك ضرب الله حق فخذه فانخلع. وظل يخمع على فخذه (تك 32: 27، 31). وبقي هذا المرض معه، كعطية من الله، يعمل معه للخير، ويهبه الاتضاع إذ يشعر بضعفه، لئلا يرتفع قلبه بسبب أنه نال البركة، وأنه صارع مع الله وغلب..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


9- تجربة أيوب 🔗

لعل إنسانًا يسأل: لماذا هذه التجربة تحل على إنسان قديس، شهد له الله مرتين بأنه “رجل كامل ومستقيم، وليس مثله في الأرض” (أي 1: 8) (أي 2: 3)..

والحقيقية أن هذه التجربة كانت للخير من عدة نواح:

  • كانت التجربة لخير أيوب، أوصلته إلى الاتضاع.

كان مُحَاربًا بشيء من المجد الباطل.. كان بارًا، ويعرف عن نفسه أنه بار. ولهذا قال “لبست البر فكساني. كجبة وعمامة كان عدلي” (أي 29: 9). وقيل عنه أنه “كان بارًا في عيني نفسه” (أي 32: 1).. فكانت التجربة لازمة له، لتعمل معه للخير،، توصله إلى انسحاق القلب، وإلى معرفة الله. ولما وصل إلى عبارة “أندم في التراب والرماد” (أي 42: 6).. رفع الله عند التجربة.

  • وكانت التجربة نافعة لأصحاب أيوب الثلاثة:

ذلك لأنهم كانوا “معزين متعبين” (أي 16: 2). وقد استذنبوا أيوب وأساءوا إليه (أي 32: 3). وحتى من جهة الله، لم يتكلموا عنه بالصواب (أي 42: 8). فكانت التجربة لازمه لهم،، لتصحيح مفاهيمهم الروحية.. وقد قادتهم إلى التوبة “واصعدوا محرقات لأجل أنفسهم” (أي 42: 7).

  • وكانت التجربة نافعة للعالم كله.

تلقي بها العالم درسًا في الصبر، كما قال القديس يعقوب الرسول “خذوا يا إخوتي مثالًا لاحتمال المشقات والأناة.. ها نحن نطوب الصابرين. قد سمعتم بصبر أيوب، ورأيتم عاقبة الرب..” (يع 5: 10، 11).

  • وحتى تجربة أيوب، من الناحيتين العائلية والمادية، كانت نافعة له، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.

فقد “زاد الرب على كل ما كان لأيوب ضعفًا.. وبارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه” (أي 42: 10، 12). أعطاه الرب ضعف ما كان له من الخيرات المادية. ووهبه الرب بنين وبنات “ولم توجد نساء جميلات، كبنات أيوب في كل الأرض” (أي 42: 15). ووهب الرب أيوب عمرًا طويلًا، “فعاش بعد التجربة 140 سنة، ورأي بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال”..

  • وهكذا كانت التجربة لخيره، لما احتملها.

  • وكانت تجربة أيوب خجلًا للشيطان.

  • أو كانت هزيمة جديدة له، لأن الشيطان قد لا يخجل من أخطائه. لذلك نقول كانت هذه التجربة سبب خزي له. فتعبير “خزي “أكثر موافقة للمعني..

وهكذا كانت تجربة تعمل معًا للخير لكل الأطراف..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


10- التجارب عمومًا 🔗

يخاف البعض من التجارب، وقد يضطرب لها. بينما يقول الرسول:

“احسبوه كل فرح يا أخوتي، حينما تقعون في تجارب متنوعة” (يع 1: 2).

المسألة تحتاج إلى ثقة في عمل الله معنا أثناء التجربة، وكيف يجعلها تؤول إلى خيرنا. وهنا نرى القديس يعقوب الرسول، لا يدعونا فقط إلى الاحتمال والصبر، وإنما بالأكثر يدعونا إلى الفرح بالتجارب.

وهكذا ندخل في حياة الفرح الدائم. في. في النعمة نفرح، وفي التجربة أيضًا نفرح. ونقول:

المُر الذي يختاره الرب لي، خير من الشهد الذي اختاره لنفسي..

نقول كل طرقك يا رب، بحكمة قد صنعتها.. كله للخير..

هيرودس أراد أن يقتل المسيح وهو طفل،

فصار هذا خير لمصر جاءها المسيح.

بارك الرب أرض مصر، وصارت لنا مقادس فيها. وسقطت كثير من الأصنام (اش 19: 19-22) وكانوا حينما يطردون العائلة المقدسة من بلد بسبب سقوط الأصنام، تذهب إلى بلد مصري آخر. فكثرت البلاد التي تقدست بزيارة العائلة المقدسة لمصرنا، وصار ذلك تمهيدًا لا نتشارك الإيمان المسيحي فيها..

بتذكرنا لكل هذا، نسعد بكل ما يحدث لنا، مؤمنين أنه:

إن لم يكن الأمر خيرًا في ذاته،

فلا بُد سيكون خيرًا في نتيجته.

خذوا كمثال: متاعب داود من شاول الملك.

لقد طارده من مدينة إلى مدينة، ومن برية إلى أخرى. وعاش بسببه هاربًا في البراري والقفار، يترصده الموت في كل خطوة. ولكن كل ذلك التعب أعده لتحمل مسئوليات الملك فيما بعد. إذ نضج داود سنًا وشخصية. وصار جبار بأس، كثير الاحتمال.

يعرف كيف ينتظر الرب بإيمان ويؤمن بتدخله.

والضيقات التي أحتملها، صارت نبعًا لمزاميره.

يغنيها على العود والقيثار والمزمار. وصارت ينبوعًا لتأملات روحية وصلوات عميقة، تصليها الأجيال من بعده.. وتري فيها كيف يختلط الطلب بالشكر بالإيمان.. وأعطانا أسلوبًا نصلي به ونحن في وقت الألم والضيقة. وصار داود رجل صلاة، صقلته التجارب، وصاحب خبرة بالعشرة مع الله.

ولو عاش داود مدللًا، ترى ماذا كانت شخصيته ستكون؟!

الضيقات لو لم تنته إلى خير على الأرض، فعلى الأقل ستعد لنا أكاليل يهبها لنا في ذلك اليوم الديان العادل.

إن الضيقات هي مدرسة للصلاة.

ربما حياة التنعم تبعدنا عن الله. أما حياة الألم فإنها تقربنا إليه. فتصير صلواتنا أعمق وأكثر، وتصير أصوامنا أكثر روحانية. كما نقترب إلى الله بالتوبة والمصالحة معه، فنرجع إليه.

إن الضيقة التي وقع فيها أخوه يوسف، جعلتهم يتذكرون خطيئتهم إليه “وقالوا بعضهم لبعض: حقًا إننا مذنبون إلى أخينا، الذي رأينا ضيقة نفسه لما استرحمنا ولم نسمع له. لذلك جاءت علينا هذه الضيقة.. فهوذا دمه يطلب (منا)” (تك 42: 21، 22).

حتى سقوط الناس في الخطية كان يؤول بالتوبة إلى خير.

عاش أوغسطينوس في الخطية زمنًا طويلًا، بكت عليه فيه أمه القديسة مونيكا..

ثم تاب أغسطينوس، وكان من نتائج حياته الأولى كتابة الرائع عن اعترافاته، وهو كنز روحي، وسبب منفعة روحية للملايين، يعرفنا كيف يعترف الإنسان علنًا، ويعترف حتى بخطاياه وهو طفل رضيع..

وبالمثل يمكن أن نتحدث عن خطية داود النبي.

كيف أوصلته الخطية إلى حاله عجيبة من انسحاق النفس، قال فيها “ابلل في كل ليله سريري. بدموعى أبل فراشي” (مز 50). وكيف اعترف إلى الرب قائلًا “لك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت.. قلبًا نقيًا أخلق في يا الله وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي”.. إلى ما حواه المزمور الخمسون، مزمور التوبة وما حوته باقي مزاميره من مشاعر الانسحاق.. كان ملكًا عظيمًا، محترمًا ومبجلًا من الكل. ولكن الخطية أذلته، فقال:

“خير لي يا رب أنك أذللتني، حتى أتعلم وصاياك” (مز 119).

وحينما إهانة شمعي بن جيرا إهانة مؤلمه، وهو هارب من أبشالوم، لم يمسح لأنصاره أن ينتقموا من هذا الإنسان، بل قال في اتضاع “دعوة يسب. لأن الرب قال له: سب داود.. لعل الرب ينظر إلى مذلته” (2 صم 16: 10).

وبالمثل ما استفاده خاطئ كورنثوس من خطيئته وعقوبته.

كم أوجد فيه ذلك من الحزن والبكاء، حتى أن القديس بولس الرسول في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس، أمرهم أن يمكنوا له المحبة “لئلا يُبْتَلَع مثل هذا من الحزن المفروض” (2 كو 52: 7).. وكان درسًا للمدينة كلها في أن “يعزلوا الخبيث من وسطهم” (1 كو 5: 13).

سقوط إنسان في خطية، تدعوه إلى الشفقة على الذين يسقطون.

لأنه قد أدرك بالخبرة، قوة حروب الشياطين وسهوله السقوط في الخطية التي “طرحت كثيرين جرحي، وكل قتلاها أقوياء” (أم 7: 26). ولذلك يقول القديس بولس “اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم، والمذلين كأنكم أنتم أيضًا في الجسد” (عب 13: 3).

والسقوط أيضًا يكشف للإنسان ذاته وضعفه.

وهذا يؤول إلى الخير، إذ يجعله يكون أكثر حرصًا وتدقيقًا في المستقبل، ويبعد عن التهاون. كما أن اكتشاف ضعفه يعطيه فرصه للرد على كل فكر كبرياء أو افتخار يحاربه فيما بعد.

لذلك عيشوا باستمرار في بشاشة وفرح.

“أفرحوا في الرب كل حين” (في 4:4).

في كل ما يحدث لكم قولوا: أننا تحت رعاية الله محب البشر، الله الذي يحبنا أكثر مما نحب أنفسنا، والذي يعرف خيرنا أكثر مما نعرفه.. الله الذي يسخر جميع الأمور لكي تعمل من أجل خيرنا.. الذي جعل قوانين الطبيعة تعمل معًا للخير، والذي خلق الحيوانات والطيور والنباتات أيضًا لأجل خيرنا. وخلق الهواء والشمس والقمر والنجوم من اجلنا.. كلها تعمل معًا للخير، من أجل راحتنا وسعادتنا.

فلنشكر الله الذي جعل كل الأشياء تعمل معًا للخير، لأجلنا.

الله صانع الخيرات، الذي قيل عن ملائكته “أليسوا جميعًا أرواحًا خادمه، مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب 1: 14). ولأجلنا أيضًا عين الرب رتبًا في الكنيسة “أعطي البعض أن يكونوا رسلًا، والبعض أنبياء، والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلمين. لأجل تكميل القديسين، لعل الخدمة، لبنيان جسد المسيح” (أف 4: 11، 12).

عِش سعيدًا مهما حدث لك. قل: كله للخير.

بهذا يكون إنسان الله خاليًا من كل الأمراض النفسية. خاليًا من الكآبة، والاضطراب، والحزن السيئ، والتعقيد واليأس.. بل باستمرار يملك السلام على قلبه.. السلام القائم على الإيمان بالله وعمله..

ولكن كل ذلك على شروط واضح في الآية، وهو “كل الأشياء تعمل معًا للخير، للذين يحبون الرب” (رو 8: 28).

إذن الشرط هو: أن تكون ممن يحبون الرب.

لأن هناك أناسًا لا تعمل الضيقات معهم للخير: بل ربما الضيقة تسبب له ألوانًا من التذمر والتعب والتجديف واليأس.

هناك أناس لا يحبون الرب المحبة التي تجعلهم يثقون به وبمواعيده وبتدخله وبحلوله. ليس لديهم الإيمان الكافي، لذلك تعصرهم الضيقة، وتجعل نفوسهم متأزمة معقده، تعيش في رعب المشكلة، وليس في حلها.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


11- كلمات في الرجاء 🔗

ليتنا بدلًا من أن ننظر إلى الحاضر المتعب الذي أمامنا، ننظر بعين الرجاء إلى المستقبل المبهج الذي في يد الله.

كل مشكله تبدو معقده أمامنا، لها عند الله حلول كثيرة.

وكل باب مغلق، له في يد الله مفتاح بل مفاتيح عديدة..

هو الذي يفتح ولا أحد يغلق (رؤ 3:7).

الرجاء يمنع الخوف، ويمنع القلق والاضطراب، ويبعث الاطمئنان.

بل أننا نكون “فرحين في الرجاء” (رو 12: 12).

لا ننظر إلى المتاعب مجردة، بدون عمل الله، الذي يقدر أن يحول الشر إلى خير..

الله قادر أن يحول كل مجريات الأمور، في اتجاه مشيئته.

الذي لا يستطيعه الضعف البشري، تقدر عليه قوة الله.

والذي لا تستطيعه حكمه الناس، تقدرون عليه حكمه الله.

ثِق أنك ليست وحدك. أنت محاط بمعونة إلهية.

وقوات سمائية تحيط بك، وقديسون يشفعون فيك.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


12- أنا أريحكم 🔗

كل إنسان في الدنيا له متاعبه الخاصة، سواء كانت متاعب ظاهرة للآخرين، أو مكتومة في القلب، سواء كانت متاعب روحية، أو متاعب نفسية، أو متاعب جسدية، أو متاعب عائلية اجتماعية.

والسيد المسيح قد جاء من أجل التعابَى.

جاء “يطلب ويخلص ما قد هلك” (متى 18: 11). جاء ليخلص العالم من خطيئته كما قال إشعياء النبي “كلنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا” (اش 53: 6) وأيضًا جاء المسيح ليخلص العالم من آلامه ومتاعبه، ولذا قال نفس النبي “لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها (اش 53: 4). وهو أيضًا قال “تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم” (متى 11: 28).

لماذا قال “يا ثقيلي الأحمال؟” ربما لأن الذي حمله خفيف يحتمل ويسكت. أما الذي حمله ثقيل، فليس أمامه إلا أن يقول: يا رب..

المفروض أن نلجأ إلى الرب، سواء كان الحمل ثقيلًا أو خفيفًا. ولكن على الأقل إذا كان الإنسان مضغوطًا جدًا من ثقل أحماله، فلن يجد أمامه سوى وعد الرب بأن يريحه.

تعالوا.. وأنا أريحكم. إنها دعوة ووعد.

دعوة من الله، ووعد إلى عالم تعبان، مثقل بمشاكل من كل نوع: مشاكل الانشقاقات والحروب، ومشاكل الإسكان والتموين، ومشاكل الزواج والطلاق، ومشاكل التطرف والإرهاب، ومشاكل الفساد والإدمان. وفي كل هذه المشاكل، يقول الرب تعالوا إلى يا جميع المتعبين.. وأنا أريحكم.

وهنا نجد صفة جميلة من صفات الرب، وهو أنه مريح.

مريح التعابى والثقيلي الأحمال، كثيرون في متاعبهم يجلسون مع آخرين فيزيدونهم تعبًا على تعبهم. وقد يلجأون إلى البعض، فلا يجدون منهم سوى الإهمال واللامبالاة. لكن المسيح المريح، كل من يلجأ إليه تستريح. إنه دائمًا يعطي. يعطي الناس راحة وهدوًا وعزاءًا، وسلامًا وطمأنينة في الداخل. ويرفع عن الناس أثقالهم، ويحملها بدلًا عنهم ويريحهم. وهكذا يفعل من لهم صورة الله..

قال الرب: ادعني في يوم الضيق، أنقذك فتمجدني (مز 50: 15).

البعض إذا أصابته ضيقة، يظل يغلي بالألم والحزن داخل نفسه. أفكاره تتعبه، ونفسيته تتعبه، وربما اليأس يتعبه. وربما لا يجد أمامه سوى الشكوى أو التذمر أو البكاء. وفي كل ذلك لا يفكر أن يلجأ إلى الله، ولا أن يضع أمامه قول المزمور:

“القي على الرب همك. وهو يعولك” (مز 55: 22).

تعال إذن وكلم الرب عن متاعبك بكل صراحة، سواء كانت تتعبك معاملة الآخرين أو ضغوطهم. أو ظلمهم أو قسوتهم.. أو كانت تتعبك شكوك أو أفكار، أو خطايا، أو عادات مسيطرة عليك، وتأكد أن الرب يعرف متاعبك أكثر مما تعرفها أنت ويريد أن يخلصك منها جميعًا. فاطلبه في رجاء وثقة، واضعًا أمامك قول المزمور:

“يستجيب لك الرب في يوم شدتك. ينصرك اسم إله يعقوب” (مز 20: 1).

وثِق أن الكنيسة أيضًا تصلي من أجلك، حينما تقول في آخر صلاة الشكر “كل حسد وكل تجربة، وكل فعل الشيطان، ومؤامرة الناس الأشرار، وقيام الأعداء الخفيين والظاهرين انزعها عنا وعن سائر شعبك”.. كذلك تذكر كل متاعبك في صلوات القداس الإلهي.

تأكد أيضا أن الضيقات ليست لونًا من التخلي.

فالله سمح أن رسله وقديسيه تصيبهم الشدائد، ولكنه كان واقفًا إلى جوارهم يريحهم.. وهكذا قال القديس بولس الرسول عن نفسه وعن زملائه في الخدمة “مكتئبين في كل شي، لكن غير متضايقين. متحيرين لكن غير يائسين، مضطهدين لكن غير متروكين..” (2 كو 8، 9).

نعم، ما أكثر متاعب الناس.. والمسيح مستعد أن يريحهم جميعًا.

هناك شخص يتعبه الآخرون. وهناك من تتعبه نفسه. كإنسان مغلوب من شهواته، أو مغلوب من طباعه، أو من عاداته. أو تعبان من أفكاره وضغطها عليه ويريد أن ينتصر على نفسه ولا تستطيع.. هذا يستند على قول الرب “تعالوا إلى يا جميع المتعبين.. وأنا أريحكم”.

وهناك إنسان تتعبه الخطية ولا يستطيع فكاكًا منها..

كلما يتوب، يرجع فيخطئ مرة أخرى. ومهما اعترف بخطية، يعود إليها ويكرر اعترافاته. يضع لنفسه تداريب روحية، ولكنه لا يثبت فيها. يحاول أن يغصب نفسه على حياة البر، ومع ذلك فلا يزال يحيا في الخطية. خطيته هي هي منذ سنوات، وطبعه الرديء هو هو، ولا تحسن! إنه مغلوب وساقط. تكاد الخطية أن تصبح طبيعة له. وقد لجأ إلى الآباء والمرشدين الروحيين، وإلى القراءات وأقوال الآباء القديسين وسيرهم، ولا فائدة. هذا الإنسان ليس أمامه سوى قول الرب: “تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


13- فشل الالتجاء إلى غير الله 🔗

لماذا تجعل الرب آخر من تلجأ إليه. ابدأ به حتى تصل ولا تضل. هوذا الرب يعاتبنا قائلًا:

“تركوني أن ينبوع المياه الحية. وحفروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا مشققة لا تضبط ماء” (ار 2: 13).

نعم، كثيرون يلجأون إلى الآباء المشققة، سواء من جهة الآخرين أو أنفسهم. يقع أحدهم في مشكلة. فيحاول أن يحلها بذكائه الخاص وتفكيره، بحيله وتدبيره. أو يلجأ إلى الآخرين لكي يسندوه في مشكلته. ولا ينتفع من كل ذلك شيئًا، لأنه لم يلق همه على الله وحده وهو يعوله. لم يطلب المسيح لكي يريحه. إنه يحاول الاعتماد على الذراع البشري! ويتجاهل قول الرب “تعالوا إلي”.. لذلك يفشل ويبقي في مشاكله بلا حل. آخاب الملك اشتهي شهوة. أشتهي حقل نابوت اليزرعيلي. ولم يلجأ إلى الله، بل لجأ إلى إيزابل، فضيعته. أسند رأسه المتعبة على إيزابل فضاع.

كذلك شمشون أسند رأسه المتعبة على دليل، فضاع!

ولم يحدث أن أحدًا منهما وجد حلًا.. كذلك اليهود لما لجأوا إلى فرعون، لكي يخفف عنهم تعبهم، لم يخففه، بل أزاد أثقالهم، قائلًا لهم: “متكاسلون أنتم متكاسلون” (خر 5: 17). ولما لجأ الشعب إلى رحبعام ليخفف عنهم نير سليمان أبيه، أجابهم “أبي أدبكم بالسياط وأنا أؤدبكم بالعقارب” (1 مل 12: 14).

إن الذراع البشري ليس هو الذي ينقذ الإنسان. إنما الذي ينقذه هو الله.

لذلك ارفع بصرك إلى الله وقل له “كل حملي سألقيه عليك، ولا أعود أفكر فيه ثانية، أنت الذي تحله، لأنك أنت حلال المشاكل وليس غيرك. وكلما ألجأ إلى غير تزداد مشاكلي وتتعقد..

عجيب أن البعض يحاول مشاكله بخطايا!

هناك من يحاول أن يحل المشكلة بالكذب، وأحيانًا يقول إنه كذب أبيض! أو قد يلجأ إلى المكر وإلى الدهاء. بل قد يحاول في بعض الأوقات أن يحل مشكلته بالعنف أو قد يهرب من مشكلته بتعاطي الخمر أو المخدرات لكي ينساها، أو قد يلجأ إلى المسكنات والمنومات، أو إلى التدخين. وكل ذلك لا يحل مشكلته، بل يضيف إليها مشكلة أخرى وأسوأ من ذلك يلجأ إلى السحرة والعرافين والدجالين.

والبعض قد يحاول حل مشكلته بالوهم وأحلام اليقظة.

فيجلس ويتخيل أنه قد صار وصار.. وإذا لا يعجبه الواقع، يحاول على الأقل أن يتلذذ بالخيال! ويقول لنفسه: إن لم أنل النجاح. فعلي الأقل أحلم به! وإن استيقظت من أحلامي، أنام مرة أخرى لأحلم بها..! ولكن أحلام اليقظة لا تحل مشاكله التي تظل باقية. إنما يحلها قول الرب “تعالوا إليَّ وأنا أريحكم”.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


14- الله هو حَلاَّل المشاكل 🔗

هناك أشخاص لم يكن لهم حل سوى الله. مثال ذلك: الثلاثة فتية، حينما ألقوا في أتون النار. ويونان النبي حينما كان في جوف الحوت. ودانيال النبي حينما ألقوه في جب الأسود. حقًا من كان ينقذ كل هؤلاء سوى الله وحده؟! الذي أرسل ملاكه فسد أفواه الأسود (دا 6: 22)، وأمر الحوت فقذف يونان إلى البر (يون 2: 10). ولم يسمح للنار أن تؤذي الفتية.

كذلك تدخلت يد الله في المشكلة الأريوسية..

لقد قامت الكنيسة كلها على أريوس الهرطوقي. حرمه المجمع المسكوني، ورد عليه القديس أثناسيوس. ولكنه استمر يشكك الناس في الإيمان، ويلجأ إلى سلطة الإمبراطور لحمايته فأمر بإرجاعه. والتفت الرب إلى الكنيسة قائلًا: “تعالوا إليَّ وأنا أريحكم”. وأقيمت الصلوات، فانسكبت أحشاء أريوس، ومات..

كذلك فعل الله مع جيش سنحاريب، ومع فرسان فرعون.

حزقيا الملك مزق ثيابه وتغطي بمسح، ودخل بيت الرب، ملقيًا همه عليه فخرج ملاك الرب وضرب من جيش أشور 185 ألفًا (2 مل 19: 1، 35). وأغرق الرب فرعون وفرسانه في البحر الأحمر. ذلك لأن موسى النبي قال للشعب “قفوا وانظروا خلاص الرب.. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون” (خر 14: 13، 14).

حقًا: حينما تفشل جميع الحلول، يبدو حل الله واضحًا. والرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون.

إنه أمين في قوله “أنا أريحكم”. ما أجمل الترتيلة التي تقول “لما أكون تعبان أروح لمين غيرك”.. بنفس الوضع أراح الرب الكنيسة من ديوقلديانوس الذي سفك دماء آلاف الشهداء بل دماء مدن بأسرها، كشهداء أخميم وشهداء إسنا. وأرواحنا الله من دقلديانوس، وجاء قسطنطين بمرسوم ميلان للتسامح الديني.. وأرواح الله الكنيسة من اضطهاد شاول الطرسوسي لها. وحوله بنعمته إلى أقوى كارِز بالمسيحية فصار بولس.

ولا ننسى أيضًا كيف أراح الله داود النبي من شاول الملك الذي كان يطارده من برية إلى أخرى..

إن حلول الله هي أقوى الحلول وانجح الحلول. فعلينا أن نلجأ إليها ونتمسك بها.

يعقوب أبو الآباء، كان خائفًا من أخيه عيسو، وعاجزًا عن ملاقاته، ولكنه عندما تمسك بالرب وقال له “لا أتركك حتى تباركني” (تك 32: 26)، “نجني من يد أخي، من يد عيسو، لأني خائف منه أن يأتي ويضربني، الأم مع البنين (تك 32: 11). حينئذ ركض عيسو للقائه وعانقه وقبله باكيًا (تك 33: 4).

وأنت إن استطعت أن تغلب في صراعك مع الله -كيعقوب- لابد سيريحك من كل متاعبك.

لقد تعب سمعان بطرس الليل كله ولم يصطد شيئًا. ولكنه لما تلاقي مع الرب وعلى كلمته ألقي الشبكة، حينئذ اصطاد سمكًا كثيرًا حتى كادت الشبكة تتخرق (لو 5: 4-6). والمرأة الخاطئة حينما أمسكت بقدمي المسيح وبللتهما بدموعها، أمكنها أن تتخلص من خطاياها، وتنال المغفرة. وما كان ممكنًا، لولا ذهابها إليه.

المهم أن تأتي إلى الله ولكن كيف تأتي؟


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


15- كيف تأتي إلى الله 🔗

1- تأتي بقلب منسحق، مثلما أتى الابن الضال 🔗

إنه كان في الكورة البعيدة يعيش في تعب. ثم فكر أن يأتي إلى أبيه ليستريح فأتى إليه بقلب منسحق يقول: “أخطأت إلى السموات وقدامك، ولست مستحقًا أن أدعي لك ابنًا” (لو 15: 21). وبهذا الانسحاق قلبه أبوه، وأقام له وليمه فرح وألبسه الحلة الأولى، وجعل خاتمًا في يده.. بينما أخوه الأكبر خسر الموقف، لأنه رفض أن يأتي، وتكلم مع أبيه بكبرياء قلب.

لا تأت إلى الله متكبرًا، تقول له: لماذا تتركني وتضطهدني.

ولا تنسب إلى الله كل أسباب مشاكلك، غير معتقد أنك أنت السبب، بل تنسب السبب إلى تخلي الله عنك!! إنما تعال إليه منسحقًا، لكي تصطلح معه. وكما قال أحد الآباء:

اصطلح مع الله، تصطلح معك السماء والأرض.

إذن لا تأت إليه فقط لكي يريحك من أتعابك ويحل لك مشاكلك، إنما تعال أولًا لكي تصطلح معه. فربما يكون السبب الأصلي في مشاكلك، أنك في خصومة مع الله وإن طرقك لا ترضيه.. ويقول لك الله: أنا مستعد أن أريحك، إنما المهم أن تترك الطريق الخاطئ الذي تسير فيه. وكما يقول:

ارجعوا إلي، أرجع إليكم، قال رب الجنود (ملا 3: 7).

2- إذن تعال إليه تائبًا، لكي تصطلح معه 🔗

وحينما تصطلح مع الله. تجد الدنيا كلها قد اصطلحت معك، ويعطيك الرب سلامًا وراحة في قلبك. يعطيك هدوءًا داخليًا، وثقة وطمأنينة. وغالبًا ما يكون سبب تعب الإنسان، هو شيء في داخله يتعبه. هنا يعجبني قول القديس يوحنا ذهبي الفم:

لا يستطيع أحد أن يضر إنسانًا ما لم يضر هذا الإنسان نفسه.

فمن الجائز أن يكون سبب متاعبك، هو أنك تضر نفسك، فإذا ما اصطلحت مع الله وأتيت إليه تائبًا، ستتخلص من ضررك لنفسك، وتكون راحتك سهله وممكنه.

3- كذلك ينبغي أن تأتي إلى الله، بالإيمان، وبالصلاة 🔗

كثيرون يأتون إلى الله، ولكن ليس عندهم إيمان أن الله سيحل مشاكلهم! ويصلون وهم لا يحسون إن الصلاة ستكون لها نتيجة. وهكذا يستمرون في تعبهم بسبب عدم إيمانهم، وبسبب فقدانهم للرجاء والثقة بالله.

لقد قال السيد المسيح للمرأة الخاطئة التائبة “إيمانك خلصك، فاذهبي بسلام (لو 7: 50) وقال للأبرص الذي شفي “قم وأمض.. إيمانك خلصك” (لو 17: 19). وقال للأعمى المستعطي في أريحا “أبصر إيمانك قد شفاك” (لو 18: 42) وقال للأعميين “بحسب إيمانكما. لذلك تعال إليه بإيمان، واثقًا أنه سيريحك، وحينئذ ستستريح..

4- تعال إليه أيضًا، وأنت تحمل نيره عليك 🔗

فهو الذي قال “احملوا نير عليكم، وتعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم” (متى 11: 29). إذن احمل صليبك واتبعه. وحينما تأتي إليه في مشاكلك، لا تأت متذمرًا متضجرًا، بل تعال في حياة التسليم، خاضعًا لمشيئته، متذكرًا قول الرسول:

“واحسبوه كل فرح يا أخوتي، حينما تقعون في تجارب متنوعة” (يع 1: 2).

بهذا لا يضغط عليك التعب، لأن قلبك سليم من الداخل. لم تستطيع المتاعب التي في الخارج أن تتعب القلب من الداخل مملوء بالسلام والطمأنينة وبالفرح، حتى في وسط الضيقات..

فإن لم يكن لك هذا الشعور، أطلبه من الله.

وهو الذي يهبك السلام، لأنه هو الذي قال “سلامي أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم” (يو 14: 27). أن من ثمار الروح “محبة وفرح وسلام” (غل 5: 22). فإن كانت لك ثمار الروح هذه، ستحيا دائمًا مستريحًا.

5- ادخل إذن في شركة الروح القدس، ولتكن لك ثمار الروح، وتعال إلى الله هكذا، تجد راحة لنفسك 🔗


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


16- يريد الجميع يخلصون 🔗

قد يفقد الإنسان رجاءه في الخلاص، لأن أعداءه قد اعتزوا أكثر منه، ولا قدرة له على مقاومتهم، سواء في ذلك أكانوا أعداءه الروحيين، أو مضايقيه في هذا العالم. وهو خلال ذلك يصرخ “إن الغرباء قد قاموا علي، والأقوياء طلبوا نفسي، ولم يسبقوا أن يجعلوا الله أمامهم” (مز 53) “ضاع المهرب مني، وليس من يسأل عن نفسي” (مز 141).

أو قد يفقد خاطئ رجاءه في التوبة، لأنه لا يقدر على الوصول إليها، أو بالأكثر لا يريدها..!

ولكننا نقول لكل واحد من هؤلاء وأمثالهم:

لا تفقد رجاءك. فإن الله يهتم بخلاصك أكثر مما تهتم أنت.. بل هو الذي يسعى لخلاصك. وهذا هو أسلوب الله منذ البدء..

بدأ قصة الخلاص منذ أيام أبوينا الأولين آدم وحواء. لقد سقط الاثنان في الخطية، واستحقا حكم الموت. وكان الخلاص لازمًا لهما جدًا. ومع ذلك نرى أن الله نفسه هو الذي سعي لكي يخلصهما..

لا آدم طلب الخلاص. ولا حواء، بل هربا كلاهما من وجه الله، واختفيا خلف الأشجار..!

ما كان الهروب وسيلة عمليه تؤدي إلى الخلاص. ولكن الخلاص لم يكن يشغلهما في ذلك الحين. وكل ما كان يشغلهما هو الخوف والخجل.. ما سمعنا قط أن آدم قال لله: يا رب اغفر، يا رب سامح. أخطأت إليك، فامح ذنبي.. ولا حواء قالت شيئًا من هذا.. ولعل هذه الألفاظ لم تكن في قاموسهما الروحي في ذلك الحين..

وفيما هما لا يبحثان عن خلاص نفسيهما، كان الله يبحث عنهما..

كان ينادي في الجنة “يا آدم، أين أنت؟” (تك 3: 9). كان الله هو الذي يفتش عن آدم وحواء، وهو الذي يفتح الموضوع، ويستدرجهما إلى الكلام ويشرح لهما ما وقعًا فيه من خطأ، وما يستحقانه من عقوبة. ثم يقدم لهما أول وعد بالخلاص، وهو أن نسل المرأة سوف يسحق رأس الحية (تك 3: 15).

صدقوني، لو أن الله ترك الإنسان إلى حريته وحده، أو إلى قدرته وحده.. ما خلص أحد على الإطلاق..!

ولكن الله هو الذي يسعى وراء خلاص الكل.. كما أعطانا مثلًا عن سعيه وراء الخروف الضال، ووراء الدرهم المفقود (لو 15).

كان الخروف سائرً في ضلاله، لا يدري أين هو، وربما لا يدري ما هو فيه وفيما هو كذلك كان الراعي الصالح مهتمًا بخلاصه. الراعي هو الذي اكتشف ضياع هذا الخروف، وهو الذي بحث عنه وفتش، وجرى وراءه في الجبال والوديان إلى أن وجده. لعلها كانت مفاجأة له، حينما وجد راعيه أمامه، يأخذه في حنان، ويحمله على منكبية فرحًا. حقًا ما أجمل قول الوحي الإلهي عن الرب كراع:

“أنا أرعَى غنمي وأربضها -يقول السيد الرب- وأطلب الضال، واسترد المطرود، وأجبر الكسير، واعصب الجريح..” (حز 34: 15، 16).

هو الذي يطلب ويسترد، وهو الذي يجبر ويعصب. العمل، وليس عملنا نحن.. أليس هذا أمرًا يبعث الرجاء في النفس؟

وفي مثال الدرهم المفقود، نرى نفس الوضع، وبأسلوب أعمق:

الدرهم لا يملك حياة، ولا عقلًا ولا فكرًا ولا إرادة.. ولا يدري إلى أين هو قد تدحرج، وأين استقر به الأمر. وأيضًا لا يعرف كيف يرجع إلى كيس صاحبه أو جيبه..

وقد كان الدرهم المفقود رمزًا إلى كثيرين من نوعه..

كان رمزًا لكثيرين ممن لا حياة لهم ولا إرادة.. وكان رمزًا أيضًا للضآلة.. فلو أن الأرملة كانت فقدت مائه جنيهًا ذهبًا، لكان من المعقول أن تبحث عنها وتفتش أما مجرد درهم واحد ينال منها كل ذلك الاهتمام، فهو أمر يدعو إلى التأمل، ويضع أمامنا عمقًا في الرجاء وهو:

إن الله يبحث عن خلاصك، مهما بدا قدرك ضئيلًا!

لقد ضرب الله لنا مثل الدرهم لنعرف قيمة النفس عنده.

لأنه قد يسأل بعضهم ما قيمة هذا الدرهم الضئيل، حتى يصير هذا البحث الجاد عنه، وهذا الفرح وهذه الوليمة عند العثور عليه؟! إن كل هذا رمز لاهتمام الرب بالنفس الواحدة، مهما كانت تبدو ضئيلة الشأن. ويعبر المثل عن سعي الله لخلاصنا حتى لو لم نسع نحن، وفرحة بخلاصنا وفرح الملائكة أيضًا.

ألست أنت عند الله أفضل من درهم واحد مفقود؟!

ثِق أن نفسك ثمينة في نظرة الله إليها، مهما كانت تبدو ضئيلة في نظر الناس، أو في نظرك أنت.. مثل المرأة السامرية التي سعي الرب لخلاصها، وهي محتقرة في نظر الناس.. ومثل زكا العشار الذي ذهب الرب إلى بيته، وهو في نظر الكل رجل خاطئ لا يستحق (لو 19: 7).

حقًا أن الرب يسعى لخلاصنا، ويفرح بذلك جدًا..

كما أخذ الخروف الضال، “وحمله على منكبيه فرحًا” (لو 15: 5)، وكما قال إنه “يكون فرح في السماء بخاطئ وحد يتوب” (لو 15: 7)، وكما فرح برجوع الابن الضال، وذبح له العجل المسمن، وكما فرح بالعثور على الدرهم المفقود (لو 15: 23، 9). إنه يسعى لخلاصنا أكثر مما نفتش نحن عن أبديتنا. وما أجمل ما قاله الرسول عنه إنه:

“يريد أن الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون” (1 تي 2: 4).

وقيل عنه أيضًا إنه لا يشاء موت الخاطئ، بل أن يرجع ويحيا (حز 18: 23). ونقول عنه في آخر كل صلاة من صلوات الأجبية: “الداعي الكل إلى الخلاص من أجل الموعد بالخيرات المنتظرة”..

إن عمل الله ليس فقط أن يفرح بتسبيح السارافيم، أو بنقاوة الملائكة، أو بكرازة الرعاة، أو بجهاد القديسين، إنما هو يفرح بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون إلى توبة (لو 15: 7).


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


17- يَطْلُبَ مَا قَدْ هَلَكَ 🔗

لا تفقد الرجاء إذن مهما ضللك، لأنه هناك درجة أبشع كثيرًا من الضلال قد جاء الرب لخلاصها، كما قال عن نفسه إنه:

“جاء يطلب ويخلص ما قد هلك” (لو 19: 1).

يخلص من؟ ليس مجرد الضعيف أو الخاطئ أو المتواني أو المريض.. وإنما “ما قد هلك”..! ليس فقط من هو في طريق الهلاك، إنما ما قد هلك..!! أي رجاء أعظم من هذا أن الرب “جاء يطلب ويخلص ما قد هلك”.. ولم يقل “ويخلص الطالبين..” إنما هو الذي يطلب.. الذي يسعى لخلاص كل أحد..

إذن حتى الذي هلك، مازال له رجاء في الخلاص!

نعم بلا شك. إن المسيح قد جاء ليخلص هذا الهالك وأمثاله. جاء يخلص الموتى بالخطايا (أف 2: 5).

لا يقل أحد إذن، مهما حدث منه، ومهما حدث له: أنا انتهيت، أنا ضعت وليست هناك فائدة مني، ولا وسيلة لخلاصي..! اطمأن فحتى إن كنت قد هلكت فعلًا، فاعلم أن باب الخلاص لا يزال مفتوحًا أمامك، والرب قد جاء يطلب ويخلص ما قد هلك..

وهب الله رجاء للمجدلية التي كان عليها سبعة شياطين.

وعندما قام من الأموات، يقول مرقس الإنجيلي إنه “ظهر أولًا لمريم المجدلية التي كان قد أخرج منها سبعة شياطين” (مر 16: 9). ولما أراد أن يبشر رسله القديسين بقيامته، اختار هذه بالذات لكي تبشرهم!! ونحن لا ندري هل كان عليها سبعة شياطين فقط أم رقم سبعة هنا له معني رمزي يدل على عدد كبير من الشياطين!!

ولكن ماضي المجدلية قد نُسِيَ، وقد أصبحت مبشرة للرسل! يا للعجب! أليس هناك رجاء لك من خلال قصة هذه المرأة العجيبة؟!

حقًا أنظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار (متى 18: 10).

سواء الصغار في سنهم، أو في روحياتهم، أو في نوعيتهم، أو أصحاب الماضي الويل الأثيم. لا تحتقروا لأحدًا. ولا تصغر نفس أحد إن كان واحدًا من هؤلاء ولا يفقد رجاءه.

صدقوني، أن الله في اليوم الأخير سيرتبنا ترتيبًا آخر غير الذي نحن عليه الآن..

ترتيبنا في العالم الحاضر هو حسب السن أو المركز أو الدرجة، أو المواهب والقدرات.. أما في الأبدية فسيكون حسب القلب الذي يعرفه الله. وربما كثير من الصغار هنا، ومن المزدري وغير الموجود، يسبقون أصحاب الدرجات والواهب وأصحاب المناصب والرئاسات. فلا تحتقروا إذن أحد هؤلاء الصغار.

ولما أراد الله خلاص أريحا، اختار راحاب الزانية (يش 2).

ودخلت راحاب في شعب الله، كما دخلت في سلسلة الأنساب (متى 1) وصارت قديسة، ونسي لهال ماضيها. وصارت صورة حية للرجاء لكل من يتذكرها.

ولعلك تسأل: ما معني اهتمام الله بامرأة زانية، وبأخرى كان عليها سبعه شياطين؟! أقول لك إنه نفس اهتمامه بالأشياء الصغيرة، بالمزدري وغير الموجود (1 كو 1: 28).

إن قصة “المَدوسَة بدمها” في سفر حزقيال، تعطي رجاء للكل..

قال عنها الكتاب إنها كانت عريانة وعارية، ومطروحة على الحقل بكراهة نفسها، وأنها كانت مدوسة بدمها.. فهل تركها الله هكذا؟ كلا، إنه يقول لها وهي في هذه الحالة السيئة:

“مَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ، وَإِذَا زَمَنُكِ زَمَنُ الْحُبِّ”.

أي حب يا رب لهذه المكروهة، العارية من كل فضيلة، المطروحة على الحقل؟! نعم إن الله أحبنا ونحن خطاة، ولهذا بذل نفسه عنا، ومات لأجلنا، البار من أجل الأثمة. وماذا عن هذه الأثيمة الخاطئة؟ يقول لها “مررت بك”، وليست هي التي ذهبت إليه. وماذا أيضًا؟ يقول:

“فَبَسَطْتُ ذَيْلِي عَلَيْكِ وَسَتَرْتُ عَوْرَتَكِ”. غطي الخطية ولم يحتقر صاحبتها..

“وَدَخَلْتُ مَعَكِ فِي عَهْدٍ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، فَصِرْتِ لِي”..

وفي هذا العهد، منحها الرب الكثير من نعمة الروحية. يقول:

“فحممتك بالماء” يعني المعمودية، حيث غسلها من كل خطاياها.

“ومسحتك بالزيت” يعني الميرون، فنالت المسحة المقدسة، مسحة الروح القدس.” وألبستك مطرزة، وكسوتك برًا” (أي البر الجديد الذي نالته).

وماذا أيضًا؟ يقول: “وجملت جدًا جدًا، فصلحت لمملكة” أي للملكوت.

“وخرج لك اسم في الأمم لجمالك، لأنه كان كاملًا ببهائي الذي طرحته عليك، يقول السيد الرب” (حز 16: 14).

عجيب حقًا هو الله الحنون هذا، الذي يطرح بهاءه على هذه المدوسة بدمها المكروهة، فتصير كاملة الجمال، وتصلح لمملكة وتدخل في عهد مع الله، وتنال من كل نعمة، بل يقول لها: “وتاج جمال على رأسك” (حز 16: 12).

أليس كل هذا يعطينا درسًا عجيبا في الرجاء..؟

ليس المهم ما نحن فيه، إنما ما يصيرنا الرب إليه.. وفي قصة هذه الخاطئة، التي ترمز لأورشليم كلها، كان الرب يعمل كل شيء. ولو تركها لنفسها لضاعت، واستمرت في عبادة الأصنام. ولكن مناخس الرب كانت تحرك الضمير باستمرار وتقوده إلى التوبة. ولعل هذا الأمر يذكرنا أيضًا بقصة شاول الطرسوسي.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


18- مثال شاول الطرسوسي 🔗

هل شاول الطرسوسي بحث عن المسيح، أم بحث المسيح عنه؟

كان شاول “مجدفًا ومضطهدًا للكنيسة ومفتريًا” كما قال عن نفسه (1 تي 1: 13) وكان يسطو على الكنيسة، وهو يدخل البيوت ويجر رجالًا ونساء ويسلمهم إلى السجن” (أع 8: 3). ولكن الله كان يفكر في خلاص شاول، وفي استخدام مواهبه للخير، فظهر له في الطريق دمشق، ودعاه.

إن شاول لم يطلب الإيمان. وفي يوم لقائه بالرب، لم يكن شاول يرتب لهذا اللقاء ولم يفكر فيه، ولا طرأ على ذهنه..

ولكن الله هو الذي سعي إلى شاول، وطلبه وخلصه ودعاه.

إن في تحول شاول الطرسوسي مضطهد الكنيسة إلى أعظم رسول في المسيحية، وتعبه لأجل الكلمة، لهو درس عظيم في الرجاء أمام كل من هم بعيدين عن الرب.

لعل مثله أريانوس والي أنصنا، أكثر ولاة مصر عنفًا في قتل الشهداء وتعذيبهم، وكيف أمكن أن يتحول هو نفسه إلى شهيد.. بعمل الرب فيه ولأجله..

في سعي الله لخلاصنا، نذكر أيضًا قصة عذراء النشيد.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


19- مِثال عذراء النشيد 🔗

كانت نائمة ومسترخية، وقد تعطرت وتطيبت، خلعت ثيابها، وغسلت رجليهما، ونامت. وصوت حبيبها يسعى إليها من بعيد “ظافرًا على الجبال، قافزًا على التلال يقول لها: “قومي يا حبيبتي وجميلتي وتعالي” (نش 2: 10). بل هو يقف على بابها يقرع: “افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي، لأن رأسي قد امتلأ من الطل، وقصصي من ندي الليل” (نش 5: 2).. أي سعي من الرب أكثر من هذا، وأي انتظار في إلحاح على طلب النفس، أكثر من رأسه تمتلئ من ندي الليل. إنه درس في الرجاء لكل نفس نائمة، لا تطلب الله، بل تهتم بذاتها وراحتها..!

الله هو الواقف على الباب، وهو الذي يقرع..!

وهو إلى يقول في كل حين “هانذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه معه وهو معي” (رؤ 3: 10). إن الله الطيب الذي لم يتركنا حتى في تكاسلنا وإهمالنا وبعدنا عنه في حياة التراخي واللامبالاة، وإنما بلغ من فرط محبته أنه:

سعَى حتى إلى العشارين والخطاة، وجلس على موائدهم، ليجذبهم إليه!

إنه يسعى إلى كل هؤلاء، وينزل إليهم لكي يرفعهم إليه، ويقول إن هؤلاء، وينزل إليهم لكي يرفعهم إليه، ويقول إن هؤلاء أيضًا أبناء لإبراهيم (لو 19: 9). بل إن من أجل الآيات في هذا المجال، هي قوله عن نفسه إنه: “جاء يطلب ويخلص ما قد هلك” (لو 19: 10)..

وسعي الله لخلاصنا، ترمز إليه قصة الخليقة:

تحكي لنا الآيات الأولى من سفر التكوين أن “الأرض كانت خربة وخاليه” وكانت مغمورة بالمياه “وعلي وجه الغمر ظلمة” (تك 1: 2). صورة كئيبة بلا شك. ولكن الله لم يترك الأرض الخربة هكذا، وإنما “كان روح الله يرف على وجه المياه”. ثم قال الله ليكن نور فكان نور.. وبدأ الله ينظم هذه الأرض، ويمنحها حياة وجمالًا، ويخلق فيها الأشجار والأزهار والأطيار، ووضع قوانين الفلك بما فيه من شمس وقمر، ونجوم وكواكب.. ثم خلق الإنسان. وصارت الأرض جميلة وعامرة بالحياة..

وفي كل هذا يعطي الرب رجاء لكل أرض خربة تغمرها المياه..

لا تيأس مهما وصلت المياه إلى نفسك، فروح الله يرف على وجه المياه. ولا تيأس مهما غمرتك الظلمة، فلا بد سيأتي الوقت الذي يقول فيه الله: ليكن نور..

لذلك ليكن لك رجاء مادام الله يسعى بنفسه لخلاصك.

إن البشرية عاجزة عن تخليص نفسها. وما لا تستطيع أن تفعله من أجل خلاصها، يعمله الرب من أجلها..

أليست هذه هي قصة التجسد والفداء في صميم مفهوما اللاهوتي: الله بنفسه يسعى لخلاص البشر، ويقدم لهم الكفارة والفداء. أو ليس هو أيضًا الذي أرسل الأنبياء والرسل لهذا الغرض، لكي ينادوا داعين الجميع: “اصطلحوا مع الله” (2 كو 5: 20). ومن أجل هذا أيضًا أرسل لنا الوحي الإلهي في الكتب المقدسة القادرة أن تحكمنا للخلاص (2 تي 3: 15).


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


20- زيارات النعمة للجميع 🔗

إن (زيارات النعمة) تمر على البيوت الجميع، ولم تغفل أحدًا، بل كل خاطئ كان له نصيب منها..!

قيل عنه إنه كان يجول يصنع خيرًا (أع 10: 38) يفتش عن النفوس الضائعة، مهما كانت حالتها تدعو إلى اليأس. وهنا نقول قاعدة هامة وهي:

إن الله لا ييأس مطلقًا من خلاص الناس، مهما يئسوا هُم..

الله دائمًا يعمل، ويعمل مع الكل. ليس فقط مع المريض روحيًا، وإنما حتى مع الميت الذي قد أنتن (يو 11: 39)، حتى مع اللص في آخر ساعات حياته على الأرض (لو 23: 43)، حتى مع رئيس العشارين، زكا..! ومع السامرية التي عاشت مع خمسة (أزواج)!! (يو 4: 18).

وهو يبحث عن هذه المرأة الضائعة، ويجذبها إلى التوبة..

هو الذي ذهب إلى البئر حيث تستقي. وهو الذي دبر المقابلة بحكمته، ورتب موعد اللقاء. وهو الذي جر الحديث معها، وكلهما عن الماء الحي، وهو الذي فتح الموضوع وشجعها على الاعتراف وهو الذي نطق باعترافاتها الصعبة حتى لا تحرج، وقبل منها مجرد الموافقة ولم يبال في كل ذلك بأن اليهود لا يعاملون السامريين” ولا بأن تلاميذه “كانوا يتعجبون من أنه يتكلم مع امرأة” (يو 4: 9، 27).

حقًا كما قال القديس يوحنا ذهبي الفم عن محبة الله:

إن الله يجول ملتمسًا لخلاصنا، ولو دمعة تسكبها.. يأخذ هل الله -قبل أن يخطفها شيطان المجد الباطل- ويجعلها سببًا لخلاصك.. حقًا أنه لا يوجد أحن من قلب الله علينا.. أحن منا على أنفسنا! إنه هو الذي قال: “بسطت يدي طول النهار إلى شعب معاند ومقاوم” (رو 10: 21، أش 65: 2) حتى إلى هذا الشعب المتمرد السائر وراء أفكاره، بسط الله يده، طالبًا خلاصه..! ولعل هذا يذكرنا بمثل الزارع.

لقد قبل الرب دموع المرأة الخاطئة، وقال لها مغفورة لك خطاياك. وقال للمتكئين إن خطاياها الكثيرة قد غفرت لها لأنها أحبت كثيرًا. وشرح كيف أنها كانت أفضل من الفريسي..

هذه الدموع أمام الله محت كل الماضي الأثيم الذي للمرأة.

لم يذكر لها كل خطاياها القديمة، أمام هذا الانسحاق الحاضر. حقًا ما أجمل قول الرب عن خطايانا “لا أعود أذكرها”.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


21- مثال الزارِع 🔗

الله شبه نفسه بزارع يلقي بِذراه في كل أرض..

لقد ألقي بِذاره على الأرض الجيدة في كل مستوياتها، التي تنتج ثلاثين كالتي تنتج ستين كالتي تنتج مائه. الكل سعي الرب لتزويده بعمل نعمته، بتوصيل كلمه الخلاص إليه.. ولكن ماذا عن الأرض المتحجرة، والأرض المحاطة بالأشواك؟ كل منها أيضًا زارته النعمة. ولكن “من له أذنان للسمع فليسمع” (متى 13: 9)..

الله يسعَى لخلاص الكل. لا يمنع كلمته المحيية عن أحد..

حتى الطريق، وصلته بذار من الرب، وكذلك الأرض التي لم يكن لها عمق. فإن كان الله قد عمل في كل هؤلاء.. فليكن لك رجاء إن الله سيعمل فيك أنت أيضًا، لكي تثمر. وإن لم تثمر، هو “ينقب حولك ويضع زبلًا” (لو 13: 8).. هنا ونقول: ما أجمل تلك العبارات المعزية التي نصليها في القداس الغريغوري “لم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك. ربطتني بكل الأدوية المؤدية إلى الحياة”..

لولا طيبة الله، ما كان يلقي بِذاره حتى وسط الأشواك..

لو أن واحدًا منا في نفس الموقف، لقال لتلك الأرض: “انزعني الشوك منك لكي ألقي بذاري فيك”.. ولكن الله لم يفعل هكذا.. حقًا إن بعض الأراضي استطاع الشوك أن يخنق زرعها. ولكن الله قادر أن ينقي الشوك من كل أرض. هو نفسه ينظفها “ينقب حولها”. لأن كثيرًا من الأنفس لا تستطيع أن تنزع الشوك من حولها، وإنما هي تصرخ مع كلمة الوحي قائلة للرب:

“توبني فأتوب. لأنك أنت الرب إلهي” (أر 31: 18).

وتقول أيضًا مع المرتل: “اغسلني فأبيض أكثر من الثلج، انضح عليّ بزوفاك فأطهر” (مز 50). أنت يا رب الذي تغسلني، وأنت الذي تطهرني. وأنا أقول مع ذلك الأبرص “يا سيد، إن أردت، تقدر أن تطهرني” (متى 8: 2). فيجيب الرب -كما قال لذاك- أريد فاطهر..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


22- الله يصالحنا معه 🔗

الله يريد أن يصالحنا، بكل الوسائل الممكنة..

من أجل ذلك أرسل الله الرسل والأنبياء والوحي الإلهي.. ولماذا أرسل كل هؤلاء؟ يجيب القديس بولس الرسول قائلًا: “الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح، وأعطانا خدمه المصالحة.. إذن نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله” (2 كو 5: 18، 20).

الله الحنون صالحنا لنفسه، ولم يحسب لنا خطايانا..

وفي ذل يقول بولس الرسول أيضًا: “إن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم” (2 كو 5: 19). وكما نقول عنه في خاتمة كل صلاة: “الداعي الكل إلى الخلاص من اجل الموعد بالخيرات المنتظرة”..

والله في صلحه معنا وفي غفرانه، يقدر ضعف طبيعتنا..

يقول المرتل في المزمور: “كبعد المشرق عن المغرب، أبعد عنا معاصينا. كما يترأف الأب على البنين، يترأف الرب على خائفيه “ولماذا؟ “لأنه يعرف جبلتنا يذكر أننا تراب نحن” (مز 103: 12-14). الله ينزل إلى هذا التراب، ويقيم صلحًا معنا واضعًا في اعتباره ضعف طبيعتنا.

صدقوني، أنه يفعل هذا حتى مع الهاربين منه..!

ذكرنا قبلًا، كيف سعي الله إلى آدم وهو هارب منه ومختبئ خلف الأشجار (تك 3: 8). ونضيف مثالًا آخر في قصة يونان النبي.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


23- قصة يونان النبي 🔗

كان يونان النبي هاربًا من الله.. وسعي الله لخلاصه..

لم يرفضه في ثاني مرة، حينما تابت نينوى ورحمها الله، فاغتاظ! وإنما عمل الله على مصالحة يونان وإقناعه بالصواب الذي اغتاظ منه يونان حتى الموت!! (يون 4: 3، 4). انظر حنو الله على يونان في حزنه الذي لم يكن يتفق مع مشيئة الله. يقول الكتاب: “فأعد الرب الإله يقطينة، فارتفعت فوق يونان، لتكون ظلًا على رأسه لكي يخلص من غمه” (يون 4: 6).

إن سفر يونان يعينا مثلا جميلًا عن سعي الله لخلاص البشر:

ما كان أهل نينوى يفكرون في خلاص أنفسهم.

وما كان بحارة السفينة التي ركبها يونان يسعون إلى خلاصهم.

ولا يونان شعر أنه أخطأ وطلب الخلاص لنفسه!

ولكن الله بنفسه سعي لخلاص كل هؤلاء، وخلصهم..

الله هو الذي بدأ. والمبادرة أتت منه. ثم أتت استجابتهم هم لعمله الإلهي مباشرة من بحارة السفينة وأهل نينوى، وبعد إقناع وبعد وقت من جانب يونان النبي..

اجتذب الله أهل السفينة إليه بخطة بارعة..

بالأمواج التي لطمت السفينة حتى كادت تنكسر، وبالخوف الذي أصاب البحارة حتى صرخ كل واحد إلى إلهه، وليس إلى الله الواحد، ثم بعمل الله في القرعة التي ألقوها، وأيضًا باعتراف يونان. ثم بهدوء البحر بعد إلقاء يونان ونجحت الخطية الإلهية مع البحارة “فخاف الرجال من الرب خوفًا عظيمًا، وذبحوا ذبيحة للرب نذورًا” (يون 1: 16).

وكان البحارة قد استخدموا أولًا طرقهم البشرية، فلم تنجح “إذ طرحوا الأمتعة التي في السفينة ليخففوا عنهم “ولكن “البحر كان يزداد هيجانًا “كذلك فإنهم “جدفوا ليرجعوا السفينة إلى البر ففلم يستطيعوا “ولو استطاعوا ما خلصوا إيمانيًا. ولكن الله تدخل بطريقته التي أمكنها أن تخلصهم من البحر وتخلصهم من جهة الإيمان. ونجحت خطة الله في خلاصهم..

واجتذب الرب أهل نينوى، بالإنذار الإلهي، ومناداة يونان.

وما كان أهل نينوى قادرين على خلاص أنفسهم إذ كانوا أمميين بعيدين عن الإيمان، كما أنهم كانوا جهلة “لا يعرفون يمينهم من شمالهم” (يون 4: 11). ولكن انذر الله لهم بأن المدينة ستنقلب وتهلك، أتى بثماره، فخافوا وتابوا وصاموا “ورجعوا عن طريقهم الرديئة، وقلب الله توبتهم”..

وبقي يونان. وخلصه الله أيضًا، على دفعتين..

في المرة الأولى سعي الله لتخليص يونان من عواقب مخالفته وهروبه. واستخدم لذلك الخطر الذي تهدده في البحر. والذي قالبه يونان أولًا بلامبالاة. وكان نائمًا حتى في الوقت الذي صلي فيه كل البحارة الأمميون، لدرجة أن رئيس النوتية وبخه قائلًا: “مالك نائمًا، قم اصرخ إلى إلهك، عسي أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك (يون 1: 6). ثم أكمل الله خطته الإلهية بأنه “أعد حوتًا عظيمًا فابتلع يونان”.

وتخلص يونان من عصيانه، وبقي أن يتخلص من محبته لكرامته.

وفعل الله ذلك بالشمس التي ضربت رأس يونان فذبل، واليقطينة التي ظللت عليه، والدودة التي أكلت اليقطينة، ثم تفهم الله معه.

وهكذا استطاع الله أن يخلص يونان، كما خلص نينوى وأهل السفينة.

وكان عند هؤلاء جميعًا استجابة لعمل الله فيهم وعمل الله فيهم وعمله من أجلهم. ولعل هذا يقودنا إلى نقطة وهي: الشركة مع الله.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


24- الشركة مع الله 🔗

الله يعمل لأجلك، يسعى لخلاصك، فعليك أن تستجيب.

تشترك في العمل معه. لا تقاوم عمل الروح كما فعل اليهود وآباؤهم (أع 7: 51). ولا تفعل أيضًا مثلمًا فعلت عذراء النشيد، التي رفضت أن تفتح لحبيبها. فكانت النتيجة أنه -بعد طول انتظار,“تحول وعبر”. فقال العروس “نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني” (نش 5: 6).

شعب موسى، كان عاجزًا عن أن يخلص نفسه من عبوديته فرعون. والله هو الذي سعي إلى خلاصه وخلصه. وكما قال موسى: “الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون” (خر 14: 14).

ولكن المهم هو أن هذا الشعب استجاب لعمل الله وسار وراءه، ودخل في البحر الأحمر حينما شقة الله أمامه.

واحترس أن تفعل كما فعل أغريباس وفيلكس والشاب الغني.

أغريباس أتته دعوة الله للخلاص. زارته النعمة وتأثر. وقال لبولس الرسول “بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًا” (أع 26: 28). ومع ذلك لم يخط خطوة إيجابية من جهته، وانصرف، ولم يصِر مسيحيًا.

وفيلكس الوالي زارته النعمة حينما تكلم القديس عن البر والتعفف والدينونة، فارتعد فيلكس. ولكنه أجل الموضوع وقال لبولس: “اذهب الآن. ومتى حصل لي وقت أستدعيك” (أع 24: 25). وهكذا لم يشترك مع عمل الروح، وجعل الفرصة تفلت من يده!

وكذلك الشاب الغني، كانت له الفرصة أن يسمع كلمة الخلاص من فم المسيح ولكنه سمح لشهوة المال أن تقهره “ومضي حزينًا لأنه كان ذا أموال كثيرة” (متى 19: 22).

إذن الله يسعى لخلاصك. يبدأ العمل لأجلك. ولكن عليك أنت أن تستجيب أو تشترك معه أو تخضع لعمله. ولقد صدق القديس أوغسطينوس حينما قال:

[الله الذي خلقك بدونك، لا يشاء أن يخلصك بدونك]..

إذن لا بُد أن تشترك في العمل معه: الروح القدس يعمل فيك، وأنت تستجيب لعمل الروح. لا تطفئ الروح (1 تس 5: 19) ولا تحزن الروح (أف 4: 30). ولا تقاوم الروح (أع 7: 51). وإنما تدخل في شركة الروح، بأن تعمل معه. لأن الله لا يريد أن يرغمك على محبته. واعرف أن طول أناة الله، إنما لكي تقتادك إلى التوبة (رو 2: 4). فلا تعتمد على طول أناته وعلى محبته وصبره وسعيه إليك، لكي لا تصل إلى اللامبالاة والتهاون. وهوذا الكتاب يقول: “إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم” (عب 3: 15).


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


25- بأنواع وطرق شتى 🔗

إن الله له طرق كثيرة في اقتياد الناس إلى الخلاص..

البعض يدعوهم إليه والبعض يتركهم إلى حين، إلى أن يلهب قلوبهم بالحب والاشتياق إليه. والبعض يجتذبهم بالتجارب والضيقات، مثلما قاد يونان إلى الطاعة بحوت ابتلعه، واجتذب أهل السفينة إلى الإيمان بإثارة البحر عليهم ثم تهدئته، والبعض يقودهم بمجرد الإنذار مثلما فعل مع أهل نينوى.

أتشكو من التجارب والضيقات؟ ربما سيخلصك الرب بالضيقات!

ربما أنت من النوع الذي لا يصلح معه سوى هذا الأسلوب، أو يكون هذا الأسلوب أكثر سرعة في اجتذابك إلى الله.

فإن أتتك التجارب، لا تتضايق. لعلها لخيرك.

خُذ الخير الذي في التجارب، ولا تُرَكِّز على ما فيها من ألم.

أن الله لا يحب أن يستخدم العنف معك. ولكن إذا كان هذا العنف -في حدود احتمالك- نافعًا لك روحيًا، فلا مانع منه ونفس الوضع نقوله إلى حين.. ونفس الوضع نقوله من جهة. الله يحددها حسب الصالح.. هناك طعام لا يحتمل سوى ربع ساعة على النار لكي ينضج، بينما طعام آخر قد يحتاج إنضاجه إلى ساعتين أو أكثر..

فلا تفقد رجاءك لطول المدة. إن ذلك لخيرك..

أما إن كنت ضعيفًا ولا تقدر، فالله قادر أن يعينك.

إن سعي الله لخلاصنا، ليس معناه أن نأخذ موقفًا سلبيًا على طول الخط، وعمل النعمة لا يساعد على الكسل. فأمامنا قول الرب: “كم مرة أردت.. ولم تريدوا..” (متى 23: 37). قل له: “توبني فأتوب”، “أرددني فاخلص” ولكن سلم إرادتك له. وثق أنه سيعمل فيك، وسيقويك.. وسيقودك في موكب نصرته، بالطريقة التي تناسب طبيعتك. وعند الله طرق كثيرة..

وإن كان جهدك قليلًا، كن أمينًا في هذا القليل.

إن صاحب الوزنتين سر به الله، وأعطاه نفس الطوبى التي نالها صاحب الخمس وزنات (متى 25: 23، 21). وقال له كما قال لذاك: “ادخل إلى فرح سيدك”. طبيعتك. المهم أن تكون أمينًا في القليل الذي عندك.

وأن كنت لا تملك في روحياتك حتى القليل، الله قادر أن يعطيك. وإن كنت غير قادر على الأمانة في القليل، قل له أعطني يا رب القدرة والأمانة من عندك.

إن الله الذي نفخ في التراب، وجعله نفسًا حية، قادر أن ينفخ فيك ويجعلك روحًا حية في ملكوته..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


26- لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار 🔗

كثيرًا ما ينظر البعض إلى حياة القديسين، وإلى القمم العالية التي وصلوا إليه في حياة الروح، وإلى عمق الصلة التي عاشوا فيها مع الله

وهنا يشعر الإنسان بصغر نفس ويتساءل: هل يمكن أن أكون مقبولًا أمام الله، وأنا في هذا المستوى الضعيف، وليس لي شيء على الإطلاق مما وصل إليه القديسون؟!

هل يمكن أن تقبل الله حياتي البسيطة الصغيرة التافهة.. التي إذا قيسَت بسير القديسين تكون لا شيء؟! هنا وأريد أن أحدثكم عن الله، الذي هو إله الصغار.. الله الذي اهتم بالأشياء الصغيرة جدًا، وجعل لها قيمة كبيرة قدامه.. والذي قيل عنه لتعزيتنا:

“المُقيم المسكين من التراب، والرافع البائس من المزبلة، لكي يجلس مع رؤساء شعبه” (مز 113: 7، 8).

الله الذي اختار أناسًا صغارًا لم تكن لهم قيمة عند الناس، ولكن الله كان يعرف قيمتهم، أو جعل لهم قيمة وامتدت يد الله فرفعتهم.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


27- اختار الصِّغَار في السِن 🔗

1- اختار الصغار في السن 🔗

وهكذا قال داود عن نفسه: “صغيرًا كنت في أخوتي، ومحتقرًا كنت عند بني أمي”. كان كذلك عند أخوته. ولكن ماذا فعل الله”؟

أخذ داود الصغير من بين الغنم، وجعله مسيحًا للرب.

عندما دخل صموئيل النبي ليمسح ملكًا من بيت يسى البيلتحمي، عرض عليه يسى أبناءه الكبار السمان.. عرض عليه اليآب الطويل القامة الحسن المنظر، فقال الرب قد رفضته. ثم عرض عليه أبيناداب وشمه وباقي السبعة، فكان النبي يقول عن كل منهم “وهذا أيضًا لم يختره الرب” (1 صم 16: 5 -10).. وأخيرًا قال يسى:

“بقي بعد الصغير. وهوذا يرعى الغنم” (1 صم 16: 11).

نعم هذا الصغير الذي احتقره أبوه، وتركه مع الغنم دون أن يسمح له بحضور الحفل الذي يشرفه النبي العظيم صموئيل.. هذا الصغير هو الذي اختاره الرب ليكون له مسيحًا..!

وحل روح الرب على داود الصغير من ذلك اليوم فصاعدًا، وصار رجل المزامير رجل المزمار والقيثارة والعشرة الأوتار، وواحدًا من أشهر أنبياء العهد القديم. حقًا إن الله لا ينظر إلى الأعمار ولا إلى المنظر الخارجي. وكثيرًا ما اختار الصغار.

وكما اختار الله داود الصغير اختار أيضًا يوسف الصديق صغير إخوته.

وجعله ملكًا عليهم جميعًا، وعلى غيرهم. وأتى أخوته إليه، وسجدوا عند قدميه وهو صغيرهم..! كما جعله أيضًا أبًا لفرعون وسيدًا لكل بيته، ومتسلطًا على كل أرض مصر” (تك 45: 8).

واختار أيضًا أرمياء النبي الصغير الذي قال: “لا أعرف أن أتكلم لأني ولد” (أر 1: 6).

وقال له الرب: “قبلما صورتك في البطن عرفتك. وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيًا للشعوب.. ها قد جعلت كلامي في فمك. انظر. قد وكلتك اليوم على الشعوب والممالك.. ها قد جعلتك اليوم مدينة حصينة، وعمود حديد. وأسوار نحاس على كل الأرض، لملوك يهوذا ولرؤساء ولكهنتها ولشعب الأرض (أر 1: 4، 5، 9، 10، 18).

نجد أن أحب التلاميذ إلى المسيح كان يوحنا أصغرهم سنًا..

وهو الذي جعله الرب أحد الأعمدة الثلاثة في رسله (غل 2: 9). وأطال عمره أكثر من جميعهم، وكشف له رؤى السماء، وجعله كاتب الإنجيل المملوء باللاهوتيات.

ولعل من الصغار الذي أكرمهم الرب القديس مرقس الرسول الذي كتب أول الإنجيل. وكان شابًا صغيرًا حدثًا في فترة كرازة السيد المسيح على الأرض، وبدأ حياته خادمًا مع القديس بولس والقديس بطرس.

وبولس الرسول أخًا شابًا صغيرًا ليخدم معه، هو تيموثاوس الذي صار أسقفًا لأفسس، وقال له “لاَ يَسْتَهِنْ أَحَدٌ بِحَدَاثَتِكَ” (1 تي 4: 12).

ومن الصغار الذين اختارهم الرب القديس العظيم الأنبا بيشوي.

أختاره الملاك من بين إخوته ليكون نذيرًا للرب، وكان أنحفهم جسمًا، وأضعفهم وأصغرهم. وعرضت أمه على الملاك أن يختار أحد أخوته الكبار الأقوياء ليخدم الرب بقوة. ولكن هذا الصغير النحيف الضعيف كان هو الذي اختاره الرب ليكون “الرجل الكامل حبيب المسيح الذي غسل قدمي مخلصنا الصالح”.. لا تقل أنا صغير. فعجيب هو الرب في اختياره للصغار..

القديس أثناسيوس الرسولي كان شابًا صغيرًا في مجمع نيقية.

وكان في هذا المجمع المسكوني العظيم 318 من أشهر الآباء الأساقفة في العالم المسيحي. ومن حيث الرتبة كان أثناسيوس مجرد شماس. ومع ذلك وضعه الله في القمة. وأعطاه القوة في الانتصار على أريوس وفي دحض بدعته، وفي صياغة قانون الإيمان المسيحي.

وصار هذا الشماس الصغير أعظم اللاهوتيين في تاريخ الكنيسة..

وفي تاريخ الرهبنة، من أشهر الصغار العظام القديس تادرس تلميذ الأنبا باخوميوس، والقديس يوحنا القصير، والأنبا ميصائيل السائح.

لقد سمح أن يكون الشاب الصغير تادرس هو المرشد الروحي في كل أديرة القديس باخوميوس الكبير بل هو الذي أسس كثيرًا من هذه الأديرة، وعين المسئولين فيها. كذلك اختار الرب شابًا صغيرًا آخر ليكون المرشد الروحي في برية شيهيت، ذلك هو القديس يوحنا القصير، الذي قيل عنه أن الأسقيط كله كان معلقًا بإصبعه. وكان الرهبان يجلسون حوله ويستفيدون من تعليمه.. وكان شابًا حدثًا، ولكن له نعمة أكثر من الشيوخ! والقديس ميصائيل صار من الآباء السواح وعمره حوالي 17 عامًا.

وأول دير في برية شهيت “دير البراموس”، تسمى باسم قديسين شابين، هما مكسيموس ودوماديوس.. ومن أشهر السواح القديس الأنبا ميصائيل الذي وصل إلى درجة السياحة وهو في حوالي السابعة عشرة من عمره..

إن الله حينما شاء هزيمة جليات، هزمه بفتَى صغير.

فتى لا يعرف أن يلبس ملابس الحرب، لأنه لم يتعود عليها (1 صم 17: 38،39)، بل استخدم خمس حصوات ملساء من البرية. وهذا الصغير مسحه الرب ملكًا دون أخوته السبعة الكبار، وهكذا غني داود أغنيته المشهورة “صغيرًا كنت في إخوتي، ومحتقرًا عند بني أمي.. إخوتي كبار وسمان.. ولكن الله لم يسر بهم”..

“انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الأصاغر” (متى 18: 10).

اهتمام الرب بالأطفال واضح جدًا في الكتاب المقدس، فهو الذي أقام طفلًا وسط تلاميذه وقال لهم “إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد، فلن تدخلوا ملكوت الله” (لو 18: 16، 17). وقال أيضًا “أحمدك أيها الآب.. لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال” (متى 11: 25). وقال “من أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فخير له أن يعلق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجة البحر” (متى 18: 6). أعرف باستمرار أن “الحرب للرب” (1 صم 17: 47)، و"ليس للرب مانع أن يخلص بالكثير أو القليل” (1 صم 14: 6).

ما أعظم المواهب الروحية والذهنية التي وهبها الله للصغار.

ما أكثر مواهبه للأطفال والفتيان. داود النبي مثلًا: وهبة الشعر والموسيقي. فكان رجل القيثار والمزمار والعشرة الأوتار، وهو بعد حدث صغير وكان يحسن الضر على العود، ويستطيع أن يبعد أن يبعد الروح النجس عن شاول الملك (1 صم 16: 23). وفوق كل ذلك كان رجل حرب وجبار بأس، وهو بعد فتي صغير..

والقديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين وهبه الله نضوجًا روحيًا وهو طفل صغير.

فكان يمار الزهد والصوم والصلاة وهو حدث صغير.. إنها موهبة إلهية تدل على اهتمام الله بالصغار. وهكذا كان أيضًا القديس مرقس المتوحد يصوم إلى الساعة التاسعة وهو طفل.

والقديس تكلا هيمانوت وهبه الله صنع المعجزات وهو طفل.

إنها ليست أمرًا موروثًا، وإنما هي هبة إلهية، ومواهب الله ليست قاصرة على الكبار، وإنما الصغار أيضًا يتمتعون بها. وما أكثرها في حياة القديسين الذين بدأوا حياتهم صغارًا، لأن نعمة الله شاءت أن تعمل فيهم في هذه السن المبكرة، كما عملت في أرمياء الذي لم يكن يعرف أن يتكلم لأنه ولد، وكما عملت في صموئيل الطفل، وفي سليمان وهو فتي صغير.

ونفس النضوج الروحي كان في السيدة العذراء وهي طفلة.

العمق في الصلاة وفي التأمل وفي دراسة الكتاب.. كل ذلك وهي طفلة صغيرة يتيمة تتربي في الهيكل.. وتسبحتها المشهورة (لو 1: 46 - 55) تدل على مدى حفظها للمزامير وآيات الكتاب.. كل ذلك وهي صغيرة السن. ولكنها نعمة الله العاملة في هذه الممتلئة نعمة، التي أختارها الله صغيرة، ولكن مملوءة بمواهبه.

لعل يوحنا المعمدان كان أيضًا أحد الأطفال الموهوبين.

والتفسير الوحيد لذلك هو قول الملاك المبشر عنه “ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس” (لو 1: 15).. وهكذا كان الروح القدس يعمل فيه وهو بعد في بطن أمه لذلك استطاع أن يرتكض وهو جنين في بطن أمه لها سمعت سلام العذراء، بل أنه ارتكض بابتهاج، وهو جنين في بطن أمه لما سمعت سلام العذراء، بل أنه ارتكض بابتهاج وهو جنين (لو 1: 41 - 44).

إن النضوج المبكر للأطفال الموهوبين، ليس له تفسير إلا موهبة الله الغنية التي تنسكب على الأطفال بغني لا يعبر عنه.

المهم أن المواهب التي يعطيها الله للأطفال، تعطيك رجاء، وتجعلك تكرر العبارة التي قالها رب المجد: “أحمدك أيها الآب.. لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال” (متى 11: 25)، “لأنه هكذا صارت المسرة أمامك”.

ماذا نقول عن النضوج المبكر لأثناسيوس وطفولته العجيبة؟ 🔗

ليس شيئًا سوى موهبة الله التي يمنحها للأطفال بغني مذهل، قد تحار فيه العقول البشرية، وتعللها بأسباب شتى.. ولكنها تستريح من حيرتها أن وضعت أمامها عبارتين، هما: “موهبة الله” و “محبة الله للأطفال”.

هو القديس أثناسيوس الذي لقبوه بالرسولي، وهو أصغر من جلس على كرسي مارمرقس، وهو أعظم من جلس على هذا الكرسي، وكان بطلًا عظيمًا من أبطال الإيمان، وهو بعد شاب. وصار بطريركًا وهو في حوالي الثلاثين. ووضع كتبًا عظيمة مثل “تجسد الكلمة” و"الرسالة إلى الوثنيين” وهو شاب صغير.

إننا نسعد جدًا، ونمتلئ بالرجاء، حينما نعرف أن نضوج الأطفال المبكر سببه موهبة الله ومحبته.

فالله الذي كان مع هؤلاء الأطفال وأعطاهم بغني من مواهبه، هو أيضًا قادر أن يعطينا. المهم أن نتضع ونصير مثل الأطفال حسب وصيته، ونقف أمامه فارغين.

نكتفي بهذه الأمثلة عن الصغار في السن، ونتكلم عن: الصغار في العدد.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


28- الصغار في العدد 🔗

لقد اختار الله الصغار في العدد، لكي يبارك أو يصنع بهؤلاء الصغار عجبًا..

اختار الله الخمس خبزات والسمكتين ليصنع معجزة عظيمة.

إنه لم يحتقر هذه الكمية الصغيرة، إنما باركها، وأطعم بها خمسة آلاف من الرجال. وحتى هذا القدر الضئيل كان يحمله غلام صغير (يو 6: 9). وفي معجزة إشباع الأربعة آلاف من سبعة أرغفة كان معهم “قليل من صغار السمك” (مر 8: 7). وبهذا القليل، وبهذا القليل وبهذه الصغار، وأشبع الرب تلك الآلاف من الناس..

واختار الله هذه القلة الضئيلة، ليعطي رجاء لكل قلة ضئيلة.

أن الله يبارك القليل فيصير كثيرًا. إن العدد ليس هو المهم، إنما الأهمية كلها هي في البركة التي في هذا العدد. وبهذه البركة يصنع الله عجبًا.

ففي خدمتك لا تيأس من قلة مواهبك. وقل له “استخدمني لإطعامهم كأنني من صغار السمك”.

انظروا في مثل الزارع: ماذا قال الرب عن الزرع الذي كان في الأرض الجيدة؟ لقد قال:

“فأعطي ثمرًا: بعض مئة، وآخر ستين، وأخر ثلاثين” (متى 13: 8).

نحن نعقل يا رب أن الزرع الذي يعطي مئة هو زرع جيد. ولكن هل يقال كذلك عن الذي يعطي ستين؟ وهل يسمى جيدًا مَن يعطي ستين؟! وهل هذا الإنتاج الضئيل هو مقبول عند الله؟

ولعل الرب يجيب: ما دامت الأرض أعطت ثمرًا، إذن فهي أرض جيدة، حتى إن أعطت ثلاثين..

لذلك لا ييأس ولا يفقد الرجاء، أصحاب الثلاثين. إن الله يقبل هذا القليل منهم، مادام هذا هو جهدهم. ويبارك الرب هذا الجهد كأنه شيء كثير. انظروا ماذا نقول في أوشية القرابين:

أصحاب الكثير وأصحاب القليل. والذين يريدون أن يقدموا وليس لهم.

مجرد هذه الرغبة، حتى من غير عطاء، هي شيء مقبول عند الله، الذي لا يحتقر الشيء القليل. عجيب هو الرب في أحكامه، وفي قبوله للقليل. يذكرني هذا بقول أحد القديسين:

العنقود وإن كانت فيه حبة واحدة، لا تزال فيه ببركة.

ونفس المعنى كرره إشعياء النبي (اش 65: 8). إن الله يعمل في القليل، لكي لا نفتخر نحن بقوتنا، ونظن أننا ننتصر بالكثرة وليس بقوة الله، فيكسرنا هذا الفكر.

وهذا واضح من قصة الحرب التي دخلها جدعون بعدد قليل..

كان جدعون قد جمع من الشعب جيشًا كبيرًا من اثنين وثلاثين ألفًا ليحارب المديانيين. ولكن الرب قال له: “هذا الشعب كثير على لأدفع المديانيين بيدهم، لئلا يفتخر إسرائيل على قائلًا: يدي خلصتني” (قض 7: 2) وظل الرب يغربل هذا العدد الكبير حتى وصل إلى ثلاثمائة جندي فقط.

وبارَك الله في هذا العدد القليل، فانتصر على جيش المديانيين الذي كان منتشرًا كالجراد على الأرض. وماذا أيضًا:

لما أراد الرب الكرازة بالإنجيل اختار لذلك اثني عشر رسولًا فقط..

واستطاع هؤلاء -علي الرغم من قلتهم- أن يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها (مر 16: 15)، وإلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم.

فلا تَقُل مطلقًا نحن قِلَّة. فإن الله يبارِك القليل فيصير كثيرًا.

من ثمانية أنفس فقط في الفلك، أعاد الله تكوين البشرية من جديد. ولم يختر لغرضه سوى هذا العدد الضئيل..

ومن ابن واحد هو إسحق، استطاع الله أن يأتي بنسل مثل نجوم السماء ورمل البحر في الكثرة..

وكما تحدثنا عن اهتمام الله بالصغير في السن، وبالقليل في العدد، ومباركته هذا وذاك، ننتقل إلى أخرى وهي: الاهتمام بالقليل في النوعية.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


29- الاهتمام بالقليل في النوعية 🔗

لما شاء أن يهزم جليات الجبار، هزمه بحصاة ملساء في مقلاع صبي صغير هو داود.

فلا تفقد أنت رجاءك، ولا تقل مواهبي قليلة، وأنا صغير، ضئيل الشأن لست على مستوى قوة من يبغضونني. فلتكن حصاة صغيرة في مقلاع الرب. وليعمل الرب بك عملًا، مهما كان جهدك قليلًا.

لأن “الحرب للرب” (1 صم 17: 47). و”ليس لدى الرب مانع عن أن يلخص بالكثير أو القليل” (1 صم 14: 6).

أنظر كيف نشر الله ملكوته على الأرض.. إنه لم يختر لذلك جماعة من الفلاسفة أو العلماء أو الجبابرة بل اختار مجموعة من الصيادين البسطاء، وعمل فيهم وبهم.. وكما قال الرسول:

اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ، لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ” (1 كو 1: 27 - 29).

ونحن نقف أمام هذه العبارة مبهورين..! قد تعبر في فهمنا كلمة الجُهَّال والضعفاء.. لكن ماذا عن المزدرَى وغير الموجود..؟! ما هذا العجب؟ كيف يمكن للرب أن يختار المزدرَى وغير الموجود؟!

لا شك أن هذه العبارة تحيي الرجاء في نفس كل إنسان، مهما كان ضعيفًا ومهما كان بلا مواهب وبلا إمكانيات وبلا قدرات من كل ناحية..

لذلك أن حوربت باليأس قل له: اعتبرني يا رب ضمن المزدرَى وغير الموجود، ولا تحرمني من العمل معك.. ليكن لي كيان قدامك، مع أنني في نظر نفسي وربما في نظر الناس مزدرَى وغير موجود..

ربما يظن البعض أن السيد المسيح لو كان قد جاء في أيامنا، لكان يختار أصحاب الشهادات العالية جدا وأساتِذَة البحوث!

كلا، صدقوني، لأنه لا يحب أن يفتخر كل ذي جسد أمامه، ولئلا تنسب البشارة إلى عقله البشري وليس إلى عمل الروح القدس. فلو كان المسيح جاء في أيامنا، ما كنت أستغرب أن يختار بعض من البسطاء كما فعل من قبل، أو مجموعة من عُمَّال التراحيل..

فليس مصدر القوة هو الإنسان وإنما روح الله العامل فيه.

والله يحب أن يستخدم الصغار، لكي لا يفتخروا، ولكي لا ييأس أحد من عمل الله فيه فلا يفشل أحد، ولا تصغر نفس إنسان ما.

الله نشر الكرازة باثني عشر رجلًا، وما كانوا أصحاب مواهب.

بل كانت غالبيتهم من الصيادين، إنما المهم هو عمل الله فيهم. والثالث عشر الذي هو بولس، لم يعتمد على الثقافة والمواهب، بل قال لأهل كورنثوس “وأنا لما أتيت أليكم أيها الأخوة، أتيت ليس بسمو الكلام أو الحكمة” (1 كو 2: 1). لماذا؟ يقول “ليس بحكمة كلام، لئلا يتعطل صليب المسيح” (1 كو 1: 17)، لئلا تحسب المسيحية فلسفة، أن ينسب نجاح الكرازة إلى الحكمة وليس إلى عمل النعمة.

إن باب الملكوت مفتوح للكل، وكذلك باب الخدمة..

ليس فقط للذين يقولون إنهم وصلوا إلى الملء، ويتكلمون بألسنة!! ولهم المواهب، ويرتعشون في الصلاة..! بل أن باب الملكوت مفتوح أيضًا أمام المبتدئ، الحديث في العمل الروحي، الذي لا يعرف أن يتكلم لأنه ولد (أر 1: 6).

فلا تظن أحد أنه إن لم يصعد إلى القمة في الروحيات، فهو لم يصل بعد إلى الله!

ولا تحتقروا أمثال هؤلاء الذين لم يصلوا إلى القمم. ولا تصغر نفوس هؤلاء، فإن الله يعمل في الكل، ويستخدم حتى “القليل من صغار السمك”..

وما أجمل العبارة المعزية التي قالها القديس يوحنا المعمدان:

إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم (لو 3: 9).

وإلي مَنْ ترمز الحجارة؟ إلى صم بكم لا يتحدثون، بلا حركة وبلا حياة.. هؤلاء، الرب قادر أن يقيم منهم أولادًا لإبراهيم.

إذن لا تفقد رجاءك مطلقًا، مهما كنت بلا حياة. فأنت ولا شك أفضل من حجارة كثيرة..

أمامنا مثل آخر في ميلاد المسيح يدل على اهتمام الله بالصغار:

لقد وُلِدَ في مزود بقر، وليس في قصر ضخم. وولد في قرية صغيرة هي بيت لحم، وليس في المدينة العظمي أورشليم.

واستطاع أن يحاول المزود إلى مزار عالمي ومقدس من المقدسات الكبرى. أما بيت لحم فقال لها: من الآن فصاعدًا “لست الصغرى بين رؤساء يهوذا” (متى 2: 6). رفعها فوق بلاد كثيرة، ومنحها قيمة بميلاده فيها.

ولعل هذا يُذَكِّرنا بدعوة الرب لجدعون، الذي شعر بصغر نفس، لضآلة أصله وبلده فقال:

هَا عَشِيرَتِي هِيَ الذُّلَّى فِي مَنَسَّى، وَأَنَا الأَصْغَرُ فِي بَيْتِ أَبِي” (قض 6: 15).

ولكن الرب كان يبحث عن هذا الأصغر، ليظهر مجد الله فيه.

لذلك لا تفقد رجاءك إن كنت صغيرًا. إن كنت مزودًا، أو قرية صغيرة، أو كنت الأصغر في بيت أبيك، أو إن كانت عشيرتك هي الذلَّى بين باقي العشائر..! إن الله قادر أن يعمل فيك، ويرفع شأنك فتصير شيئًا آخر ما كنت تفكر فيه..

إنه موقف يشجع الضعفاء والمساكين، الصغار و الأذلاء..

انظروا في اختيار موسى النبي، تروا موقفًا عجيبًا.. كان موسى “ثقيل الفم واللسان.. وليس صاحب كلام لا من اليوم ولا أمسًا، ولا قبلًا من أمس” (خر 4: 10).

ومع ذلك اختار الله هذا الثقيل الفم واللسان ليكون كليم الله..

لم ينزع منه هذا النقص، وإنما أرسل له هارون أخاه، لكي “يكون له فمًا “وقال الله لموسى: “وأنا أكون مع فمك، وأعلمك ما تتكلم به” (خر 4: 16، 12). وبهذا الإنسان الثقيل الفم واللسان، أذل الله فرعون..

إن قلة المواهب لا تعوق عمل الله، ولا تدعو الإنسان إن يفقد الرجاء في القدرة على القيام بالمسئوليات.. فباستمرار ثق بالله الذي قيل إنه “يعطي المعيي قدرة، ولعديم القوة يكثر شدة” (إش 40: 29).

إن الله يستخدم الصغار والضعفاء. وهنا نسأل سؤالًا: عندما قاد الله يونان النبي إلى التوبة والصلح معه، بماذا هداه؟

استخدم الله في هِداية يونان: الدودة، واليقطينة، والرياح والموج، وأشعة الشمس. فكانت كل منها تؤدي رسالة إلهية.. (يون 1، 4).

اليقطينة التي بنت ليلة هلكت، استخدمها الله في تحقيق مقاصده، وكذلك الدودة التي لا قيمة لها عند أحد!

قل له: احسبني يا رب دودة، احسبني يقطينة، احسبني موجة، احسبني شعاعًا. فلأكن أي شيء مهما كان تافهًا في ملكوتك، ولكن يصنع مشيئتك.

وإن كنت دودة لا تفقد رجاءك، سيكون لك دور عند الله.. وإن كنت يقطينة لا تصغر نفسك. سيأتي وقت تعطي فيه درسًا لنبي كيونان ويكتب اسمك في كتاب الله..!


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


30- اهتمام الله بالأشياء الصغيرة 🔗

اهتم بالأطفال، وتحدث عنهم بكل حب وتقدير..

كان يحتضنهم ويعطف عليهم ويقول “دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات” (متى 19: 14). وأخذ ولدًا وأقامه في الوسط، وقال لتلاميذه “إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد، فلن تدخلوا ملكوت السموات. فمن وضع نفسه مثل هذا الولد، فهو العظم في ملكوت السموات. ومن قبل ولدًا واحدًا مثل هذا باسمي فقد قبلني” (متى 18: 2- 5).

واهتم بنفسيته هؤلاء الصغار، والبعد عن إعثارهم، فقال:

مَنْ أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فخير له أن يعلق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجة البحر” (متى 18: 6).

إن الله يهتم بالصغار من كل نوع، سواء في سنهم، أو في حياتهم، أو نوعيتهم، عمومًا، أو في ضآلتهم وضعفهم. رعايته تشمل الكل.

لقد اهتم حتى بالقصبة المرضوضة وبالفتيلة المدخنة..

فقيل عنه في الإنجيل “قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ” (متى 12: 20). إنه يعطي رجاء لكليهما. فالقصبة المرضوضة قد تربط وقد تعصب. والفتيلة المدخنة قد يرسل لها ريحًا فتشعلها.

والشجرة التي لم تعط ثمرًا، أعطاها رجاء وفرصة أخرى.

فلما امتدت الفأس لتوضع على رأس هذه الشجرة، قال في حنوه “أتركها هذه السنة أيضًا، حتى أنقب حولها وأضع زبلًا. فإن صنعت ثمرًا، وإلا ففيما بعد تقطعها” (لو 13: 7-9). إنه لم يقطع الرجاء حتى بهذه التي استمرت ثلاث سنوات بلا ثمر.

وهو يعطي قيمة حتى للنملة الصغيرة، ويقدمها درسًا للبشر..

فيقول: “اذهب إلى النملة أيها الكسلان. تأمل طرقها وكن حكيمًا..” ونحن نقول: ما هي هذه النملة يا رب حتى تخلصها، وتمنحها هذه الطبيعة النشطة، وتضرب بها المثل فيما وهبتها إياه من نشاط ومهارة وقدرة..؟! وكأن الله يجيبنا ويقول:

لا تظنوا أني فقط خالق التنانين، وإنما أيضًا خلقت الحشرات والهوام وأرعَى هذه وتلك.. وأهتم حتى بالعصافير التي يباع اثنان منها بفلس واحد. وأعطي طعامًا لفراخ الغربان التي تدعوني (مز 147: 9). عجيب هو الرب الذي يخلق هذه الأشياء الصغيرة ويهتم بها. بل يهتم حتى بالدودة التي تسعى تحت حجر، وبالزنبقة الأشياء التي يلبسها أفضل من سليمان في كل مجده (متى 6: 29).

إنه يضرب لنا مثلًا للإيمان ولملكوت السموات بحبة الخردل التي هي أصغر جميع البذور.

فيقول يشبه ملكوت السموات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله، وهي أصغر جميع البذور. ولكن متى نمت فهي أكبر البقول، وتصير شجرة، حتى إن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها” (متى 13: 31-32).

ويقول أيضًا “الحق أقول لكم لو كان لكم إيمان مثل حبة الخردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل. ولا يكون شيء غير ممكن لكم” (متى 17: 20).

إذن لا تفقد رجاءك ولو كان إيمانك صغيرًا كحبة الخردل.

إنه يمكن أن ينمو ويصير شجرة تتآوى إليها الطيور. والله يقبل هذا الإيمان ويباركه. وأيضًا..

في الإيمان والملكوت يضرب مثلًا بخميرة صغيرة تخمر العجين كله.

فيقول: “يشبه ملكوت السموات خميرة أخذتها امرأة ووضعتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع” (متى 13: 33). وقد تذكر بولس الرسول هذا المثل فقال لأهل غلاطية: “خميرة صغيرة تخمر العجين كله” (غل 5: 9). إذن لا تفقد رجاءك مهما كان إيمانك قليلًا، ومهما كان عملك ضئيلًا، فالله يقبل القليل ويباركه ليصير كثيرًا.

إن الرب قد أعطى في ملكوته رجاءً حتى للعُرْج والجُدْع..

فقال لعبده بعد أعد الوليمة “أخرج عاجلًا إلى شوارع المدينة وأزقتها. وأدخل إلى هنا المساكين والجدع والعرج والعمي” (لو 14: 21).

بل قال أيضًا كوصية: “إذا صنعت ضيافة فادع المساكين الجدع العرج العمي. فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافئوك” (لو 13: 13). فإن حوربت بفقد الرجاء، تذكر هؤلاء الذين ليس لهم، والذين قبلهم الرب بدون مقابل..

هنا ونذكر ملاحظة هامة في معجزة الخمس خبزات والسمكتين:

إن الله اهتم بالكِسَر، فأمر بجمعها، وحملها الرسل..

لعلك تقول ليتني كنت خُبزة في يد الرب، يباركها ويطعم بها الألوف، وهكذا يمكنني أن أصلح لشيء في الخدمة! أقول لك: حتى لو لم تكن خبزة، وكنت مجرد كسرة ملقاة على الأرض لم تجد من يأكلها. ستسمع قول الرب “اجمعوا الكسر وسيأتي وقت تستطيع فيه أن تشبع الآخرين.

إذن إن كانت أعمالك الروحية ضعيفة، قل له في اتضاع: أدخلني يا رب مع المساكين والجدع والعرج والعمي إلى ملكوتك. وكما اهتممت بجمع الكسر في معجزة الخمس خبزات والسمكتين، اعتبرني أنا أيضًا من هذه الكسر، ليأخذني رسلك معهم في سلالهم وقففهم. أنا يا رب من هذه الكسر. اجمعني في سلتك المباركة.

لا تظن أنه يجب أن تصعد إلى أعلى، لكي تقابل الله.

بل انك كلما شعرت أنك لا شيء، ولا استحقاق لك على الإطلاق. وهبط قلبك أسفل، فهناك تلتقي بالله.

وهكذا كلما نزلت إلى أسفل صعدت إلى أعلي.

حقًا الإنسان يصعد في هبوطه، ويهبط في صعوده.

وقد قال الرب في ذلك “كل من يرفع نفسه يتضع. ومن نفسه يرتفع” (لو 13: 11).

لقد ضرب لنا ثلاثة أمثلة في اهتمامه بالصغار في الأصحاح الخاص بقبوله للتائبين وبحثه عنهم (لو 15).

رجوع الابن الضال بانسحاق قلب، قابله الرب بفرح كبير ومكافآت عديدة.. ثم ماذا عن الخروف الضال؟ من ذا الذي يستطيع أن ينظر إلى حظيرة فيها مائة خروف فيلمح أنها مجرد 99، ويبحث عن الواحد الناقص إلى أن يحمله على منكبيه فرحًا، بل من ذا الذي يهتم بدرهم واحد مفقود، ويظل يبحث عنه حتى يجده، ويفرح بوجوده ألا يعطيك هذا رجاء في عمل الله من أجلك! هو يبحث عنك، إن لم تبحث أنت عنه..

ومن اهتمام الله بالصغار، اهتمامه بقرية بيت لحم الصغيرة.

هذه التي قال لها الوحي الإلهي “وأنت يا بيت لحم.. لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لتكوني قدسًا ومكانًا للميلاد المجيد..”

ومن اهتمامه بالصغار، اختاره ليئة المكروهة العينين (تك 29: 17، 33).

ليئة هذه التي كانت صغيرة القدر والمكانة بالنسبة إلى أختها راحيل، هي التي اختارها الرب لتكون أمًا ليهوذا سبط الملوك، وأمًا للاوي سبط الكهنوت، وجدة للمسيح، فأتي من نسلها ولم يأت من نسل راحيل..

بل اختار الرب راحاب الزانية وكذلك ثامار ضمن سلسة الأنساب، واختار راعوث الموآبية ضمن سلسة الأنساب أيضًا (متى 1: 3، 5).. بل اختار مريم المجدلية التي كان عليها سبعة شياطين لتكون مبشرة للرسل (مر 16: 9، 10). بل أنه اختار التراب ليجعل منه صورته ومثالة. فلا تيأس إذن من عمل الله معك واختياره لك..

إنه “المقيم المسكين من التراب، والرافع البائس من المزبلة، ليجلسه مع رؤساء شعبه” (مز 112).

إذن الله قادر أن يقيمك مهما كانت حالتك، بل يرفعك أيضًا لتجلس مع رؤساء شعبه أليس هو الذي لا يحتقر قصبة مرضوضة، ولا فتيلة مدخنة، يأمر بتشجيع صغار النفوس، وأن نسند الضعفاء وتتأني على الجميع” (1 تس 5: 15). بل ما أجمل قول الكتاب “قوموا الأيادي المسترخية والركب المخلعة” (عب 12: 12)، حتى إن كنت من هذا النوع، سوف لا يهملك الله، بل سيرسل لك من يقومك..

بل خُذ مثال اهتمامه بالعصفور، كرمز لاهتمامه بك.

إنه يقول “أَلَيْسَ عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ؟ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لاَ يَسْقُطُ عَلَى الأَرْضِ بِدُونِ أَبِيكُمْ” (إنجيل متى 10: 29). فالذي يهتم بالعصفور لا شك يهتم بك أيضًا. ولذلك يقول بعدها مباشرة “وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة. فلا تخافوا، أنتم أفضل من عصافير كثيرة” (متى 10: 30).

ويعجب الرب بالعصافير في إيمانهم بأن الله يقوتها ويقول في ذلك “انظروا إلى طيور السماء. إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن. وأبوكم السماوي يقوتها (متى 6: 26). وهكذا يذكرها ويضرب بها مثلًا لنا، هي “وفراخ الغربان التي تدعوه” (مز 147: 9).

إنه يهتم بالدودة التي تَسْعَى تحت حجر، ويعطيها طعامها..

كم بالأولى أنت، يعطيك طعام الروح، وطعام الروح، وطعام الجسد أيضًا. أليس الإنسان أفضل من ديدان كثيرة؟! الدودة الصغيرة استخدمها الله ليعطي درسًا ليونان النبي حينما أعدها الله لتضرب اليقطينة (يون 4: 7). حسن أن هذه الدودة ذكرت في الكتاب المقدس، وهي تؤدي رسالة تؤول إلى توبة نبي.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


31- الله يهتم بالعمل الصغير 🔗

إنه لا ينسَى كأس الماء البارد الذي تقدمه لعطشان.

وقد قال في ذلك: “من سقي أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ، فالحق أقول لكم إنه لا يضيع أجره” (متى 10: 42؛ مر 9: 41).

مجرد كأس ماء بارد، لم تتعب فيه، ولم يكلفك شيئًا، هذا لا يضيع أجرة إذن لا تيأس إن كانت أعمالك.

هناك أعمال أنت تعملها وتنساها لضآلتها. والله لا ينساها. حتى إن كانت في نظرك بلا قيمة، هي عند الله لها قيمتها، ويكافئك عليها في اليوم الأخير. وحسن إنك نسيتها لتأخذ أجرها كاملًا هناك.

لقد مدح الرب ملكة التيمن لمجرد أنها زارت سليمان.

وقال: “ملكة التيمن ستقوم في (يوم) الدين مع هذا الجليل وتدينه، لأنها أنت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان , وهوذا أعظم من سليمان ههنا” (متي12: 42). وبنفس الوضع مدح أرملة صرفة صيدا لأنها استضافات إيليا النبي في وقت المجاعة (لو 4: 25، 26).

ولم ينس الرب زيارة نيقوديموس، مع أنها لا كانت ليلًا وبخوف..

وسمح أن تسجل هذه الزيارة في الإنجيل (يو3). وهذا الإيمان الخائف المتخفي الذي كان لنيقوديموس، باركه الرب ونماه حتى سمح له أن يكفنه وصار نيقوديموس من مشاهير المسيحيين فيما بعد، وصار جنديًا صالحًا في ميدان الخدمة..

ولم ينس الرب لزكا مجرد صعوده على الجميزة ليراه.

ربما لم يحس زكا أن هذا عمل كبير يكافأ عليه من الرب. ولكن الله الذي يهتم بكل عمل مهما كان صغيرًا، وقف ونادي زكا، ودخل بيته. وقال له: “اليوم حدث خلاص لأهل هذا البيت إذ هو أيضًا ابن لإبراهيم” (لو 19:9).

هل كان يخطر على بال زكا أن الرب سيقدر صعوده إلى الجميزة كل هذا التقدير؟! أم هو الرب الذي يهتم بالعمل مهما كان صغيرًا.

إنه لم ينس مطلقًا عبارة اتضاع تلفظت بها المرأة الكنعانية.

وطوبها قائلًا لها “عظيم هو إيمانك. ليكن لك كما تريدين وشفي ابنتها في تلك الساعة” (متى 15: 28)، مع أنهم كانوا في البرية متذمرين وقساة القلوب. قال لشعبه:

“قد ذكرت لك.. ذهابك ورائي في البرية” (أر 2: 2).

قال هذا على الرغم من أخطاء هذا الشعب في البرية، وعلى الرغم من تذمره وجحوده.. ولكن مجرد خروجه وراء الرب ليعبده في البرية لم ينسه الرب.

وقال لتلاميذه: “أنتم الذين ثبتم معي في تجاربي” (لو 22: 28).

مع أن ثباتهم كان ضعيفًا، هؤلاء الذين لم يستطيعوا أن يسهروا معه ساعة واحدة (متى 26: 40) والبعض منهم خاف وهرب. ساعة القبض عليه، وبطرس أنكره ثلاث مرات، ولم يقف معه عند الصليب سوى واحد فقط هو يوحنا، إلا أن مجرد سيرهم وراءه وتمسكهم به كمعلم لهم، كل هذا الذي كان في نظرهم شيئًا بسيطًا لم ينسه الرب مطلقًا. وبنفس الأسلوب:

وامتدح الرب الذين جاءوا في الساعة الحادية عشرة.

مع أنهم جاءوا في آخر النهار، ولم يعملوا سوى ساعة واحدة. ولكنه مع ذلك قبل منهم هذه الساعة، وأعطاهم أجره كالباقين. ولم يرفض هذه الساعة، بل امتدحها. على الأقل تدل على أنهم مثمرون وقادرون على العمل.

وكما قَبِلَ القليل من هؤلاء، قبل أيضًا فلسي الأرملة.

ومدحها، وقال إنها أعطت أكثر من الجميع، لأنها أعطت من أعوازها (مر 12: 44). وقد يكون الفلسان شيئًا تافهًا. ولكن الإعطاء من العوز هو شيء كبير جدًا عند الله أيًا كانت الكمية المعطاة.

لذلك إن صليت مجرد دقائق من أعوازك، يقلبها الله..

إن ضاق بك الوقت جدًا، ولم تجد -مرغمًا- سوى لحظات ترفع فيها قبلك إلى الله، فلا تصغر نفسك، ولا تفقد رجاءك إذ لم تستطيع أن تصلي كما ينبغي! إن الله يفحص القلب ويعرف ظروفك، وهل الأمر عن إهمال أو لا مبالاة أم أنك تعطي من أعوازك في الوقت.

كانت صلاة العشار قصيرة، جملة واحدة، وقبلها الله..

وخرج هذا العشار مبررًا دون الفريسي (لو 18: 9-14) لأنه كان يصلي من قلبه، وبانسحاق، ولا يجرؤ أن يرفع نظره إلى فوق. فكانت الجملة الواحدة التي قالها، هي عند الله كثيرة الثمن جدًا وغالية عليه. ولم يطالبه الله ببرنامج روحي طويل فوق مستواه، كما يفعل القديسون. بل اكتفي الرب بانسحاق العشار..

كذلك فإن الله قبل من اللص اليمين توبة قدمها في آخر ساعات حياته (لو 23: 43) ورضي من السامرية بما اعتبره اعترافًا، مع أنها لم تشرح كل شيء.. (يو 4). وطوب وكيل الظلم -علي الر غم من أخطائه- لمجرد اهتمامه بمستقبله (لو 16: 8).

لا تيأس إن كان عملك الروحي ضعيفًا وثمرك قليلًا.

لا تقل “لا فائدة. أنا لم أعمل شيئًا” وتيأس بسبب ذلك. واعلم أن الله لا ينبس أي عمل بسيط، ربما تكون أنت قد عملته ونسيته. إنه لم ينس لملكة التيمن أنها سافرت لتسمع حكمة سليمان. وبسبب هذا العمل الذي يبدو بسيطًا، قال إنها ستقوم في يوم الدين وتدين ذلك الجيل (متى 12: 42).

انظر في اهتمام الرب بالعمل الصغير، قول القديس ذهبي الفم:

إن الله يجول طالبًا سببًا لخلاصك، ولو دمعة واحدة..

حقًا إن الرب يرضى بالقليل مادام بروح طيبة، ومادام الإنسان اعجز من أن يفعل أكثر. ويأخذ الرب هذا القليل وينمه ويجعله كثيرًا. فلا تيأس، ولا تجعل الشيطان يحاربك قائلًا: ماذا فعلت؟! هوذا الله يطلب منك الكمال (متى 5: 48)!

نعم إن الله يطلب الكمال، ولكنه لا يطلب منك أكثر مما تقدر عليه.

إنه يضع في حسابه لك: إمكانياتك وظروفك. وهو يقبل منك التدرج… المهم أن تكون سائرًا في الطريق، وليس أن تكون وصلت إلى نهايته. وهو يعطيك فرصة ويطيل أناته عليك، لكي يقودك إلى التوبة.

ولكن طول أناة الله لا يجعلنا نتهاون ونتكاسل!

وثمرنا القليل لا يعني أن نرضي به ونكتفي! كلا وإنما نجاهد وننمو، ولكن في رجاء، غير يائسين، بل طالبين من الله أن يقوي ضعفنا، ويمنحنا النعمة والمعونة لكي نعمل في كل حين ما يرضيه..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


32- أعطانا وصايا في مستوى احتمالنا 🔗

تدرج معنا تدرجًا كبيرًا من وصايا العهد القديم إلى الكمال العهد الجديد. وقد لام الكتبة والفريسيين لأنهم يحملون الناس أثقالًا عسرة الحمل، وهم لا يريدون أن يحركوها بأصابعهم وقال لهم أنهم في ذلك قد أغلقوا أبواب الملكوت، فما دخلوا ولا جعلوا الداخلين يدخلون (متى 23: 4: 13).

وهكذا نرى تلاميذ الرب في أول مجمع لهم في أورشليم الخاص بقبول الأمم يقولون “لا يثقل على الراجعين إلى الله من الأمم، بل يرسل إليهم أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام والزنى والمخنوق والدم” (أع 15: 19، 20) والقديس بولس الرسول يقول لأهل كورنثوس:

“سقيتكم لبنًا لا طعامًا، لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون” (1 كو 3: 2).

ومن رأفة الله وعطفه، إنه حينما يعطي معها قوة لتنفيذها، فترافقنا نعمته لكيما نستطيع ويعطينا روحه القدوس ليعمل فينا، لكي نستطيع أن نعمل.

والله في رأفته يتراءف على خليقته كلها، ليس الإنسان فحسب، بل حتى الحيوان والطبيعة.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


33- حنو الله ورأفته على الحيوان 🔗

أن الله الذي منح الإنسان راحة في السبت، أعطى ذلك للحيوان أيضًا، فقال “وأما اليوم السابع فسبت للرب إلهك.. لا تعمل فيه عملًا ما، أنت وأبنك وأبنتك وعبدك وأمتك، وثورك، وحمارك وكل بهائمك” (تث 5: 14).

ولم يهتم فقط براحه الحيوان بل براحة الأرض أيضًا.

فقال: ست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها.. وأما في السابعة فتريحها وتتركها” (خر 23: 10، 11؛ لا 25: 3-5). وعلى الرغم من التشديد في حفظ السبت، وعدم العمل فيه، قال الرب “من منكم يسقط حماره أو ثورة في بئر، ولا ينشله حالًا في يوم السبت؟!” (لو 14: 5) وقال أيضًا “من منكم له خروف واحد. فإن سقط هذا في السبت في حفرة، أفما يمسكه ويقيمه؟!” (متى 12: 1) وقال كذلك لمن لامه على إبراء المرأة المنحنية في يوم السبت، “يا مرائي، ألا يحل كل واحد منكم في السبت ثورة أو حماره من المذود ويمضي به ويسقيه” (لو 13: 5).

هكذا جعل إنقاذ أو إطعام ثور أو حمار أو خروف استثناء واجبًا من وصية عدم العمل في السبت.

ومن شفقته على الحيوان أيضًا قال “لا تطبخ جديًا بلبن أمه” (خر 23: 19؛ ثت 14: 21) وقال أيضًا “لا تكم ثورًا دارِسًا” (1 كو 9: 9). وحتى الآن الثور أثناء الدراسة لا يكمم، بل يمد فمه ويأكل كيفما يشاء، ومن اهتمام الله بالعطف على الحيوان، قال أيضًا:

“لا تحرث على ثور وحمار معًا” (تث22: 10).

ذلك لأنهما ليسا بقوة واحدة فإن أسرع الثور سيرهق الحمار والله يشفق على هذا الحمار من الإرهاق. وهكذا عندما دخل السيد المسيح إلى أورشليم ركب على أتان وجحش ابن أتان (متى 21: 5) حتى يريحهما في الطريق، إذ يستبدلهما، فيركب على الواحد ويريح الآخر وظهرت شفقة الرب على الحيوان بإشفاقه على حمار بلعام وتوبيخه بلعام على ضرب حماره ظلمًا” (عد 22: 32).

وظهرت شفقة الرب حتى على العصافير: يحميها ويقيتها.

وهكذا يقول “أليس عصفوران يباعان بفلس، وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم؟” (متى 10: 29) أي بدون سماح منه لا يسقط عصفور.. ويقول أيضًا “انظروا إلى طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها” (متى 6: 26) وليست هي فقط بل يقول المزمور:

“يعطي البهائم طعامها، وفراخ الغربان التي تدعوه” (مز 147: 9).

حتى فراخ الغربان يا رب؟! نعم. فالغربان أيضًا ذكرها الكتاب وكانت لها رسالة! إيليا النبي في وقت المجاعة، كانت الغربان تأتيه بطعام (1 مل 17: 4-6) وهكذا كان يحدث مع الأنبا بولا السائح، وكما اهتم الرب بالطيور، والعصافير والبهائم “اهتم أيضًا بالخروف الضال وبحث عنه حتى وجده” (لو 15).

واهتم الله بالحيوانات وبالطيور في فلك أبينا نوح!

ادخلها جميعها في الفلك، ولم يهمل أحدًا منها حتى الحشرات والهوام، استبقي لها حياة لتعيش، وكان أبونا نوح يقدم لها الطعام كل يوم.. إن في ذلك لعجبًا.. أقصد هذا العطف العجيب.

وكما يشفق الله على الحيوان فيمنحه حماية من الطبيعة ومن الافتراس.

الدب القطبي، أو الثعلب القطبي، يعيش الواحد منهما في جو بارد جدًا، لذلك يمنحه الله فراء ثمينًا لتدفئته، تشتهيه النساء الثريات، وتدفع في شرائه ثمنًا وفيرًا، أما حيوانات البلاد الحارة فلا تحتاج إلى فراء فيعفيها الرب منه.. ولأن الجمل يعيش في الصحراء، لذلك يعطيه الله قوة عجيبة يتحمل بها العطش والجوع، ويعطي نفس القوة على الاحتمال للنخلة في الصحراء.

وكما يعطي الحيوانات المفترسة مخالب وأنياب لتعيش كذلك يعطي الحيوانات الضعيفة وسيلة للهرب.

الأسد اقوي من الغزال، يستطيع أن يفترسه. ولكن الرب يعطي الغزال قوة عجيبة في الجري، يمكنه أن يهرب من الأسد، كذلك الكلب يستطيع أن يفترس القط. ولكن الرب يعطي القط القدرة التي يمكنه بها القفز على الأشجار والجدران فينجو من الكلب.. وبنفس الطريقة يعطي العصافير خاصية الطيران فتنجو، كما يعطي الفأر القدرة على الحفر والاختباء، فينجو.. ما أعجب شفقة الله.

أنظروا جمال الصوت الذي يعطيه الرب للبلابل وللطيور المغردة.. انظروا جمال الشكل الذي يعطيه الرب للطاووس، بل للفراشة، أنظروا جمال الرائحة التي يعطيها الرب للورود والفل والياسمين، والأزهار العطرة. تأملوا القدرات العجيبة التي يعطيها الله للنحلة في صنع بيوتها بهندسة دقيقة، وفي صنع الشهد من الرحيق، بل في صنع غذاء الملكات، كل ذلك الذي يأخذه البشر منها طعامًا ودواء. بل تأملوا النملة في نشاطها وحركتها الدائبة.. إن الله يعطي خليقته من هذه الصفات ما يكون أمثولة أمام الإنسان يشتهي أن يحاكيها.

وإن كان هذا عطف الله على مخلوقاته، فكم بالأولى على الإنسان.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


34- حنو الله الفائق على الإنسان 🔗

يكفي أن الله أوجده بطبيعته ممتازة: له عقل وروح واردة.

له العقل الذي استطاع أن يصل إلى الاختراع، ويصنع الأقمار الصناعية وسفن الفضاء ويصل إلى القمر، ويمشي في الجو في مناطق انعدام الوزن.. وأعطاه الإرادة الحرة التي يمكنه بها أن يفعل ما يشاء.. وأعطاه الذكاء لكي يفهم.. ولم يشأ الله أن ينزع الذكاء حتى من الأشرار الذين يعصونه.. وفوق المواهب الطبيعية، أعطى الله لبعض البشر مواهب فائقة للطبيعة وقدرة على صنع المعجزات، بقوة منه.. ما أعجب ما قيل إن الإنسان خلق على صورة الله ومثالة (تك 1).

ومنح الله للإنسان الخلود والحياة الأبدية.

منحه أن تكون له حياة دائمة في ملكوته بعد قيامة الجسد من الموت، ووعده بالنعيم الأبدي في عِشرة الله وملائكته، في أورشليم السمائية “مسكن الله مع الناس” (رؤ 21: 3). وقال للأبرار “حيث أكون أنا، تكونون أنتم أيضًا (يو 13: 4) بل وعد الذين يحبونه بأن يتمتعوا بحياة عجيبة في الأبدية، يكفي أنها قيل عنها “ما لم تره عين، ولم تسمع به إذن، ولم يخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه” (1 كو 2: 9).

ومن محبة الله للبشر أنه دعاهم أبناءه:

وفي هذا يقول القديس يوحنا الرسول “انظروا أية محبة أعطانا الآب، أن ندعي أولاد الله” (1 يو 3: 1). وأعطانا أن نصلي له قائلين “أبانا الذي في السموات (متى 6) بل أنه يقول “لا أعود أسميكم عبيدًا.. بل سميتكم عبيدًا.. بل سميتكم أحباء” (يو 15: 15).

وهكذا جعل الله الرابطة التي تربطنا به هي رابِطَة الحب.

وقيل إنه “أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم حتى المنتهي” (يو 13: 1). وشبه هذا الحب بمحبة الآب لبنيه، وهكذا قال داود النبي في المزمور: “كما يتراءف الآب على البنين، يتراءف الرب على خائفيه” (مز 103: 13) بل وصل الحب إلى أن لقبنا الله بعروس له، ووصف حبه لنا بطريقة رمزية في سفر نشيد الأناشيد.

ووصلت محبة الله للإنسان إلى حد البذل والفداء..

“هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16) وقال السيد المسيح “أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيتكم به”، “وليس لأحد أعظم من هذا، أن يضع احد نفسه لأجل أحبائه” (يو 15: 14، 13) وبسبب هذا الحب والبذل والفداء، كان التجسد وإخلاء الذات (في 2: 7) وقيل عنه في فدائه لنا “كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه. والرب وضع عليه إثم جميعًا” (أش 53: 6).

ومن محبة الله لنا.. أعطانا طريق التوبة لمغفرة الخطايا.

فلم يمسكنا في خطايانا ليعاقبنا عليها، غنما فتح لنا طريقًا للخلاص بالتوبة. وقيل في الكتاب: “إن الله أعطى الأمم أيضًا التوبة للحياة” (أع 11: 18) بل قال أيضًا: “هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون إلى توبة.. إن الله يتوبنا فنتوب” (ار 31: 18) بل “يقودنا في موكب نصرته” (2 كو 2: 14).

ومن عطف الله على الإنسان أنه منحه الوحي الإلهي.

وهكذا “كلم الله الآباء بالأنبياء بأنواع وطرق شتي” (عب 1: 1) ومنح البشرية وصاياه وتكلم مع موسى النبي فمًا لأذن كما تكلم أيضًا مع إبراهيم.. وأعطانا الله الشريعة المكتوبة “تكلم بها أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2 بط 1: 21). وهكذا علمنا الرب طرقه، وفهمنها سبله وأنار بصائرنا حتى لا نضل الطريق.

بل جعل الله روحه فينا.. وجعلنا مسكنًا لروحه القدوس.

وفي هذا يقول القديس بولس الرسول “أما تعملون أنكم هيكل الله، وروح على الناس وفي الناس صار روح الله يعمل فيهم، وصارت لهم ثمار الروح (غل 15: 22، 23)، وصارت لهم أيضًا مواهب الروح المتعددة (1 كو 12) والدخول في شركة الروح القدس (2كو 13: 14) بل صاروا “شركاء الطبيعة الإلهية” (2 بط 1: 4) أي يشتركون معها في عمل الخلاص. شركاء في العمل، وليس في الجوهر أو الطبيعة طبعًا.

ومن عطف الله على الإنسان أن منحه البركة والنعمة.

وبركات الله لا تحصي، أما نعمته فهي موضوع طويل، قد أحدثكم عنه باستفاضة فيما بعد. وبدأت بركة الله للإنسان منذ أن خلقه، وتتابعت البركة على الآباء والأبرار، بل قيل لأبينا إبراهيم “أباركك.. وتكون بركة” (تك 12: 2) وهكذا سمعنا عن البركة التي منحها الآباء لأبنائها…

ومن عطف الله على الإنسان الحفظ والتدبير وخدمة الملائكة.

جميع ومعز ما قيل. عن الملائكة “أليسوا جميعهم أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب 1: 14) وعمل الملائكة في إنقاذ البشرية الله في السماء” (متى 22: 30) وتسمى بعض البشر ملائكة (رؤ 2، 3) مثل يوحنا المعمدان (مر 1: 2) وما أجمل ما يقال عن الملاك الحارس.

ومن عطف الله معنا في التجارب.

لا يجربنا فوق ما نطيق، ويعطي مع التجربة الاحتمال، ويعطي معها المنفذ، وأكاليل وبركات المهم أن نقابل محبة الله وعطفه، بمحبة، ولا يقودنا عطفه إلى اللامبالاة.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


35- مَنْ ردهم الرب إلى أرضهم؟ 🔗

يعقوب أبو الآباء، كان خارجًا من بيت أبيه، خائفًا من أخيه عيسو. وكان سائرًا في الطريق، ولا يعرف ماذا ينتظره. كل ما كان يعرفه، أنه وضع أمامه نصيحة أمه رفقة التي له: “هوذا عيسو أخوك متسل أخوك متسل من جهتك بأنه يقتلك.. قم أهرب إلى أخي لابان إلى حاران، وأقم عنده أيامًا قليلة، حتى يرتد سخط أخيك، حتى يرتد غضب أخيك، حتى يرتد غضب أخيك عنك..” (تك 27: 43، 45).

وفيما هو هارب من أخيه المزمع أن يقتله، طمأنه الرب بقوله: “ها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلى هذه الأرض”.

إنه حنو من الحِفْظ الإلهي.

إلهنا الحنون الطيب، يرافق إنسانًا في هربه، ليحفظه، حيثما يذهب، ويكون معه، ويرده إلى أرضه.

ويظهر حنو الله وحفظة في هذه القصة، مما يأتي:

كان عمل الله رجاء مقدمًا لإنسان ضعيف عاجز:

  • فأبونا يعقوب ما كان قادرًا أن يحمي نفسه.

  • وكان أضعف من عيسو بكثير، وعدوه كان قادرًا على قتله.

  • وما كان يعقوب قادرًا أن يحفظ نفسه في الطريق، ولا أن يرجع بقوته إلى تلك الأرض.. وهنا تدخل الله، إله الضعفاء، ليحفظ ويحمي ويرد.

هناك عمل إلهي في حياة كل إنسان..

  • عمل إلهي مصحوب بمواعيد، تعطي رجاء للنفس المتعبة..

وسنحاول أن نتتبع أمثلة لهذا العمل الإلهي، وهذا الحفظ الإلهي، كما يبدو قصص الكتاب المقدس.

  • حينما أخذ شعب الله مسبيًا إلى بابل وإلى آشور، وكانوا هناك مستعبدين، أسري الحرب، عاجزين عن حماية أنفسهم.. وقد ملكتهم الكآبة، وعلقوا قيثاراتهم على أشجار الصفصاف، ورددوا قول المزمور: “علي أنهار بابل هناك جلسنا، فبكينا حينما تذكرنا صهيون” (مز 136: 1).

هنا تدخل الله، وهمس في إذن الشعب بكلمة رجاء، قال له فيها: “ها أنا معك. وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلى هذه الأرض”.. وقد كان:

عادوا من السبي، وبنوا أسوار أورشليم المهدمة، وأصلحوا أبوابها المحروقة بالنار، وردهم الرب إلى تلك الأرض..

وقد شرح نحيما في فرح عظيم قصة هذا الرجوع، وعمل الله معه فيه. وكما نفذ الله وعده لفرد واحد هو يعقوب، نفذ أيضًا نفس الوعد لشعب بأكمله..

  • هناك شخص آخر، كانت حالته أسوأ.. هو أبونا آدم:

  • أخطأ أبونا آدم وكسر الوصية. وطرده الرب من الجنة. وقال له بالتعب تأكل من الأرض كل أيامك. ووضع الرب الكاروبيم بلهيب سيف متقلب لحماية شجرة الحياة، حتى لا يأكل منها آدم ولا حواء. وأغلقت أبواب الفردوس أمامها (تك 3).. وماذا بعد؟

وسط كل هذا المتعب، ومع هذه العقوبة وهذا الطرد، كان نفس الوعد الإلهي مقدمًا لأبينا آدم “ها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلى هذه الأرض”..

ومتى رده الرب إلى الفردوس..؟ كان ذلك بعد أكثر من خمسة آلاف سنة؟.. ليكن..

  • إن وعد الله قائم، مهما طالت الأيام عليه..

لقد مرت آلاف السنوات، انقضت واختفت. ولكن لم تمر أبدًا ولم تختف عن نظر أحد من الآباء، تلك العبارة المعزية “ها أنا معك.. وأردك إلى هذه الأرض”.

ورقدوا جميعهم على رجاء..

  • يرتل كل منهم عبارة المزمور “وأنا أؤمن أني أعاين خيرات الرب في أرض الأحياء. انتظر الرب..” (مز 27: 13).

إن عقوبة الله لم تستمر.. الله لا يغضب إلى الأبد، ولا يحقد إلى الدهر (مز 103: 9). لقد طرد آدم لأنه أخطأ. ولكنه مع الطرد، أعطاه الوعد بالخلاص..

وعندما سمر ربنا يسوع المسيح على الصليب، وحمل جميع خطايانا، ودفع الثمن كاملًا للعدل الإلهي، ماذا حدث؟

  • فتح الرب أبواب الفردوس، ورد آدم إلى تلك الأرض.

ورد معه جميع بنيه، الذين رقدوا على رجاء، وكذلك اللص اليمين الذي مات على رجاء الوعد الإلهي “اليوم تكون معي في الفردوس”. ونحن نسبح الرب ونقول له:

صادقة يا رب هي مواعيدك. وحقيقي كل رجاء تقدمه.

حينما تقول لأحد “أردك إلى هذه الأرض، لابد أن ترده فعلًا.

يعقوب أبو الآباء، مرت عشرون سنة، ورددته إلى أرضه. والشعب المسبي، مرت سبعون سنة ورددته. إلى الفردوس.

مواعيد الله لا بُد أن تنفذ. لا يهم بعد عشرين سنة، أو سبعين، أو خمسة آلاف..

المهم أن يحقق الله وعده، في الموعد الذي يحدده وفي محبة وقوة، يرد تلك النفس التي وعدها وهنا تظهر قوة العمل الإلهي في حياة الفرد، أو الجماعة.

ونلاحظ ملاحظتين في هذه الأمثلة الثلاثة التي ذكرناها.

هذه الأمثلة الثلاثة تدور حول نفوس كانت عاجزة، وأيضًا خاطئة..

لا شك أن أبانا يعقوب كان عاجزًا عن رد نفسه إلى أرضه. وكذلك الشعب في السبي. وأيضًا آدم كان في عجز مطلق عن رد نفسه إلى الفردوس..

وهذه الأمثلة الثلاثة، تدور حول نفوس قد أخطأت إلى الرب، وبالتالي ما كانت مستحقة لوعوده..

آدم معروفة خطيته أو خطاياه العديدة(1).

ويعقوب خدع أباه الضرير، وأخذ البركة بالغش والاحتيال، كما سبق أن أخذ البكورية من أخيه باستغلال إعياء أخيه في جوعه. وشعب إسرائيل كان قد وقع في عبادة الأصنام، مع خطايا أخرى كثيرة جدًا أغضب بها الرب، حتى دفعه إلى أيدي أعدائه.

ولكن الله لا يعطي مواعيده وحِفظه للأبرار فقط..

حتى الخطاة أيضًا، لا يُسْقِطهم الرب من رعايته وحفظه..

ولو كان الخطاة محرومين من عناية الله، ما خلص أحد..

ولكن الرب جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك.. وقد أعلن أن المرضي هم الذين يحتاجون إلى طيب، وليس الأصحاء. وأنه جاء ليدعو الخطاة -وليس الأبرار- إلى التوبة.

  • ما أكثر وعود الرب للخطاة، بردهم إلى تلك الأرض..

حتى في سقوط الإنسان وفي خطيئته، يقول له الرب: أنا معك، وأردك إلى هذه الأرض، أرض الأحياء.

الخروف الضال الذي خرج من الحظيرة وتاه، ولم يعرف يعيد نفسه إلى حظيرته، قال له الرب أيضًا: لا تخف، أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلى هذه الأرض”. وفعلًا حمله على منكبية فرحًا، وأعاده إلى حيث كان.

والدرهم المفقود أيضًا، ما كان بقدرته أن يرجع إلى جيب صاحبه أو صندوقه ولكن الرب كان معه، وحفظه ورده إلى تلك الأرض.

  • ولنا مثل آخر، في قصة يونان النبي:

يونان بخطيئته القي في البحر، وبخطيئته ابتلعه الحوت.. وظل في بطن الحوت. مَنْ الذي يقدر أن يخرجه؟!

ولكنه في بطن الحوت، صلي إلى الدرب، لكي يعود فيري هيكل قدسه. ونظر الله إليه وهو في جوف الحوت وقال له: لا تخف. ها أنا معك، وأردك إلى تلك الأرض.. وقد كان..

عجيبٌ هو الله. كل شيء مستطاع عنده..

حتى ما يبدو مستحيلًا أو غير مستطاع، عند الناس..

  • هل كان يجول في ذهن الثلاثة فتية، وهو يلقون في أتون النار، أنهم سيعودون مرة أخرى إلى بيوتهم؟!

ولكن في وسط النار، كان الرب يهمس في أذن كل واحد منهم “أنا معك.. وأردك إلى هذه الأرض”.

  • ودانيال أيضًا، وهو في جب الأسود، ملقي في وسط الأسود الجائعة، يقول له الرب نفس العبارة..

وفعلًا، أخرج الله دانيال سالمًا من الجب.

وأخرج الثلاثة فتية من أتون النار.

كما سبق وأخرج يونان من جوف الحوت وردهم جميعًا..

حقًا عجيب هو الرب! عجيب في محبته، وفي حفظه، وعجيب في عمله الإلهي! عجيب في كل مرة قال فيها لأحد أحبائه: أنا معك، وأردك إلى هذه الأرض.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


36- مَنْ ردهم إلى أرض الأحياء بالتوبة 🔗

  • على أن هذه العبارة، يمكن أن تؤخذ بطريقة روحية أخرى. ولنبدأ ببطرس الرسول كمثال.

إنه بعد أن أنكر السيد المسيح، بكي بكاء مرًا، إذ شعر أنه قد أنفصل عن الرب وعن محبته. وانفصل عن باقي الرسل، وعن الخدمة وكل العمل الرعوي..

ولا شك أنه قد زنت في أذنيه عبارة الرب “من أنكرني قدام الناس، ينكر قدام ملائكة الله” (لو 12: 9).

ولكن الرب عزاه بنفس العبارة، التي سبق فعزي بها أبانا يعقوب “أنا معك وأردك..”. ولكن كيف رده الرب، ومتى؟ حينما ظهر له، وقال له في حنو “ارع غنمي. وارع خرافي” (يو 21: 15).. وحينئذ شعر بطرس أن الرب قد رده إلى جماعة الرسل..

  • وداود النبي، حينما زنى وقتل، وسقط من ذلك العلو العظيم الذي كان فيه. ولعله كانت في فِكره عِبارة أوريجانوس [أيها البُرج العالي، كيف سقطت؟!].

وبكي داود بكاء شديد مستمرًا، وفي كل ليلة كان يبلل فراشة بدموعه، ولكن إلهنا الحنون الطيب، لم يتركه وحيدًا في أحزانه، بل قال له: “أنا معك، وأردك إلى تلك الأرض”..

أردك إلى أرض التوبة والنقاوة، والمصالحة مع الله.

واستطاع الرب أن يرد داود، وأن يغسله فيبيض أكثر من الثلج، وأن يرد له بهجة خلاصه (مز 51: 12).

وبنفس الوضع رد الرب شمشون بعد سقوطه..

ولعله بنفس الوضع أيضًا رد سليمان بن داود، الذي قال له عنه: “إن تعوج أؤدبه.. ولكن رحمتي لا تنزع منه، كما نزعتها من شاول” (2 صم 7: 14، 15).

لقد مَرَّ وقت على داود، ظن أنه لا خلاص..

وهكذا صرخ إلى الرب قائلًا: “يا رب لماذا كثر الذين يحزنونني؟ كثيرون قاموا عليّ كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه” (مز 3).\

ووسط هذه الأفكار التي يزرعها الشياطين، تبدو وعود الرب مملوءة رجاء “أنا معك، وأردك إلى هذه الأرض”..

هذه العبارة هي أقوى سلاح في التوبة والرجوع..

كثيرين أنهم يظنون بأنهم سيعودون إلى الله، بقوة إرادتهم، وبعزيمتهم، وبصدق عزمهم على الرجوع، دون أن يضعوا العامل الإلهي في قصة عودتهم إلى الله!!

كلا، صدقوني.. فلو كان الإنسان الخاطئ هو الذي يعيد نفسه إلى الله، ما عاد أحد..

إنما الإنسان يصرخ إلى الله: توبني فأتوب، خلصني فأخلص (أر 17: 14). والسيد المسيح يقول في وضوح “بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئًا” (يو 15: 5).

إن النفس الميالة إلى الخطية، وكذلك الإرادة الضعيفة، وحروب الشياطين والمعطلات الروحية.. كل هذه تصد الإنسان، وتحاول منعه عن الرجوع إلى الله. ولكن نعمة الله تقف أمام هذه المعطلات. وصوت الرب يقول في حنو للخاطئ: “لا تخف. أنا معك. أحفظك.. وأردك إلى تلك الأرض”.

أنا أردك إلى تلك الأرض، مهما بعدت أنت وضللت..

ومهما كان يبدو لك أو لغيرك، أن الخلاص بعيد عنك أو مستحيل، أو أن التوبة غير ممكنة..

أنا معك، عندما يحاربك الشيطان باليأس..

حينما يحاربك عدو الخير، ويقول لك: أن الخطية لم تعد مجرد عادة عندك، بل صارت طبيعة فيك. ولن تقدر على تركها. لقد صارت ملتصقة بك. أكثر من التصاق جلدك بلحمك. وصارت تسري فيك أكثر من سريان دمك في عروقك..!!

لا تخف منه ومن أفكاره، بل قل له في ثقة:

أنا لن أرجع إلى الله وحدي، أو بقوتي..

هو الله الذي سيردني إليه، الله الذي قال:

“أنا معك. وأحفظك. وأردك إلى تلك الأرض”.

ما دام الله هو الذي يردني، إذن فغير المستطاع عند الناس، هو مستطاع عند الله (مر 10: 27).

إن الله يقول لنا في وعوده:

“أعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدة في داخلكم. وأنزع قلب الحجر من لحمكم، وأعطيكم قلب لحم. وأجعل روحي في داخلكم. وأجعلكم تسلكون في طرقي وتحفظون أحكامي” (حز 36: 26، 27).

ويقول أيضًا “هلم نتحاجج -يقول الرب- إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيض كالثلج” (إش 1: 18).

إنه الرب الذي يعمل العمل كله، ويردنا إليه..

بأنواع وطرق شتَّى، يردنا الرب إلى أرضه:

بالحب والحنان، يردنا الرب إلى تلك الأرض..

وإلا.. فبالشدة والعقوبة يردنا، أو بالتجارب والضيقات.

أو بالتعليم والإرشاد.. أو بصبره علينا وطول أناته.

بأيَّة الطرق.. بالوسيلة المناسبة لكل نفس على حدة..

المهم، أنه يخلص على كل حال قومًا. لأنه يريد أن الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4). وهو لا يسر بموت الخاطئ، بل بالحري أن يرجع ويحيا (حز 33: 11).

إنه الرب الراعي الشفوق، الذي يحافظ على غنمه..

هو الذي يحنن عليك قلوب الناس..

وهو الذي من أجلك يربط الشيطان، فلا يستطيع أن يؤذيك.

هو الذي يحوط حولك من كل ناحية، فتغني وتقول:

سبحي الرب يا أورشليم، سبحي إلهك يا صهيون لأنه قوي مغاليق أبوابك، وبارك بنيك فيك الذي جعل تخومك في سلام، ويملأك من شحم الحنطة.

الله هو الذي يقوي مغاليق أبوابك، ويجعل تخومك في سلام.

ضع أمامك باستمرار، عمل الله في حياتك، وليس عملك أنت.

ما هو عمل الله في حياتك؟ ماذا عن يد الله معك، يمين الله التي صنعت قوة التي تمسك بك وتسندك..

ماذا يفعل الروح القدس من أجلك؟ وماذا تعمل قوة الله ونعمة ربنا يسوع المسيح من أجلك؟..

ماذا تفعل تشفعات الملائكة وصلوات القديسين من أجلك؟

أما عملك أنت، فله المكان الثاني، أو المكان الأخير..

أما المكان الأول، والمكانة الأولى، فلعمل الله، ولوعد الله القائل: أنا معك. أحفظك، وأردك إلى تلك الأرض.

يا ليت هذا الوعد الإلهي، يكون ثابتًا في ذاكرتنا:

نضعه أمامنا باستمرار، فنتعزَّى ونتقوَّى..

كلما تيأس أنه لا خلاص، أو أنه لا فائدة من كل جهادك، تذكر هذه العبارة الإلهية.

كلما يضغط عليك الشيطان، ويقول أنت في قبضتي!

ويقول لك: لن أتركك، لقد وقعت في يدي!

قل له: ما هي قضيتك؟ وما هي قوتك؟! أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية؟! (1 كو 15: 55).

هناك الوعد الإلهي: “أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب”.

حسنٌ يا رب قولك. ولكن ماذا عن عيسو أخي؟

عيسو الشديد القاسي الذي يتهددني، الذي قال في غضبه “أقوم وأقتل يعقوب أخي “؟ يرد الرب ويقول:

“لا تخف. أنا معك. أحفظك حيثما تذهب”.

مبارك أنت يا رب، ومبارك هو حنوك. ليكن لي كقولك.

ولتكن قويًا من الداخل، مهما أطبقت حولك الضيقات..

مهما تآمر عليك الأشرار، وماجت حولك المياه الكثيرة..

مهما تفكرت الشعوب بالباطل، تآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه، قائلين: لنقطع أغلالهما، ولنطرح عنا نيرهما.

لا تلتفت إلى كل هذا، بل ضع أمامك الوعد الإلهي: أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب..

حقًا، مادامت أنت يا رب معي، فالدنيا بأسرها كلا شيء قدامي..

هذه الدنيا كلها، كقبض الريح، كالهباء، بكل ما فيها من مؤامرات الناس الأشرار، وكل الهياج، وصوت المياه الكثيرة..

بما فيها من مَكْر لابان خالي، الذي غير أجرتي عشر مرات (تك 31: 7). وأعطاني ليئة بدلًا من راحيل (تك 29)..

ما دام وعدك يا رب قائمًا أمامي، فلن أخاف البحر الأحمر أن اعترض سبيلي. أنت قادر أن تشقه، وتمهد لي طريقًا في داخله، وتقول لي: امش فيه، وأنا معك، أحفظك حيثما تذهب..

حتى إن وقف أمامي جليات الجبار، وعيرني طول النهار، وهددني برمحه الذي مثل نول النساجين، وبسيفه وقوته وشماتته.. أقول له: أنت تأتيني بسيف ورمح ولكن الحرب للرب، فإنا لذلك أتيك ومعي الوعد الإلهي القائل: أنا معك، أحفظك حيثما تذهب..

لهذا كله، كان أولاد الله دائمًا فرحين ومطمئنين.

عاشوا بقلب مطمئن في جهادهم الروحي، وفي كل الحروب الروحية. ولم يتعبوا من حروب الشياطين، ومن صراعهم مع أجناد الشر، قوات هذا العالم المظلم. بل تركوا العالم يضطرب حولهم كما يشاء، وتمسكوا بالوعد الإلهي المملوء رجاء وعزاء.

وأنت كذلك في كل حروبك الروحية، وفي كل ضيقاتك ومشاكلك، لا تنظر إلى القوَى الخارجية التي تحاربك، ولا تفكر من سيقابلك في الطريق ويعترضك. بل ركز فكرك ومشاعرك في وعود الله، التي تشجعك وتسندك وتعزيك.

كم أنت حنون يا إلهي وطيب..

وكم هي معزية، وعودك التي ترافق أولادك طول مسيرتهم في غربة هذه الحياة… كم أنت تعمل، وقوتك الحافظة تعمل..

مفرِحَة هي أقوالك، التي تشجع بها أولادك..

لقد كثر الأعداء حول داود النبي، حتى قال ذات مرة “أكثر من شعر رأسي، الذين يبغضونني بلا سبب” (مز 69: 4). ومع ذلك نراه في كل ضيقاته، ومع كثرة أعدائي، ينسي كل هذا ويقول للرب: “ناموسك هو درسي” (شهاداتك هي تلاوتي) (مز 119).

أية شهادات يا داود، تعزيك في كل ضيقاتك؟

يجيب: أنها كثيرة جدًا، ولكن تكفيني منها واحدة، وهي قول الرب: “أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلى هذه الأرض”.

لست أريد سوَى هذه العبارة. ومادمت معي أيها الرب الإله، ومادامت وعودك في فكري، فلن أخاف شرًا، حتى إن سرت في وادي الموت، لأنك أنت معي (مز 23).

ستجدني كلي شجاعة وإيمان، ورجاء، بموعدك الإلهي..

حقًا يا رب أنك عجيب. وحسن قولك لمنوح والد شمشون.

“لماذا تسأل عن اسمي، وهو عجيب” (قض 13: 18).

إنه منظر عجيب حقًا، أن نرى أولاد الله سائرين في طريق الحياة، ونرى الله ممسكًا بيد كل منهم، يقول له وهو يشجعه: ها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب..

إن قوة المسيحية، في أنها لا تعتمد على بشرية أو إنسانية أو ذاتية، إنما تعتمد على الموعد الإلهي: أنا معك، وأحفظك..

أحفظك من الشياطين، ومن الناس الأشرار،

وأحفظك من نفسك..

أحفظك من كل سوء. احفظ نفسك. أحفظ دخولك وخروجك (مز 121). ويسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات. وأما أنت فلا يقتربون إليك (مز 91) “لا تخشي من خوف الليل، ولا من سهم يطير في النهار، ولا من أمر يسلك في الظلمة” (مز 91).

وإن سرت في وادي ظل الموت، لا تخاف شرًا.

لماذا؟

لأني أنا معك -بعد الموت- أحفظك حيثما تذهب، وأردك إلى هذه الأرض..

وهنا نتأمل: أردكم إلى الأرض الجديدة.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


37- أردكم إلى الأرض الجديدة 🔗

إننا من عند الله خرجنا. نفخة قديسة خرجنا من فمه الإلهي، ودخلنا في هذا التراب، وعشنا فيه زمنًا.

وجودنا في التراب، هو فترة غربة، يصرخ فيها المرتل قائلًا في المزمور: “ويل لي، فإن غربتي قد طالت علي” (مز 120) وفيما نحن نعيش في هذا التراب، ونتعب من هذا الجسد الترابي، نصرخ مع القديس بولس الرسول: “من ينقذني من جسد هذا الموت” (رو 7: 24)، حينئذ يقول الله لكل منا “ها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلى هذه الأرض”.

وما هي هذه الأرض؟

يقول القديس يوحنا الرائي: “أبصرت وإذا سماء جديدة وأرضًا جديدة. لأن السماء الأولى والأرض الأولى قد مضتا، والبحر لا يوجد فيما بعد” (رؤ 21:1).

وينظر الإنسان مبهورًا إلى هذه الأرض الجديدة، التي بارئها وصانعها الرب (عب 11: 10). الأرض المقدسة، التي لا توجد فيها خطية ولا موت. ولا تحتاج إلى شمس ولا إلى قمر ليضيئا فيها، لأن مجد الرب ينيرها (رؤ 21: 23).

ويشير الله إلى هذه الأرض ويقول:

“ها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلى هذه الأرض “ليكن اسم الرب مباركًا، من الآن وإلى الأبد، آمين.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


38- دون أن نطلب 🔗

لعل أحدكم يقول: كيف يكون لي رجاء، وأنا لا أصلي، ولا أطلب من الله نعمة ولا قوة ولا ملكوت الله وبره؟ هل مثلي يكون له خلاص؟!

نعم، إن الخلاص للكل. وإن كنت أنت لا تطلب خلاصك، فإن السيد الرب قد قيل عنه إنه: “جاء لكي يخلص ما قد هلك” (لو 19: 10). إنه يسعى لخلاصك أكثر مما تسعى أنت إليه. وهو في كل مجال يعطينا دون أن نطلب.

إنه شيء مفرح أن يعطينا الله ما نطلب. ولكن عمق الفرح يظهر في أنه يعطينا دون أن نطلب..

هنا عمق المحبة الإلهية نحو البشر. بل هنا أبوة الله الحانية، التي تدرك تمامًا ما نحتاجه وما يلزمنا، فيعطينا من فيض محبته، وليس لمجرد استجابته لصلواتنا. وسأحاول يا أخوتي أن أثبت لكم هذه الحقيقة بأمثلة عديدة، حتى يكون لكم عمق الرجاء في عمل الله لأجلكم.

طبيعة الله الذي يعطي دون أن نطلب، ظهرت واضحة منذ البدء، من أول قصة الخليقة بل في عملية الخلق ذاتها.

إنه منحنا الوجود دون أن نطلب. ومنح الوجود لكل الكائنات التي خلقها العاقلة والجامدة، التي لها حياة والتي ليس لها، طبعًا دون أن تطلب. لقد خلقها كلها من العدم. والعدم ليس له كيان لكي يطلب.

وخلقنا الله على صورته ومثاله دون أن نطلب..

حتى على فرض المستحيل، لو كانت لنا الإمكانية أن نطلب الصورة التي نخلق عليها، ما كنا نطلب أن نخلق على صورة الله ومثاله، كما شاء الله وتحنن (تك 1: 26، 27).

ودون أن نطلب خلق الله لنا هذه الطبيعة وسلطانًا عليها.

أعد لنا كل شيء قبل أن نكون. بسط لنا السماء سقفًا، ومهد لنا الأرض كي نمشي عليها. وكما قال القديس غريغوريوس في قداسه: “لم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك.. من أجلي أخضعت طبيعة الحيوان”.. ومن أجلنا خلق الله الأشجار والأثمار، والعشب والبقول، والأزهار والأطيار. ومن أجلنا خلق النور، ووضع قوانين الفلك.. كل ذلك دون أن نطلب..

ولم يكتف بهذا وإنما قال لنا في حنوه “أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها. وتسلطوا على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى كل حيوان يدب على الأرض” (تك 1: 28).

وخلق الله حواء لآدم دون أن يطلب..

كان يعلم أن آدم لا يجد له معينًا نظيره، مثلما تجد باقي الكائنات (تك 2: 20). فخلق له حواء. وهكذا أمكن أن تنمو البشرية وتملأ الأرض وتعمرها، وكل ذلك دون أن نطلب.

إن هذه هي طريقة الله كأب محب وكراع صالح..

أنه لا ينتظر من أولاده ومن رعيته ومن خليقته أن يطلبوا فيعطيهم. بل هو من تلقاء ذاته يعرف ما يحتاجون إليه، فيعطيهم دون أن يطلبوا..

حقًا ماذا يدركه الطفل الصغير من احتياجاته حتى يطلبها؟!

ولكن أباه يعلم ويفهم ماذا يحتاج إليه ابنه، فيعطيه دون أن يطلب. هكذا نحن مع أبينا السماوي، أنه أدري بما نحتاج إليه. وهو كأب حنون يدبر احتياج كل إنسان، ويدبر احتياجات الأمم والشعوب والجماعات. ولا ينتظر من كل هؤلاء حتى يطلبوا.. وربما لا يطلبون ما يفيدهم وما يفيد غيرهم معهم.

إن كان الكاهن العادي يفتقد رعيته، ويوفي احتياجاتها دون أن تطلب فكم بالأولى الله رئيس الكهنة الأعظم وراعي الرعاة؟

نعم كم بالأولى الله: “راعي نفوسنا وأسقفها” (1 بط 2: 25) الذي قال في حنوه “أنا أرعَى غنمي وأربضها -يقول السيد الرب- وأطلب الضال، واسترد المطرود، وأجبر الكسير وأعصِب الجريح” (حز 34: 15، 16).

إنه يرعَى شعبه، لأن هذا هو عمله، وهذا هو حبه.

ولا ينظر أن ينبهه أحد إلى هذا. إنما نحن نطلب، لأن هذا الطلب يشعرنا ببنوتنا لله، ويعمق الدالة بيننا وبينه، ويعطينا فرحًا داخليًا حينما تُسْتَجَاب طلبتنا. ولهذا قال الرب لتلاميذه:

“إلي الآن لم يطلبوا شيئًا باسمي. اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملًا” (يو 16: 24).

فرح الاستجابة أو فرح الدالة، هو الذي يجعلنا نطلب.

ولكن الله يمنحنا كل شيء، حتى دون أن نطلب.

وفي الكتاب المقدس توجد أمثلة عديدة، تثبت لنا هذه الحقيقة، فلنحاول أن نتأمل بعضها حتى يكون لنا من ذلك عزاء، وحتى يكون لنا رجاء باستمرار في يد الله الذي يعمل من أجل سعادتنا كأب وراع وخالق..

لوط: أنقذه الله مرتين دون أن يطلب..

مرة حينما سبي مع أهل سادوم في حرب أربعة ملوك مع خمسة ملوك التي وردت في (تك 14) ودون أن يطلب لوط، حرك الله قلب إبرآم عمه فجمع رجاله المدربين، وأنقذه من السبي، كما أنقذ أهله والمدينة كلها.

والمرة الثانية حينما قرر الله حرق سادوم. ودون أن يطلب لوط أرسل الله له ملاكين، فأخذاه هو وأسرته بقوة، وكانا يدفعانه إلى الخارج دفعًا وهو متوان (تك 19: 16). وذلك لشفقة الرب عليه ورغبته الإلهية في إنقاذه.

أن الله لا ينتظر حتى يصرخ الإنسان إليه، وإنما..

من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين، الآن أقوم -يقول الرب- أصنع الخلاص علانية” (مز 11).

لم يقل “من أجل صلواتهم وطلباتهم”، وإنما من أجل حالتهم التي رآها، من أجل شقائهم وتنهدهم، يقوم الرب ويصنع الخلاص، سواء طلبوا أو لم يطلبوا لم يطلبوا..

وهكذا في كل مرة يري فيها الله مذلة شعبه (خر 3:7)، يرسل لهم مخلصًا يخلصهم، كما فعل أيام موسى وأيام جدعون (ضق 6).

وأنقذ إسحق من الذبح، في اللحظة الأخيرة، والسكين فوق رقبته، دون أن يطلب (تك 22)..

والله يشبع كل حي من رضاه، دون أن يطلب..

يرسل المطر والشمس، ويعطي الطعام لكل ذي جسد، حتى للملحدين الذين لا يطلبون منه شيئًا. ويعطي جمالًا لزنابق الحقل. إنه يمنح الكل من أجل جوده وهو وخيريته، وليس بسبب استحقاق الناس ولا بسبب طلبهم..

ونذكر في هذا المجال بعض النعم العظيمة التي منحها الله:


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


39- نعم الله العظيمة 🔗

خذوا مثالًا لذلك حبل السيدة العذراء بالله الكلمة.

هل تظنون أن العذراء كانت تطلب هذا الأمر ؟! محال طبعًا! وما كان حتى يخطر بذهنها، بل قد تعجبت له وقالت للملاك: “كيف يكون لي هذا؟!..” (لو 1:34).. ولكن الرب منحها هذه النعمة العظيمة، والقدير صنع بها عظائم (لو 1: 49) دون أن تطلب..

وعملية الفداء والخلاص على الصليب هل طلبها الإنسان؟!

إن أول وعد بالخلاص إنما منحه الله للإنسان دون أن يطلب، حينما قال إن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تك 3: 15).. والخلاص بهذا الشكل، ما كان يفكر أو يحلم به أحد.

هل كان أحد يفكر أن الله يتجسد من أجلنا، ويخلي ذاته، ويتألم ويموت على الصليب؟! أن بطرس الرسول لما سمع هذا الكلام من المسيح “ابتدأ ينتهره قائلًا حاشاك يا رب” (متى 16: 22). إذن هذا الأمر ما كان يطلبه أحد. ولكن الله منحنا هذا الخلاص دون أن نطلب..

وتظهر نعمة الله العظيمة في رفع إيليا وأخنوخ إلى السماء.

هل كان أخنوخ يحلم أو يفكر في أن يكون أول إنسان يرفعه الله إلى السماء ويأخذه إليه؟! (تك 5: 24). أو هل طلب إيليا أن يرفعه الله في مركبة نارية إلى السماء؟! (2 مل 2: 11). إنها نعم لا تخطر على بال، ولذلك من المحال أن يطلبها إنسان. بل يعطيها الله لمن يشاء من أولاده دون أن يطلب..

ونفس الكلام نقوله أيضًا عن النعيم الأبدي.

هذا الذي يقول عنه الكتاب: “ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه” (1 كو 2: 9). وطبعًا من المستحيل أن يطلب أحد ما لم يخطر على بال إنسان.

إننا قد نطلب نعيمًا. ولكن هذه الصورة بالذات، هي شيء فوق ما نطلب، كل ما فيه من تفاصيل لم ترها عين ولم تسمع بها إذن ننالها دون أن نطلب..

أكان بولس الرسول يطلب أن يصعد إلى السماء الثالثة..!

هذه التي رأى نفسه فيها، أفي الجسد ليس يعلم، أم خارج الجسد ليس يعلم.. أو كان يطلب أن يسمع هناك كلمات لا ينطق بها، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها..؟! من يطلب هذا؟! لا أحد طبعًا.

ولكن الله في كل إعلاناته للبشر، يعطي دون أن نطلب..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


40- الرؤى والظهورات 🔗

كلها، قد منحها الله للناس دون أن يطلبوا..

أكان أبونا يعقوب يطلب أن يري سلمًا واصلة بين السماء والأرض؟!

وكان يطلب أن يري ملائكة الله صاعده ونازلة على هذا السلم، وصوت الله يناديه ويمنحه الطمأنينة والهدوء (تك 28: 12-15).. كل ذلك بعد أن خدع أباه وأخذ منه البركة بمكر..

أليس أن هذه الرؤيا جاءت ليعقوب دون أن يطلب؟!

وبنفس الوضع الرؤيا التي رآها القديس يوحنا في بطمس.

إنه لم يطلب مطلقًا في منفاه أن يري المسيح، “ووجهه كالشمس وهي تضئ في قوتها، وعيناه كلهيب نار” بل أن يوحنا لم يحتمل هذا المنظر وسقط على الأرض كميت (رؤ 1: 12-17). حيوانات غير المتجسدين، والملائكة السبعة أصحاب الأبواق، وأصحاب الجامات، وكل ما هو عتيد أن يكون.. وهو لم يطلب أن يري السماء مفتوحة، ويرى عرش الله، والأربعة والعشرين كاهنًا، والأربعة

وكيف يطلب شيئًا من هذا، وهو لا يعلمه.

ونفس الكلام ينطبق على رؤى دانيال، ورؤى حزقيال، وباقي الرؤى وكل الأحلام المقدسة، وكل النبوءات أيضًا.

كل ذلك كشف إلهي، لا يعقل أن يطلبه أحد لأنه طبعًا لا يعرفه ولا يدور بذهنه..

أحلام يوسف الصديق عن مستقبل حياته، ما كانت تدور بذهنه.

ما كان يجول بذهنه -وهو صغير إخوته- أن يأتي إليه إخوته ويسجدوا له، وكذلك أبواه. لذلك فالحلم الخاص بسجود الشمس والقمر والأحد عشر كوكبًا له، ما كان يطلبه. ولا الحلم الخاص بسجود حزم إخوته لحزمته (تك 37). إنها رئاسة يمنحه الله إياها، ويعلنه بها، دون أن يطلب.

ونفس الكلام نقوله عن موهبة يوسف في تفسير الأحلام.

ونقول هذا عن كل موهبة أخرى يمنحها الله لإنسان. مثل موهبة الموسيقي والمزامير التي وهبها الله لداود دون أن يطلب، ومثل موهبة القوة التي وهبها لشمشون دون أن يطلب. ومثل موهبة الجمال التي وهبها ليوسف (تك 39: 6) ولموسى (أع 7: 20) ولداود (1 صم 16: 15).

والأحلام المقدسة هي موهبة أخرى من الله لأسباب روحية.

بعضها للمعرفة والبعض للإنقاذ، أو للتعزية أو للبشارة..

حلم ليوسف النجار لينقذه والعائلة من سيف هيرودس (متى 2: 13). وحلم آخر للمجوس (متى 2: 12). وأحلام لأبيمالك لإنقاذ سارة زوجة إبراهيم (تك 20: 3) وحلم لسليمان ليمنحه الرب بركة (1 مل 3: 5). وحلم لنبوخذ نصر فسره له دانيال لكي يتضع ويتوب (دا 4: 4-27). وأحلام البشارة كثيرة مثل الحلم الذي ظهر ليوسف النجار يبشره بميلاد المسيح.

كل هذه الأحلام منحها الله لأصحابها دون أن يطلبوا..

وقد قدم الله الرؤى والأحلام كموهبة من روحه القدوس، مثلها مثل النبوءة وحينما قال في سفر يوئيل النبي: “اسكب روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويحلم شيوخكم أحلامًا ويري شبابكم رؤى” (يوء2: 28) وتكررت هذه العبارة في سفر أعمال الرسل (أع 2: 17).

النبوءات أيضًا منحها الله للأنبياء دون أن يطلبوا..

ومنحنا أيضًا هذه النبوءات لفائدتنا دون أن نطلب. وكل الذين أرسلهم الرب كأنبياء، ما كانوا سيرون هكذا. وإنما في لحفظة لا يعرفها أحد نسمع مثلًا أنه “كانت كلمة الرب إلى أرمياء النبي” (دا 9: 2) أو صارت كلمة الرب لحزقيال (حز 3: 16) أو “صارت كلمة الرب إلى صفنيا” (صف 1: 1).. كل ذلك دون أن يطلب واحد منهم..

واضح أن الرب يكلم البشر متى يشاء، دون أن يطلبوا..

أنه يقدم الحلم أو الرؤيا أو النبوءة، أو الموهبة، دون أن نطلب، وربما في وقت لا نتوقعه على الإطلاق.

وإن كان هذا بصفة عامة، فبالأكثر مواهب العهد الجديد..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


41- مواهب العهد الجديد 🔗

إنها مواهب ما كان يحلم بها أحد، وليس فقط أن يطلبها. ولعل في مقدمة كل هذه المواهب:

التبرير والتجديد، والتقديس. وكل ما نناله في المعمودية المقدسة. وكما قال بولس الرسول: “الذين دعاهم، فهؤلاء بررهم أيضًا. والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضًا” (رو 8: 30). بل أننا نقف مذهولين أمام قول هذا الرسول:

“لأنكم جميعكم الذين اعتمدتم للمسيح، قد لبستم المسيح” (غل 3: 27).

وقوله أيضًا إننا أعضاء جسد المسيح “ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء جسد المسيح” (1 كو 6: 15). من ذا الذي يطلب، أو يفكر أن يطلب، أن يكون جسده هو أعضاء المسيح، أو أن يلبس المسيح؟! ولكن الله يهبنا دون أن نطلب.

بل مَنْ كان يطلب أن يكون جسده هو هيكل الروح القدس؟!

ولكن هوذا الرسول يؤكد لنا هذه الحقيقة (1كو 6: 19) ويكررها أيضًا قائلًا: “أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم” (1 كو 3: 16).

إنها حقًا هبة مقدسة معطاة لنا من الله، دون أن نطلب..

كذلك أعطانا أن نكون شركاء الروح القدس (1 كو 13:14). وشركاء الطبيعة الإلهية (2 كو 1: 4) في العمل.. كل ذلك دون أن نطلب.

وموهبة أخرى أعطينا إياها أن نصير أولاد الله.

انظروا أيّة محبة أعطانا الآب، حتى ندعي أولاد الله” (1 يو 3: 1). بل أن ندعي أيضًا أخوة المسيح. وأصبح هو لا يستحي أن يدعونا أخوة (عب 2: 11، 12).

وهناك موهبة أخرى عظيمة جدًا أعطينا إياها في العهد الجديد وهي:

أعطينا أيضًا سر الأفخارستيا، دون أن نطلب..

في ساعة لم يكن يتوقعها التلاميذ، وهبهم المسيح سر الأفخارستيا (متى 26: 26-28). أعطانا أن نأكل جسده ونشرب دمه (يو 6: 54-56) لكي نثبت فيه وتكون لنا فيه حياة.

أكنا نتخيل أن نطلب طلبًا كهذا. ولكنها منحة مجانية فوجئنا بها، كسائر نعم الله التي يهبها حسب عمق جودة، دون أن نطلب.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


42- كرم الله في عطاياه 🔗

أقصى ما كانت تطلب القديسة أليصابات، أن يكون لها ابن. ولعلها نسيت هذه الطلبة بعد أن شاخت، بل أن زوجها زكريا الكاهن استصعب هذا الأمر حينما بشره به الملاك ولم يصدقه (لو 1: 18) كأن أوان طلبه قد فات.

ولكن الرب وهب زكريا وأليصابات، أعظم من ولدته النساء.

وهبهما هذا الأمر العظيم دون أن يطلباه. وهبهما الملاك الذي يهيئ الطريق قدامه (مر 1: 2). وهبهما إنسانًا يكون عظيمًا أمام الرب، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس، ويتقدم أمام الله بروح إيليا وقوته (لو 1: 15-17). وهبهما إنسانًا قال عنه المسيح إنه “أعظم من نبي” وأنه “لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان” (متى 11: 9-11).

كل هذا ما كانت تطلبه أليصابات، ولا طلبه زكريا..

إنه عظم كرم الله الذي يعطي بسخاء فوق ما نطلب.. مهما طلبنا ستكون طلباتنا أقل بكثير من مستوى جود الله وكرمه، الذي يعطي بسخاء.

كل ما تطلبه العاقر أن يكون لها ولد. ولكن الرب يقول لها في سفر إشعياء النبي: “أوسعي مكان خيمتك، ولتبسط شقق مساكنك.. لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار. ويرث نسلك أممًا، ويعمر مدنًا خربة” (إش 54: 1-3). كل هذا يعطيه لها دون أن تطلب.

ألعل هذا يشير إلى كنيسة الأمم العاقر التي لم تطلبه؟!

وألعل هذا يشير إلى أية أقلية ضئيلة، أو إلي أية نفس خالية من الفضائل، عاقرًا من جهة عمل الروح فيها..!

ومثال أخر تلك الخاطئة المَدُوسة بدمها في سفر حزقيال.

لعل كل ما كانت تطلبه أن يغسلها الرب فتطهر، مجرد أن تتوب ويقبل توبتها أما الرب الحنون الكريم في عطاياه فيقول لها: “حليتك بالحلي.. ووضعت تاج جمال على رأسك.. وجملت جدًا جدًا فصلحت لمملكة. وخرج لك أسم في الأمم لجمالك، لأنه كان كاملًا ببهائي الذي جعلته عليك يقول السيد الرب” (حز 16: 11-14).

إنها درس في الرجاء. التي لم تنتظر شيئًا، نالت كل شيء..

إن الله لا يستح من بنوتنا له، إن وجد نفوسنا مطروحة على الحقل، مدوسة بدمها، عارية ومكروهة (حز 16: 5، 6). بل إنه يغسلنا ويطهرنا، وينزع عنا عارنا، فنصير له، ويطرح علينا بهاءه.. ويضع تاج جمال على رؤوسنا.. حقًا ما أعظم الرجاء بالرب.

إن الله لا يعطي بمكيال، بل يسكب سكبًا، بسخاء، إنه يفتح لنا كوي السماء، ويفيض علينا بركه لا توسع (ملا 3: 10). حتى نقول له: كفانا كفانا.. كل هذا دون أن نطلب..

إنه لا يغسل الخاطئ فقط، بل يجعله أبيض من الثلج..

لم يسمح فقط بقبول الابن الضال، بل أغدق عليه من كرمه وحنوه، حتى جعل خاتمًا في إصبعه، وألبسوه الحلة الأولى، وذبحوا له العجل المسمن، وأقاموا فرحًا برجوعه (لو 15: 22، 23). أكان هذا الابن يطلب شيئًا من هذا كله، وهو الذي فكر أن يقول لأبيه “اجعلني كأحد أجرائك” (لو 15: 19). ولكن أباه أعطاه كل هذا دون أن يطلب، وفي وقت كان يستحي فيه أن يطلب شيئًا..

إن الله لا يعطي من أجل طلباتنا أو استحقاقنا..

إنما يعطي من أجل جوده وكرمه، ومن أجل احتياجاتنا.

طبعه هكذا كريم وحنون وطيب. وطبعه هذا يغرس في قلوبنا الرجاء مهما كان حالنا، ومهما كنا غير مستحقين لشيء.

وقصص الكتاب لا تنتهي في هذا المجال، إنما نحن نذكر منها مجرد مثال أو بعضًا من مثال..

يوسف الصديق كل ما كان يطلبه أن يخرج من السجن..

ولكن الله جعله الوزير الأول في مصر والثاني في المملكة..

أكان يوسف الصديق يطلب هذا أو يحلم به، كلا بلا شك. ولكن الله الحنون يعطي دائمًا دون أن نطلب.

وقصة يوسف تبعث الرجاء في كل قلب.. هذا الذي ساءت حالته إلى أبعد حد وبيع كعبد، وألقي في السجن، وطالت به المدة في سجنه، ولاحقته تهمة هو بريء منها.. ومع ذلك أصلح له الله كل أموره، وأعطاه ما لم يخطر له على بال..

ويظهر كرم الله وعطاياه في مواعيده العجيبة.

هذا الذي قال: “ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر” (متى 28: 20) “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم” (متى 18: 20). إنه يعطينا هذه الوعود المعزية كلها دون أن نطلب.

وتظهر محبة الله لنا أيضًا في دعوته الإلهية.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


43- في الدعوة الإلهية 🔗

كل تلاميذ المسيح أعطاهم شرف الرسولية، دون أن يطلبوا..

أكان يطلب هذا بطرس وأندرواس وهما مشغولان بالصيد والشباك؟! أكان يطلب هذا متى وهو في مكان الجباية؟!.. وهكذا كل الباقين. والرب قد وضح هذا الأمر حينما قال لتلاميذه: “لستم أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم، وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر، ويدوم ثمركم” (يو 15: 16).

وكذلك أيضًا الأنبياء نالوا جميعهم النبوة، دون أن يطلبوا..

داود، وهو صبي صغير يرعى الغنيمات القليلات في البرية، أكان يفكر أو يطلب أن يصير مسيح الرب، وأن يختاره الرب دون أخوته الكبار ودون كل الشعب ليصير نبيًا له.. أما اختاره الله دون أن يطلب؟!

وكذلك أرمياء الصغير الذي قال: “لا أعرف أن أتكلم لأني ولد” أكان يحلم أن يصير نبيًا للشعوب، أو كان يطلب هذا. أم أن الله دعاه دون أن يطلب؟!

وهكذا إبراهيم أبو الآباء، الله هو الذي دعاه (تك 12: 1).

وبالمثل كل الأنبياء، الذين انطبق عليهم قول الكتاب: “الذي سبق فعرفهم، سبق فعينهم.. والذين سبق فعينهم، هؤلاء دعاهم أيضًا” (رو 8: 29، 30) هو الله الذي اختار كل هؤلاء دون أن يطلبوا..

ومثال واضح جدًا هو شاول الطرسوسي الذي كان يضطهد الكنيسة.

أكان شاول يفكر أن يصير رسولًا من رسل المسيح؟! مستحيل. بل إنه كان يقاوم المسيحية بإفراط. ومع ذلك نقرأ أن السيد المسيح ظهر له في الطريق دمشق، ودعاه دون أن يطلب، وأختاره رسولًا للأمم. ونسمع الروح القدس يقول للرسل: “افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه” (أع 13: 12).

وبالمثل، هل كانت راعوث تفكر أن تكون جدة للمسيح؟!

قطعًا ما كان يخطر لها هذا ببال، وهي امرأة أممية غريبة الجنس! ولكن الله “يدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة” (رو 4: 17). ألا يعطي هذا الرجاء للناس؟!

وأكثر من هذا راحاب. أكانت تطلب أن تصير جدة للمسيح؟!

لعل أقصى ما كانت تطلبه الأمان لنفسها ولأهلها في وقت اقتحام أريحا. أما أن تصير ضمن شعب الله، فقد كان هذا كثيرًا عليها جدًا. ولكن أن تصير جدة للمسيح فهذا لم تطلبه إطلاقًا، بل لم يخطر على بالها، ولم تحلم به ولكن الله الحنون يعطي دون أن نطلب. يحتاج الأمر أن نؤمن بمحبة وكرمه واهتمامه بنا.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


44- العطاء والإيمان 🔗

القديسون لإيمانهم بأن الله يعطي دون أن نطلب، كانوا يخجلون أن يطلبوا شيئًا. طلبتهم الوحيدة كانت هي الله نفسه..

ولهذا يقول داود النبي في صلاته: “طلبت وجهك، ولوجهك يا رب التمس. لا تحجب وجهك عني” (مز 26)(1). ويقول في نفس المزمور “واحدة طلبت من الرب وإياها التمس، أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي، لكي أنظر نعيم الرب وأتفرس في هيكله” (مز 26). أما باقي الأمور فهي بسيطة يقضيها لنا الرب دون أن نطلب أليس هذا هو ما قاله لنا السيد الرب:

“اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره. وهذه كلها تُزاد لكم” (متى 6: 33).

لم يقل: “وهذه تطلبوها بعد ذلك “وإنما قال: هذه تزاد لكم. أي يعطيها الله لكم دون أن تطلبوا.

ولهذا أيضًا كانت كل طلبتنا في الصلاة الربية، هي صلوات روحية تتعلق بملكوت الله وبره. والباقي يزاد لنا من الله دون أن نطلب. هو يعلم أننا نحتاج إلى هذه كلها، فيعطيها لنا من عنده كأب شفوق يعرف احتياجات أولاده، دون أن يجشمهم الإلحاح عليه في طلبها..

ومع ذلك، أعطى الله الضعفاء أن يطلبوا ما يشاءون..

اطلبوا تجدوا (متى 7: 7) فتفرح قلوبكم بالله الذي يعطي، ويُزداد إيمانكم به. وكلما تعمق إيمانكم في أن الله يعطي كل شيء، حينئذ سوف لا تطلبون سوى الله وحده، وملكوته وبره.. “أطلبوا تأخذوا، لكي يكون فرحكم كاملًا” (يو 16: 24). وكل طلبه يسمعها الله منكم يتقبلها بحنو، كما من أفواه أطفاله الصغار.

عجيب هو إلهنا الحنون، المعطي، والمستجيب لطلبه أولاده.

أن الذي يؤمن بالله وعطائه، ينام في حضن الله ويستريح..

ويكون واثقًا أن الله يدبر له كل شيء… كما كان بطرس نائمًا في السجن مطمئنًا إلى عمل الله من أجله. وكان نومه ثقيلًا لدرجه أن الملاك الذي أنقذه، لكزه أولًا وأيقظه (أع 12: 7) بينما كان هيرودس مزمعًا أن يقتله (أع 12: 4). ومع ذلك نام، واثقًا أن الله مستيقظ وساهر على خلاصه. ولهذا أيضًا نسمع داود النبي يقول في المزمور:

“الرب يرعاني، فلا يعوزني شيء” (مز 23: 1).

وما دام لا عوزه شيء، إذن فهو لا يطلب، لأن الله لم يتركه معوزًا شيئًا يطلبه ولهذا نقول نحن أيضًا في القداس الغريغوري: “لم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك”.

فإن قال لك الله ماذا تطلب، أتراك تجيب قائلًا:

وهل تركت لي شيئًا أطلبه؟! إنني لو قضيت عمري كله شاكرًا، فلن يكفي. لذلك أن رأيتني يا رب احتاج شيئًا، أعطني إياه.

إنك أغرقتني بعطاياك، وأعطيتني فوق ما أطلب. ولم تدعني معوزًا شيئًا.. كما إنك أدري بما ينقصني، إن كان هناك شيء ينقصني.

عملي الوحيد هو أن أشكر وان أسبحك على كرمك، لا أن أطلب..

ولعل البعض يسأل: ماذا إذن عن الضيقات؟ نقول:

إن أولاد المؤمنين برعايته وعطاياه، لا ينزعجون ولا يقلقون. ويرون أنه مادام الأمر في يد الله، فهذا يكفي..

هذا يكفي لاطمئنانهم وسلامهم. لأنه لا يوجد أحب من الله لهم، ولا يوجد من هو أكثر عناية منه بهم. مادام الله قد تسلم كل أمورهم، لم يعد لهم شيء يقولونه أو طلب يطلبونه.

يكفي للإنسان أن يطلب محبة الله، لأنه يريد قلوبنا.

هو لا يرغمنا على محبته. يريدنا أن نحبه برضانا. وأن أحوجتنا المحبة نطلبها منه. وهو يسكبها في قلوبنا بالروح القدس. إنه لا يرهبنا بلاهوته، بل يجذبنا بمحبتها ويريدنا أن نبادله حبًا بحب، لذلك يقول: “يا أبني أعطني قلبك” (أم 23).

والذي تملك محبة الله على قلبه، لا يشتهي في العالم شيئًا ليطلبه.

بل هو يقول للرب: “معك لا أريد شيئًا على الأرض” (مز 23: 25) ويقول مع القديس بولس الرسول: “خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية، لكي أربح المسيح وأوجد فيه” (في 3: 8، 9).

هذا هو طلبك الوحيد: الله ومحبته وملكوته وبره، وكفَى.

وكل الأمور الأخرى، يمتلئ قلبك بالرجاء أن الله سيحلها دون أن تطلب. هو يعلم ما تحتاجه، له المجد في محبته ورعايته.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


45- الله يعمل معنا 🔗

هناك أسباب جوهرية.. تجعل عمل الله معنا ضرورة:

منها قول الرب “ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة.. وقليلون هم الذين يجدونه” (متى 7: 14)، فإن كان الأمر هكذا، فإن العدل الإلهي يقتضي أن توجد معونة إلهية، يمكننا بها أن نجتاز الباب الضيق.. ولهذا يقول الرب:

“بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو 15: 5):

مادام الأمر هكذا، إذن لا بُد أن يكون الله معنا في كل عمل نعمله، وإلا فإننا سنقف عاجزين تمامًا في كل ما تكافح فيه إرادتنا سواء في الجهاد ضد الخطية، أو في خدمتنا للملكوت، أو في اكتساب أية فضيلة.

وبخاصة لأننا مطالبون بالقداسة ومطالبون أيضًا بالكمال..

إذ يقول الكتاب “نظير القدوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضًا قديسين في كل سيرة لأنه مكتوب: كونوا قديسين لأني أن قدوس” (1 بط 1: 15، 16) نحن لسنا مطالبين بالقداسة فقط، بل أيضًا بالكمال في هذه القداسة… وذلك حسب قول الرب “كونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل” (متى 5: 48) ولكي نصل إلى القداسة والكمال، لا بُد بالضرورة أن معونة إلهية تحملنا في الطريق.

يُضاف إلى هذا أن عدونا قوي.. وحيله كثيرة وماكرة.

قال عنه الكتاب “إبليس عدوكم مثل أسد زائر.. فقاوموه راسخين في الإيمان” (1 بط 5: 8، 9). تري بأي إيمان نقاومه؟ بالإيمان أن الله هو الذي يغلبه في حربه معنا.. كما قيل في سفر أيوب “الله يغلبه لا الإنسان” (أي 32: 13). نعم إننا لا نستطيع بغير عمل الله معنا أن نغلب تلك الخطية التي قيل عنها إنها طرحت كثيرين جرحي، وكل قتلاها أقوياء” (أم 7: 26). الضرورة إذن تلزم وجود معونة إلهية.

لأنه بالإضافة إلى قوة عدونا طبيعتنا أيضًا ضعيفة.

وهكذا فإن داود النبي في حديثه عن عظم مغفرة الله، يقول “لأنه يعرف جبلتنا يذكر أننا تراب نحن” (مز 103: 14). ويقول في كثير من مزاميره “ارحمني يا رب فإني ضعيف” (مز 6: 2). هذا الضعيف الذي بسببه تحدث الكتاب عن أخطاء الأنبياء.. فإن كان هؤلاء العظام قد أخطأوا، فماذا يحدث لنا، أن لم تسندنا معونة الله.. وهي لابد تفعل، حسب قول الرسول:

“حيث كثرت الخطية، ازدادت النعمة جدًا” (رو 5: 20).

نعم تزداد النعمة، لكي تنقذنا من هذه الخطية.. وهكذا يصرخ داود النبي إلى الرب ويقول “وأنت يا رب عرفت سبلي.. في الطريق التي أسلك، اخفوا لي فخًا.. تأملت عن اليمين وأبصرت، فلم يكن من يعرفني. ضاع المهرب مني، ولي سمن يسأل عن نفسي.. فصرخت إليك يا رب وقلت أنت هو رجائي وحظي في أرض الأحياء.. نجني من الذين يضطهدونني لأنهم قد اعتزوا أكثر مني” (مز 141) واحمني من قوتهم ومن ضعفي.

ومن ضعف الطبيعة البشرية: الجهل والشهوة وعدم الإرادة.

أحيانًا يجهل الإنسان الطريق إلى الله، يجهل الوسيلة التي بها يخلص. لهذا يقول المرتل في المزمور “علمني يا رب طرقك.. فهمني سبلك” (مز 119) “علمني يا رب الطريق التي اسلك فيها.. علمني أن اصنع مشيئتك” (مز 143) ويتغنَّى بإرشاد الرب فيقول: “الرب صالح ومستقيم.. لذلك يرشد الذين يخطئون في الطريق.. يعلم الودعاء طرقه” (مز 25) إذن لابد أن يتدخل الله، ليرشد الإنسان في الطريق.

والإنسان قد يعرف.. ومع ذلك إرادته لا تساعده.

إما أنه لا يريد الخير، بسبب محبته للخطية، وإما انه يريد ولا يستطيع.. وهكذا يقول القديس بولس الرسول “إني اعلم أنه ليس ساكنًا في -أي في جسدي- شيء صالح. لأنه الإرادة حاضرة عندي، وأما إن أفعل الحسني فلست أجد، لأني لست افعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل.. لست بعد أفعله أنا بل الخطية الساكنة في” (رو 7: 18 - 20).

لذلك فإن الله بنعمته يعمل في الإنسان.

وهكذا فإن القديس بولس الرسول ينسب كل ما يعمله إلى نعمة الله العاملة فيه فيقول “ولكن لا أن، بل نعمة الله التي معي”.. “ولكن بنعمة الله أنا ما أنا..” (1 كو 15: 10).. ويرسل إلى تلميذه تيموثاوس ليقول له: “فتقوّ أنت يا ابني بالنعمة” (2 تي 2: 10).

ولأهمية النعمة.. فإن الآباء الرسل يبدأون بها رسائلهم.

هكذا في رسائل القديس بولس تتكرر في مقدمتها عبارة “نعمة لكم وسلام” (رو 1: 7؛ 1 كو 1: 3؛ 2 كو 1: 3؛ غل 1: 3؛ أف 1: 2؛ في 1: 2).. والقديس بطرس الرسول يقول في بدء رسالتيه لتكثر لكم النعمة والسلام (1 بط 1: 1؛ 2 بط 1: 2)، والقديس يوحنا يقول للسبع الكنائس في مقدمة سفر الرؤيا “نعمة لكم وسلام” (رؤ 1: 4).

ويميز النعمة التي نلناها في العهد الجديد بقوله الجديد بقوله “لأن الناموس أعطي.. وأما النعمة والحق، فبيسوع المسيح صارًا” (يو 1: 17).

هذه النعمة هي قوة من الله تعمل معنا وفينا.

وهي أيضًا التي كانت تعمل في آبائنا الرسل، حتى أمكنهم أن يقوموا برسالتهم، ويشهدوا للرب “وبقوة عظيمة كانوا يؤدون الشهادة.. ونعمة عظيمة كانت على جميعهم” (أع 4: 33) والقديسة الطاهرة العذراء مريم، حياها الملاك بعبارة: “سلام لك أيتها الممتلئة نعمة الرب معك” (لو 1: 28).

الله يعمل فينا بنعمته.. وبشركة روحه القدوس.

فالروح القدس يشترك معنا في العمل، ويعطينا قوة.. ولذلك السيد المسيح لتلاميذه القديسين “ولكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم، وحينئذ تكونون لي شهودًا” (أع 1: 8).

وبهذا كانت “شركة الروح القدس” بركة توهب للمؤمنين إذ يقول القديس بولس الرسول في آخر رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس “نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم” (2 كو 13: 14)، وهذه هي البركة التي تمنحها الكنيسة لأولاده في أخر كل اجتماع.

وبالإضافة إلى شركة الروح القدس، يقول لنا السيد المسيح:

“ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر” (متى 28: 20).

إنه وعد عظيم يمنحنا رجاء أن يكون الرب معنا كل الأيام. ويقول أيضًا “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم” (متي18: 20). وقد صور لنا سفر الرؤيا السيد الرب في وسط الكنائس السبع ورعاة هذه الكنائس عن يمينه (رؤ 1: 13، 16: 20). إنه معنا، يعمل فينا، ويعمل بنا، ويعمل معنا.. هذا عن الابن، وماذا عن الآب؟ يقول الرب:

أبي يعمل حتى الآن، وأنا أيضًا أعمل” (يو 5: 17).

إن عمل الله لم ينته بالخلق، حينما استراح الله في اليوم السابع! فالله يعمل باستمرار يري كل شيء ويرقب، كضابط للكل.. وهو يعمل في رعاية هذه البشرية، ويسند ويساعد ويعين ويحفظ.. وقد قيل عن الآباء الرسل “فخرجوا، وكرزوا في كل مكان. والرب يعمل معهم، ويثبت الكلام بالآيات التابعة” (مر 16: 20). وقال داود النبي عن عمل الرب “ما أعظم أعمالك يا رب.. كلها بحكمة صنعت” (مز 104: 24).

الثالوث القدوس إذن يعمل معنا، وتعمل معنا ملائكته.

قال الرسول عن الملائكة، أليسوا جميعًا أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب 1: 14) ملاك من السارافيم طار بسرعة وأخذ جمرة من على المذبح ومسح بها شفتي إشعياء النبي لما سمعه يقول “ويل لي قد هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين” (اش 6: 5-7) وملاك آخر وقف يدافع عن يهوشع الكاهن لما رأى الشيطان وقال له “لينتهرك الرب” (زك 3: 2).

ويعوزني الوقت إن تحدثت عن عمل الملائكة من أجل البشر بأمر من الرب: مثل قول دانيال النبي “إلهي أرسل ملاكه فسد أفواه الأسود” (دا 6: 22)، ومثل إنقاذ الملاك لبطرس من السجن (أع 12) ومثل قول الكتاب “ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم” (مز 34: 7). ومثل قول الكتاب عن عمل الله من أجلنا في ضيقتنا “في كل ضيقهم تضايق وملاك خلصهم” (اش 63: 9).

الله يعمل لأجلنا في كل ضيقاتنا وتجاربنا..

إنه يقول لكل منا “لا أهملك ولا أتركك، تشدد وتشجع. لا ترهب ولا ترعب لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب” (يش 1: 5، 9). وقال لإرميا النبي “لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك” (أر 1: 8). وقال القديس بولس الرسول “لا تخف، بل تكلم ولا تسكت، لأني أنا معك. ولا يقع بك أحد ليؤذيك” (أع 18: 9، 10).

حتى في الكلام، الله يكون معنا، ليتكلم على ألسنتنا.

إنه يقول لنا “لا تهتموا كيف أو بما تتكلمون، لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به لأن لستم انتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم” (متى 10: 19، 20). وبولس الرسول يطلب صلاة أهل أفسس لكي يعطي له كلام عند افتتاح فمه (أف 6: 19)، وداود النبي يقول “افتح يا رب فتي، لكي يخبر فمي بتسبيحتك” (مز 50) وأرمياء النبي قال له الرب “ها قد جعلت كلامي في فمك” (ار 1: 9).

ومن جهة التوبة، الله هو الذي يعمل فينا لنتوب، لذلك يقول الكتاب:

“توبني فأتوب، لأنك أنت الرب إلهي” (ار21: 18)

روح الله هو الذي يبكتنا على خطية (يو 16: 8) وهو الذي يرشدنا إلى طريق البر. والمرنم يقول عن عمل الرب في التوبة “انضج عليَّ بزوفاك، فاطهر واغسلني فأبيض أكثر من الثلج” (مز 50). ونحن نصلي في قداستنا ونقول “طهر نفوسنا وأجسادنا وأرواحنا” (والله هو الذي منحنا في المعمودية غسيل الميلاد الثاني (تي 3: 5). ووعدنا في سفر إشعياء بهذا التطهير (اش 1: 18)، وكذلك في سفر حزقيال (حز 36: 25) ومن العبارات التي تستحق شيئًا من التأمل قول المرتل في المزمور:

“قلبًا نقيًا أخلق في يا الله وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي” (مز 50).

إذن فوجد هذا القلب النقي هو من عمل الله، يخلقه خلقًا من لا شيء، ويجدد الروح.. ويقول الرب في سفر حزقيال “وأعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدًا في داخلكم.. وأجعل روحي في داخلكم.. وأجعلكم تسلكون في فرائضي. وتحفظون احكمي وتعلمون بها” (حز 36: 26، 27) واضح أنه عمل الرب فينا.

إنه الله “الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ” (1 تي 2: 4).

وهو لا يريد فقط، وإنما يريد ويعمل على خلاصنا. وهو الذي دبر طريقة الفداء والكفارة.. وهو الذي أخلى ذاته وتجسد.. هو الذي أحب “أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 14 9).

هو الذي أعطى الرسل المصالحة.. ليصالحونا معه.

وفي ذلك يقول القديس بولس الرسول”.. الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة.. إذن نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا.. نطلب عن المسيح: تصلحوا مع الله” (2كو 5: 18، 19).

هو الذي قال: أنا واقف على الباب وأقرع (رؤ 3: 20).

إنه يقرع على باب كل نفس ويبحث عن خلاص على كل نفس، كما بحث عن الخروف الضال والدرهم المفقود (لو 15) وهو من أجل هذا الخلاص أرسل الأنبياء والرسل، والرعاة والمعلمين، وأرسل لنا كلامه بالوحي الإلهي.

الله أيضًا يعمل لأجلنا بالحفظ الإلهي..

وبهذا يتغنَّى المرتل فيقول في المزمور “لولا أن الرب كان معنا حين قام الناس علينا لابتلعونا ونحن أحياء.. مبارك الرب الذي لم يسلمنا لأسنانهم.. نجت أنفسنا مثل العصفور من الصادين” (مز 123)، وداود النبي يقول لجليات “الحرب للرب، وهو يدفعكم ليدنا” (1 صم 17: 47). وموسى النبي قال للشعب “قفوا وانظروا خلاص الرب.. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون” (خر 4: 14، 14).

إن الشيطان يريد أن يوقعنا في اليأس.. بأن يُنسينا عمل الله من أجلنا.

ومن السهل أن نرد عليه. إن قال لنا أن طريق الرب صعبة نقول له يكفي أن الله معنا في الطريق.. وهو يجعل الصعب سهلًا.. وإن قال لواحد منا أن نفسك لا تريد التوبة، نقول له: يكفي أن الله يريدها لنا وهو لا شك سيقودنا إليها.. وإن أخفنا من الأعداء الكثيرين نقول له: إن الذين معنا أكثر من الذين علينا.

إن الله يعمل لأجلنا. ولكن يجب علينا الاستجابة له.. والشركة معه.

وفي هذا يقول الرسول: “إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم” (عب 3: 8) الله يعمل.. ولكن ينبغي أن نشترك معه في العمل.. هو يرسل روحه القدوس لأجل تقويتنا، وإرشادنا. ولكن ينبغي لنا أن ندخل في شركة الروح القدس.

وبهذا يكون الخلاص هو نتيجة عمل الله فينا.. ومعه قبولنا لهذا العمل.. واشتراكنا مع الروح في وسائط النعمة.

وكل ذلك يبعث الرجاء في النفس. ولكن..

لعل إنسانًا يقول إنني طلبت من الله وهو لم يستجب! وما زِلت في ضيقة، والله لم يتدخل! فأين الرجاء إذن؟ لمثل هذا الإنسان، قال المرتل في المزمور:

انتظر الرب. تقو وليتشدد قلبك، وأنتظر الرب” (مز 27).


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


46- نوعيَّة الانتظار للرب 🔗

الذي ينتظر في رجاء، إنما ينتظر الرب بقلب مملوء بالإيمان وبالثقة. في غير شك وبغير قلق ولا اضطراب ولا تضايق. ينتظر وهو مؤمن أن الرب لابد سيتدخل، ولابد سيعمل، وأن الأمور لا بُد تنتهي إلى خير، حسب قول الكتاب:

كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله” (رو 8: 28).

وهكذا يصف لنا الكتاب الرجاء العظيم لمنتظري الرب فيقول “وأما منتظرو الرب فيجدون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون ويمشون ولا يعيون” (أش 40: 31). القوة التي هزتها الضيقة، تتجدد بالرجاء، بانتظار الرب. كما قيل في المزمور “يجدد مثل النسر شبابك. إذن ينبغي إن الإنسان ينتظر الله، بقلب قوي متشدد، بإيمان واثق.

واثِق أن الله لا بُد سيعمل. وسيظهر عمله واضحًا وقويًا. والله يعمل في الوقت المناسب، وبالطريقة المناسبة النافعة.

ليس من اللائق أن نفرض على الله وقتًا معينًا أو أسلوبًا خاصًا. فقد قال الرب “ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه وحده” (أع1: 7). يكفي أن تترك مشكلتك في يد الله وتنساها هناك، وأنت واثق أن الله سيحلها.. أما متى؟ فهذا ليس لك أن تفحصه. يكفي أنها ستحل بيد الله، فلي الحين الحسن. وما عليك إلا أن ننتظر الرب.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


47- ثلاثة أمور يرتكز عليها انتظارك للرب 🔗

أ- رجاؤك في انتظار الله يرتكز على إيمانك بمحبة الله لك 🔗

الله الذي يحبك، أكثر مما تحب أنت نفسك. والذي يعمل من أجلك الخير، أكثر مما تستطيع أن تعمل أنت من أجل نفسك. الله الذي يريد أن الجميع يخلصون، وإلى معروفة الحق يقبلون” (1تي 2: 4). الله الذي نقشك على كفه، وحفظك في يمينه الحصينة، والذي يقول لك “لا أهملك ولا أتركك” (يش 1: 5).

ب- رجاؤك أيضًا في انتظار الرب، يرتكز على إيمانك بحكمته 🔗

حكمته غير محدودة، التي هي فوق مستوى تفكيرك، وفوق مستوى تفكير غيرك الحكمة التي تعرف ما هو الخير لأنها تري كل شيء، وتبصره مالا تبصره أنت هذه الحكمة التي أدركها أيوب الصديق أخيرًا، فقال “قد نطقت بما لم أفهم. بعجائب فوقي لم أعرفها” (أي 42: 3).

تأكد إذن أن الله يدبر أمورك بحكمة، سواء فهمتها أم لم تفهمها.. سلم قلبك لحكمته وانتظر..

ج- رجاؤك أيضًا في انتظار الرب، يرتكز على إيمانك بمواعيده 🔗

مواعيده التي قال فيها “ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر” (متى 28: 20). إن نسيت الأم رضيعها أن لا أنساكم (اش 49: 15) “نقشتكم عب كفي” (اش 49: 16). “تشدد وتشجع لا ترهب ولا ترتعب. لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب” (يش 1: 9) “لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك” (يش 1: 5) “أنا معك ولا يقع بك أحد ليؤذيك” (أع 18: 10).


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


48- لا تلجأ إلى الطرق البشرية 🔗

الذي ييأس من انتظار الرب، قد يلجأ إلى الطريق البشرية. يعتمد على الذكاء أو المكر والدهاء. كما فعلت رفقة، عندما ظنت أن الوقت قد فلت، وسوف تضيع البركة التي وعد بها ليعقوب (تك 25: 23)، فلجأت إلى طريق بشري، خدع فيه يعقوب أباه القديس اسحق (تك 27).

وأيضًا أبونا إبراهيم لما يئس من انتظار الرب، لجأ إلى الطرق البشرية، فأخذ هاجر لتلد له ثم عاد إبراهيم واخذ قطورة (تك 25: 1). وكانت طرقًا مرفوضة من الرب.

والبعض حينما ييأس من انتظار الرب، قد يلجأ إلى السحرة والعرافين، وإلى طرق بشرية كاللجوء إلى استشارة الموتَى!!

الأمر الذي اعتبره الرب من رجس الأمم. وقال في ذلك”.. لا تتعلم أن تفعل مثل رجس تلك الأمم. لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو تبنته في النار، ولا من يعرف عرافة، ولا عائف، ولا متفائل، ولا ساحر. ولا من يرقي رقية، ولا من يسأل جانًا ولا تابعة ولا من يستشير الموت. لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب” (تث 18: 9-12) كلها طرق بشرية مرفوضة من الله. وبعضها طرق شيطانية.

ومثل ذلك من يلجأ إلى التنويم المغناطيسي، وما يعرف بالسلة. ومن يؤمن بالعمل وإبطاله، ومن يلجأ إلى مَن يقرأ الفنجان، ومن يقرأ الكف، ومن “يضرب الرمل “ومن “يعرف البخت”، وأمثال هذه الطرق..

إن الله يريدك أن تكون تحت قيادته: تأخذ معرفتك منه. وكثيرًا ما تغني داود النبي بأن خلاصه من عند الرب أو أن الرب نفسه قد صار له خلاصًا. والعجيب أن بعض الذين يلجأون إلى هذه الأمور يريحون ضمائرهم الثائرة عليهم أو ضمائر الناس الساخطة عليهم، بأن هذه الأمور تدخل تحت نطاق العالم، وأن الكنيسة لا يجوز لها أن تقاوم العلم!!

في الكتاب المقدس يقول الرب إن استشارة الموتى هي من رجس الأمم، وأنها مكروهة عند الرب، فيقول البعض إنها علم، ولا يجوز للكنيسة أن تقف ضد العلم!!

حتى إن كان علمًا، فهو رجس ومروه عند الرب.

والعجيب أن السحر نفسه، الذي هاجمه الكتاب. وقال الرب “لا تدع ساحرة تعيش” (خر 22: 18). وقال أن خارج الملكوت”.. السحرة وعبدة الأوثان.. نصيبهم في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت” (رؤ 21: 8).. السحر يري البعض أن هناك نوعًا مقبولًا خنه يسمونه “السحر الأبيض” ولم أقرأ في الكتاب إطلاقًا عبارة “السحر الأبيض”!!

أما أنت فلا تلجأ إلى أمثال هذه الطرق، إنما لجأ إلى الله وانتظره. ومهما تأخر لا تلجأ إلى السحر وأشباهه.

إنها تعبير إما عن فشل ويأس أو هي دليل عملي على اللجوء إلى غير الله. أو هي ضيق في القلب لا يستطيع أن ينتظر الرب. أو هي استهانة بأمر الله الصريح الوارد في (تث 18). لقد ضرب الرب شاول الملك وأماته لأنه لجأ إلى مثل هذا الطريق.. (1 صم 28). أما أنت فاستمع لأمر الرب الصريح. ولا تلجأ إلى طرق خاطئة كهذه مهما ظننت أنه قد تأخر عليك.

ولكن لعل إنسانًا يسأل: إلى متى أنتظر الرب..؟


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


49- إلى متى ننتظر؟ 🔗

يقول المرتل في المزمور “صبرت نفسي للرب. صبرت نفسي لناموسك انتظرت نفسي الرب من محرس الصبح حتى الليل” (مز 129) ويضيف بعدها “لأن الرحمة من عند الرب، وعظيم هو خلاصه”.. وربما عبارة “من محرس الصبح حتى الليل” -في معناها الرمزي- تعني العمر كله، أو تعني الوقت كله. أو عبارة “حتى الليل قد تعني: حتى الظلمة، حتى عمق اشتداد المشكلة..

ننتظر الرب، ونحن متأكدون تمامًا أنه لابد سيجيء ويصنع خلاصًا. أما متى يجيء؟ أصباحًا، أم ظهرًا، أم في نصف الليل، أم في الهزيع الرابع؟ لسنا ندري..

لا نعرف متى يجيء. ولكن ما يسعدنا حقًا، أنه لا بُد سيجيء..

الوقت أو الميعاد، نتركه لحكمته الإلهية. ولكن نفرح بانتظار مجيئه، حسب وعده الصادق “لا أترككم يتامى. أني آتي إليكم” (يو 14: 18). “سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم. ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يو 16: 22). إن الصليب قد يحمل ألمًا. والقيامة معها فرح الرجاء..

وكل صليب لا بُد بعده قيامة. والوعد بالقيامة يحمل الرجاء..

لذلك كن واثقًا، ولا تيأس. وانتظر الرب في عمق السلام الداخلي. وكلما أحاطت بك ضيقة، قل: إنني اسمع صوت حبيبي “هُوَذَا آتٍ طَافِرًا عَلَى الْجِبَالِ، قَافِزًا عَلَى التِّلاَلِ” (نش 2: 8).

وإن صادفتك مشكلة، لا تجعلها تتعبك كما يحدث لفاقدي الرجاء. بل قل في ثقة: أن الله لابد سيحلها. وإن لم تحل في هذه الأيام، ستحل في الأسابيع المقبلة. وإن لم تحل في هذه الأسابيع، ستحل في الشهور المقبلة. أنها لا بُد ستحل، مهما مر الوقت عليها. أنا واثق يا رب في تدخلك. واثق في حكمتك وفي عملك، وأنك لن تتخلى. لذلك مهما مر الوقت، نحن لا نحزن، كما قال الرسول:

لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم” (1 تس 4: 13).

إن ثقتنا بعمل الله، لا تسمح أبدًا للحزن أن يدخل إلى قلوبنا. فلنثق به إذن. عجيب أننا نثق أحيانًا بالطرق البشرية، وبالوسائط العالمية، ونثق بالأخريين، ونثق بأنفسنا، بذكائنا وفهمنا وقدراتنا.. أما الله، فكثيرًا ما تهتز ثقتنا ونحن ننتظره!! فلماذا؟ ألعله (التأخير) في الاستجابة هو الذي يجعلنا نشك أو نحزن.

إذن فلنبحث موضوع التأخير هذا لنفهمه جيدًا.. وكمقدمة له نقول: إن الله يعمل، مهما بدأ لنا أنه قد تأخر علينا..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


50- مهما بَدَا أنهُ تأخَّر 🔗

الله لا يتأخر مطلقًا. عبارة “تأخر” هنا لها معنى نسبي، بالنسبة إليك! وكذلك عبارة “لا تبطئ” (مز 69). أي لا تجعلني أشعر أنك قد أبطأت عليّ وتأخرت!

إن الله يعمل بطريقة هادئة متزنة، قد نحسبها نحن بطئًا.

كلأ أعمال الله تكون في وقتها المناسب. لا سرعة فيها ولا تأخير. وتوقيتها محسوب بحكمة إلهية عجيبة، بكل دقة.

لقد وعد الله آدم وحواء بالخلاص.. ومرَّت آلاف السنوات..

قال لهما أن نسل المرأة سوف يسحق رأس الحية. ومرت آلاف السنوات، والحية لا تزال رافعة رأسها في شموخ! وبدا أن نسل المرأة في انهيار ستمر.. حتى أن الله اغرق العالم بالطوفان، وأحرق سادوم بالنار، وأمر الأرض أن تفتح فاها لتبتلع قورح وداثان وأبيرام.. وبقي وعد الله قائمًا..

هلك هذا النسل. ولو!! لنا رجاء في نسل آتٍ للخلاص..

كان الرجاء معلقًا في أولاد نوح. أفسد أغلبهم؟! يبقي الرجاء في أولاد إبراهيم. أفسد أغلبهم؟ يبقي الرجاء في أولاد يعقوب.. لا بُد سيحقق الله وعده بالخلاص.. ومهما انتظر سمعان الشيخ طويلًا، لا بُد سيأتي عليه الوقت الذي يقول فيه -وهو يحمل المسيح,“الآن يا رب تطلق عبدك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك” (لو 2: 29، 30). حتى المرأة السامرية -علي الرغم من كثرة خطاياها- لم يفارقها مطلقًا هذا الرجاء في مجيء المسيح، المسيح، لذلك قالت: “أنا أعلم أن مسيا، الذي يقال له المسيح، يأتي.."(يو 4: 25).

وكثيرون رقدوا قبل أن يبصروا الخلاص. ولكن رقدوا على رجاء..

وفي ذلك يقول معلمنا القديس بولس الرسول: “في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد. بل من بعيد نظروها، وحيوها وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض” (عب 11: 13). هؤلاء رتلوا مع المزمور “لأنك لن تترك نفسي في الجحيم، ولن تدع قدوسك يري فسادًا” (مز 16: 10). وفي كل ذلك سنسأل سؤالًا هامًا وهو:

هل حقًا تأخر الله في تنفيذ وعده بخلاص العالم؟ 🔗

كلا، إنه لم يتأخر الوقت على الرغم من مرور آلاف السنين. بل انه كان يعد البشرية لاستقبال هذا الخلاص.. يعدهم بالنبوات وبالرموز وبالتوبة وبالإيمان. كم من الذبائح والمحرقات قدموها، حتى صارت عقيدة الكفارة والفداء راسخة في أذهانهم، وصارت المغفرة بالدم أمرًا سهلًا مقبولًا.. وانتظر الرب حتى أصبح الإيمان أذهانهم، وصارت المغفرة بالدم أمرًا سهلًا.. وانتظر الرب حتى أصبح الإيمان ممكنًا، حتى وسط الأمم. وانتظر الرب حتى يوجد المعمدان الذي يعد الطريق قدامه وحتى توجد العذراء الطاهرة التي تكون إناء للتجسد، والتي تقدر على احتمال ذلك المجد العظيم.

إذن لم تكن مرحلة تأخير، إنما مرحلة إعداد تقوى الرجاء..

ونفَّذ الله وعده الذي لم ينسه مطلقًا خلال آلاف السنين، بل كان يمهد له.. وأخيرًا استطاع نسل المرأة أن يستحق رأس الحية (تك 3: 15). وتم فعلًا ما قاله لأبينا إبراهيم: “بنسلك تتبارك جميع قبائل الأرض” (تك 22: 18؛ أع 3: 25).

لقد خلصهم “في ملء الزمان” (غل 4: 4).


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


51- مفهومنا الخاطئ للتأخير في استجابة الله 🔗

نحن نقول انْتَظِرِ الرَّبَّ. فهل ننتظر الرب حتى يبدأ العمل، واثقًا أنه سوف يعمل؟ كلا. فهذه تعبيرات مقدمة للمستوى البشري في الفهم. فما الحقيقة إذن؟

انتظر الرب واثقًا، ليس أنه سيعمل، بل واثقًا أنه يعمل فعلًا. وربما قبل أن نطلب منه نحن.

ربما كنيسة محتاجة إلى كاهن يرعاها، وتطلب من الرب هذا، ويبدو أن الرب قد تأخر عليها عامين أو ثلاثة، حتى أرسل لها الكاهن المطلوب..! بينما تكون الحقيقة أن الله كان يعد لها هذا الكاهن منذ ثلاثين أو أربعين عامًا مضت، قبل أن تطلب يعده بروحيات معينة، ويعلم ومعرفة وحكمة وتداريب، ويعده ربما بتجارب وضيقات، وبخبرات روحية، تجعله الشخص النافع والمناسب لهذه الكنيسة.. ونحن الذين لا نرى ولا نعرف إعدادات الله، ونظنه قد تأخر!!


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


52- أسباب وحكمة ما نظنه تأخيرًا في استجابة الله 🔗

1- ربما يكون مجالًا لتعميق صلواتك وروحياتك 🔗

هذا (التأخير) يجعلنا نصلي، ونتضرع ونداوم اللجاجة بقوة ومن عمق القلب، ومن عمق الاحتياج، وربما نضيف إلى الصلاة صومًا، وتذللًا أمام الله ونذرًا. مثال ذلك حنة أم صموئيل: لما كانت عاقرًا، وقد تأخر عليها الإنجاب وكانت ضرتها تغيظها، يقول الكتاب إنها “صلت غلي الرب، وبكت بكاء، ونذرت نذرًا” (1 صم 1: 9-12) وتعهدت بأن الابن الذي يعطيها الرب إياه يكون نذيرًا للرب يخدمه كل أيام حياته. وهكذا استفادت من هذا (التأخير). أو قل أن الرب وجد أن الوقت المناسب لمنحها نسلًا، هو الوقت الذي تصل فيه إلى هذه الحالة الروحية، بدون تأخير.

2- ربما يكون السبب أن الرب يعد طريقًا أفضل 🔗

لو استجاب الرب ليوسف الصديق منذ أول إلقائه في السجن، ربما كان مصيره أن يخرج ليخدم فوطيفار أو سيدًا أخر، أو في أية وظيفة مماثلة ولكن (التأخير) لم يكن تأخيرًا، وإنما انتظارًا للحلم الذي يحلمه فرعون، ويفشل في معرفة تفسيره، ويكون رئيس سقاته معه، فيخبره بيوسف، ويوسف الحلم بحكمة ويصير الوزير الأول لمصر وأبًا لفرعون إذن ما بدا تأخيرًا، كان إعداد لوضع أفضل.

3- وربما يكون السبب هو اختيار إيماننا 🔗

هل نتضايق حينما لا تُسْتَجَاب صلواتنا في ذات الوقت؟ هل نتذمر؟ هل نلجأ إلى غيره؟ هل يشكو للكل؟ هل نجدف عليه؟ أم أننا نصبر في إيمان وفي رجاء وثقة؟.. إنه اختبار من الله لإيماننا، اختبار منا لأنفسنا. حتى إن وجدنا في أنفسنا ضعفًا، نعالجه.

4- وربما يكون السبب هو أن نحصل على انسحاق القلب 🔗

إن استجابة كل صلاة في وقتها، ربما تؤدي بنا إلى الافتخار والمجد الباطل. بينما هذا (التأخير) قد يوصلنا إي التواضع والانسحاق، فندرك أننا لسنا شيئًا..

5- وقد يكون السبب هو أن نصطلح مع الله 🔗

فإن (تأخر) علينا في الاستجابة، قد نراجع أنفسنا، هل نحن أخطأنا إلى الرب، فلم يستجب بسبب خطايانا؟ وهنا نتذكر قول الرب “ارجعوا إليَّ فارجع إليكم” (ملا 2: 7) يقودنا هذا الأمر إلى التوبة. ويكون وصلنا إلى التوبة هو الموعد المناسب الذي حدده الله، بلا تأخير.

6- ربما يكون السبب هو أن ما نناله بسرعة، لا نشعر بقيمته 🔗

وقد لا نشكر عليه، فإن (تأخرت) الاستجابة، يزداد تعلقنا بالمطالبة وشعورنا بقيمة تحقيقها، فإذا ما استُجِيبَت بعد حين، يزداد شكرنا لله ولا ننسي إحسانه إلينا. وهذا يعمق ارتباطنا به، كذلك نحرص على ما نلناه منه فلا نفقده بسرعة..

7- وربما يصبر الله علينا في الضيقة، لننال بركاتها 🔗

إن استجاب لنا الله في التو واللحظة، ورفع عنا الضيقة، فلا يمكن أن ننال البركات التي ننالها كلمة طالت مدة الضيقة، واحتملنا وصبرنا ونأخذ بسبب ذلك أكاليل، بل نأخذ خبرات روحية أيضًا. ونأخذ فضيلة الصبر والتسليم وانتظار الرب.

8- وقد يكون السبب فيما نظنه تأخيرًا، هو أن الله يعد لنا بديلًا أفضل مما نطلبه 🔗

ذلك لأن الله يعطينا دائمًا ما ينفعنا وما يناسبنا، وليس مجرد الذي نطلبه.

إن الله لا يستجيب حرفية صلواتنا، بل روحها. هو يعرف احتياجاتنا أكثر مما نعرف نحن. وهو يعرف الصالح لنا أكثر مما نعرف نحن. ويكفي أن نقول له إننا نريد، وهو يختار بحكمته ما يراه نافعًا لنا، وما يراه مطابقًا لمشيئته المقدسة المملوءة حكمة.

9- ربما شعورنا أن الله قد تأخر علينا، هو تعبير عن عدم إجادتنا لعبارة “لتكن مشيئتك” 🔗

إننا نقولها في الصلاة. ولكننا غالبًا لا ندخل إلى عمقها ولا ندركها ولا نغنيها. فإن تأخرت استجابة ما نطلب، علينا أن نقول له: نحن يا رب لا نفرض عليك مشيئتنا، إنما نصارحك بما في داخلنا من رغبات ومن طلبات. فإن وجدتها نافعة حققها في الوقت الذي تختاره. وإلا فلتكن مشيئتك، بكل رضي قلوبنا..

إنه تدريب على حياة التسليم، والمبنية على الثقة بتدابير الله.

المهم أن ننتظر الرب، بقلب مملوء بالسلام والاطمئنان، شاعرين أن قضيتنا قد استقرت في يد الله الأمينة وفي قلب الله الحنون. وهذا يكفي.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


53- الله العطوف 🔗

حقًا أن الله يحب أن يكون الإنسان قويًا في شخصيته، قويًا في حياته الروحية، قويًا في احتماله، في خدمته، في فهمة، في كل شيء.

ولكنه مع ذلك هو إله الضعفاء أيضًا.

يسندهم في ضعفهم، يشجعهم ويقويهم، ولا يتركهم.. بل عن مثل هؤلاء، قال السيد المسيح “روح السيد الرب علي. لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمسبيين بالعتيق، وللمأسورين بالإطلاق.. لأعزي كل النائحين… لأعطيهم جمالًا عوضًا عن الرماد، ودهن فرح عوضًا عن النوح، ورداء تسبيح عوضًا عن الروح اليائسة” (أش 61: 1-3).

نعم إنه يسند هؤلاء اليائسين والمنكسرين والنائحين. ويقول عنه:

معين مَنْ ليس له معين، ورجاء من ليس له رجاء.

عزاء صغيري النفوس، ميناء الذين في العاصف. أي انه ميناء السلامة للذين في سفن تتقاذفها الأمواج والعواصف.. كما حدث للتلاميذ، في يوم ريح شديدة وكانت. سفينتهم في وسط البحر معذبة من الأمواج. فأبصروه قادمًا إليهم ماشيًا على الماء وقال لهم “أنا هو، لا تخافوا”.. وسكنت الريح (مت 14: 24 - 32).

حقًا إنه معين من ليس له معين، وكمثال ذلك:

شفاؤه مريض بيت حسدا الذي له إنسان يلقيه في البركة..

حينما تقف وحيدًا، وليس لك إنسان يهتم بك، ستجد الله حتمًا إلى جوارك حينما تهرب من عيسو الجبار الذي يريد أن يقتلك، حينئذ ستري لسمًا بين السماء والأرض، صوت الله يطمئنك قائلًا “ها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب..” (تك 28: 15). حينما يطاردك فرعون حتى إلى البحر، وتصغر نفسك، سيشق لك الله في البحر طريقًا.. لا تصغر نفسك أمام الشدائد. وإن صغرت، اسمع قول الرسول:

شجعوا صغار النفوس، اسندوا الضعفاء” (1 تس 5: 14).

كذلك أنت، إن رأيت إنسانًا حائرًا يائسًا منهارًا، لا تستصغره. وإن رأيته ساقطًا، لا تحتقره، وقل له كلمة ترفع معنوياته، أعطه كلمة رجاء. افتح له طاقة من نور تضئ له الطريق.

يا أخي إن كنت على قمة الجبل، فلا تحتقر الذين على السفح أو في الوادي، أو حتى الذين في المستنقع.. وإن أعطاك الرب نعمة ووصلت، فلا تنظر إلى الناس من فوق، ولا تحتقر الذين لم يصلوا. أو حتى اليائسين وصغار النفوس. بل تذكر قول الرب:

انظروا. لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار” (مت 18: 10).

مهما وصلت إليه حالتهم، فالله قادر أن يقيمهم، كما أقام من قبل أوغسطينوس وبيلاجية وموسى الأسود. حتى إن كان شجرة غير مثمرة، وعلى وشك أن تقطع، فإن الكرام الحنون يشاء أن يتركها هذه السنة أيضًا، وينقب حولها ويضع زبلًا، فريما تأتي بثمر فيما بعد (لو 13: 6-9).. إنه إلهنا الطيب الذي قيل عنه:

قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ (مت 12: 20)

ربما يعصب القصبة المرضوضة فتستقيم، وينفخ في الفتيلة المدخنة فتشتعل..

إن الله يعطي فرصة لكل أحد. لأنه لا يشاء موت الخاطئ، بل أن يرجع ويحيا (حز 18: 23، 32).. وطالما الإنسان على قيد الحياة، لا تزال أمامه فرصة للتوبة، ولا يفقد الرجاء. فاللص اليمين آمن وعاد إلى الله، وهو في الساعات الأخيرة من حياته على الأرض.. لقد كان هو أيضًا قصبة مرضوضة.

عبارة جميلة معزية قالها ربنا يسوع المسيح وهي:

ما جئت لأدين العالم، بل لأخلص العالم (يو 12: 47).

ليست في فمي كلمة دينونة، بل كلمة حب، كلمة خلاص ومغفرة.. بل الدينونة التي عليكم أنتم، سأحلها أنا بدلًا منكم، وأمحوها عنكم بدمي.. حقًا يا رب فمك حلاوة وكله مشتهيات (نش 5: 16). تقول ما جئت لأدين، بينما الدينونة كلها للابن! (يو 5: 22).


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


54- أمثلة من عطف الله 🔗

إن البشرية الضعيفة المسكينة الساقطة، سندها الله بالأنبياء.

حتى عندما رفضوه. أتى ليجتذبهم إليه.. عندما تركوه، وحفروا له آبارًا مشققة لا تضبط ماء (أر 2: 13)، لم يتركهم بل حدثهم عن ينبوع المياه الحية.. ولما عبدوا العجل الذهبي، وقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر (خر 32: 4).. لم يفنهم الرب، بل رجع عن حمو غضبه، وقبل شفاعة موسى النبي فيهم.. ولا يزال الرب يصبر ويحتمل، ويقيم الساقطين ويحل المربوطين (مز 145).

في صغر نفسك قد تيأس من خلاصك!

ولكن الله لا ييأس من اجتذابك إليه.

لقد جاء يطلب ويخلص ما قد هلك (لو 19: 10). سعي وراء العشارين والخطاة وجلس على موائدهم. وقال “ما جئت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة”، “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضي” (لو 5: 31، 32).. مدح العشار الذي لم يجرؤ أن يرفع عينيه إلى فوق، وقد وقف من بعيد.. وفضله على الفريسي، وخرج من عنده مبررًا (لو 18: 13، 14).

حتى المرأة الخاطئة المضبوطة في ذات الفعل.

المرأة الغارقة في الخزي وصغر النفس، التي اجتمع، حولها الكتبة والفريسيون ليرجموها.. أنقذها الرب من هؤلاء، وقال لها “ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئ أيضًا” (يو 8: 3-11).

وكذلك الخاطئة التي بللت قدميه بدموعها، ومسحتهما بشر رأسها، رفع معنويتها، وفضلها على الفريسي، وقال إن خطاياها الكثيرة قد غفرت لها (لو 7: 37 - 47).

من أجل معرفة داود النبي، بحنان الله الذي يشجع صغار النفوس، قال له في توبته:

اغسلني، فأبيض أكثر من الثلج (مز 50).

وعبارة “أكثر من الثلج “توضح مدى غني حنان الله على الخطاة، حتى قال عنه المرتل في مزموره الجميل المعزي “باركي يا نفسي الرب، ولا تنسي كل حسناته..” قال: “كما يتراءف الأب على البنين، يتراءف الرب على خائفيه”، “لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا. لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض، قويت رحمته على خائفيه. كبعد المشرق عن المغرب، ابعد عنا معاصينا.. لأنه يعرف جبلتنا يذكر أننا تراب نحن” (مز 103: 10- 14).

إن الله ليس فقط يغفر لنا خطايانا، بل يقول:

“ولا أذكر خطيتهم بعد” (أر 31: 34).

يقول عن الخاطئ التائب “كل معاصيه التي فعلها لا تذك عليه” (حز 18: 22) “كل خطيته التي أخطأ بها لا تذكر عليه” (حز 33: 16). ويقول بولس الرسول عن عمل الفداء “إن الله كان في المسح مصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم” (2 كو 5: 19). ويقول المرتل في المزمور “طوبي للذي غفر إثمه وسترت خطيته. طوبي لرجل لا يحسب له الرب خطية” (مز 32: 1، 2). ويكرر القديس بولس الرسول هذه الآية في رسالته إلى رومية (رو 4: 8).

فالذي يصيبه صغر نفس بسبب خطاياه، فليتذكر أنها لا تحسب عليه في توبته.

الله يمحوها في التوبة، ولا يعود يذكرها “إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيض كالثلج” (اش 1: 18). بل أكثر من الثلج (مز 50).

ولنأخذ مثالًا لبطرس الرسول الذي أنكر المسيح:

بل أنه أخذ “يلعن ويحلف أني لا أعرف هذا الرجل الذي يقولون عنه” (مر 14: 17) (مت 26: 74). ونسي قوله للسيد “وإن شك فيك الجميع، فإنا لا أشك”، “اضطررت أن أموت معك لا أنكرك” (مر 14: 29، 31) (مت 26: 33، 35).. وهوذا الآن وقد أنكره ثلاث مرات.. لذلك وقع في صغر النفس، وبكي بكاءً مرًا (مت 26: 75).

ولكن الرب لم يترك تلميذه بطرس لصغر النفس، بل شجعه بأساليب كثيرة.

فبعد القيامة قال للمريمات “اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس أنه يسبقكم إلى الجليل هناك تروني” (مر 16: 7). ولم يدمج بطرس وسط التلاميذ، لأنه كان محتاجًا إلى اهتمام خاص ليرفع نفسيته بعد إنكاره… ولما ظهر السيد المسيح لسبعة من تلاميذه عند بحر طبرية، قال لبطرس “أتحبني أكثر من هؤلاء؟ أرع غنمي.. أرع خرافي..” (يو 21: 15-17). ليظهر له أنه لم يسقط من درجته الرسولية بإنكاره له.. بل إن بولس الرسول يقول عن ظهورات الرب بعد قيامته، أنه ظهر لصفا ثم للاثني عشر (1 كو 15: 5).

وبالمثل فعل الرب مع توما في شكه.

كانت نفسه أصغر من أن تؤمنون أن تري.. كل التلاميذ آمنوا، ما عداه فلم يتركه الرب إلى شكه وصغر نفسه، بل ظهر له وأراه جروحه. وقال له “هات يدك وضعها في جنبي. ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا” فآمن توما وقال “ربي وإلهي” (يو 20: 27، 28).

لننظر معاملة الرب لموسى الثقيل الفم واللسان (خر 4: 10).

كان موسى يعرف عن نفسه هذا الضعف، وأنه لا يصلح بسببه وقد قال للرب “لست أنا صاحب كلام، منذ أمس ولا أول من أمس، ولا من حين كلمت عبدك” (خر 4: 10). وقال له أيضًا “ها أنا أغلف الشفتين، فكيف يسمع لي فرعون” (خر 6: 30). ولكن الله شجعه، ولم يتركه لصغر النفس.

بل إن هذا الأغلف الشفتين صار كليم الرب.

وقال له اذهب الآن، وأن أكون مع فمك، وأعلمك ما تتكلم به”. وها هو هارون أخوك “تكلمه وتضع الكلمات في فمه. وأنا أكون مع فمك ومع فمه. وأعملكما ماذا تصنعان… هو يكون لك فمًا، وأنت تكون له إلهًا” (خر 4: 12-16).

كذلك شجع الله صغار السن، والخائفين من المسئولية:

لما قال أرميا “إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد “قال له الرب “لا تقل إني ولد.. لا تخف من وجوههم، لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب “ومد الرب يده ولمس فم ارميا وقال له “ها قد جعلت كلامي في فمك. انظر. قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك، لتقلع وتهدم، وتهلك وتنقض، وتبني وتغرس” (أر 1: 6-10). ثم شجعه بالأكثر وقال له “هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة محصنه وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض… فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب لنقذك” (أر 1: 18، 19).

وبنفس الوضع شجع الرب يشوع بعد موت موسى.

لم يكن سهلًا علي يشوع أن يملأ المكان الكبير الذي كان يشغله موسى النبي العظيم، لذلك كان صغيرًا في عيني نفسه. ولكن الرب شجعه قائلًا:

“لا يقف إنسان في وجهك كل أيامك. كما كنت مع موسى، أكون معك. لا أهملك ولا أتركك. تشدد وتشجع.. أما امرأتك. تشدد وتشجع. لا ترهب ولا ترتعب، لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب” (يش 1: 5-9)..

قصة عن القديس الأنبا ايسيذيروس قس القلالي:

قيل عنه في البستان: إن أي أخ كان يفشل الآباء في إصلاحه ويطردونه كان الأنبا ايسيذيروس يأخذه ويطيل أناته عليه حتى يخلص. ولذلك فإن الأنبا موسى، حينما جاء إلى الدير، وكان منظره مخيفًا، حولوه إلى القديس ايسيذيروس احدي عشرة مرة. فلما نصحه بالذهاب إلى قلايته، أجاب: “لا أستطيع يا معلم”، لأن الأفكار كانت تضغط عليه بشدة.

وأطال القديس أناته عليه، حتى تحول موسى الأسود إلى قديس.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


55- نصائح في مساندة الضعفاء 🔗

حاولوا دائمًا(1) أن ترفعوا من نفسية الناس ومعنوياتهم “اسندوا الضعفاء” إن رأيتم إنسانًا يبكته الكثيرون، وينتقدونه، ويتهكمون عليه، وهو ذليل أمامهم: حاولوا أن تحتضنوه، وتقولوا فيه إن أمكنكم كلمة طيبة.. تأكدوا أنه لن ينسي هذا الموقف النبيل منكم كل أيام حياته.. إن هذه رسالة القلوب الكبيرة المحبة الحنونة، نحو صغار النفوس

إن وجدت إنسانًا مربوطًا بالخطية، فلا تُعَيِّره، بل فكه من رباطاته.

لا تكن مثل رجل رأى شابًا يصارع الغرق في البحر. فظل يوبخه ويقول له: يا ابني، مادمت لا تتقن العوم، فلماذا تنزل إلى البحر؟! فقال له الشاب: أنقذني يا سيدي من الغرق، ثم وبخني بعد ذلك كما تشاء..!

هكذا أنت لا تعير أحد بفشله. بل أعطه رجاء في النجاح.

لا تقل: نصحت كثيرًا ولا فائدة. بل أَطِل أناتك.

هوذا الرسول يقول “.. اسندوا الضعفاء. تابوا على الجميع” (1 تس 5: 14) إن الانتصار على خطية متأصلة، يحتاج إلى وقت وإلى صبر فأصبر على الضعفاء، ريثما تفتقدهم النعمة وتنجيهم. واذكر أنك أيضًا تحت الآلام مثلهم. ضع أمامك قول الرسول “اذكروا المقيدين كأنك مقيدون معهم، والمذلين كأنكم أيضًا في الجسد” (عب 13: 3)..

تذكر أن الذين ثبطوا همة الشعب، لم يسمح لهم الله بدخول أرض الموعد.

أولئك الذين قالوا “لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنهم أشد منا… قد رأينا هناك الجبابرة بني عناق.. فكنا في أعيننا كالجراد” (عد 13: 31، 33).. ولم يدخل الأرض سوى يشوع بن نون وكالب بن يفنه، الذي قال في رجاء “إننا نصعد ونمتلكها، لأننا قادرون عليها” (عد 13: 30)..

ابحث عن النقط البيضاء في حياة الإنسان الخاطئ أو الضعيف. أظهِرها وامتدحها.

فهكذا فعل السيد المسيح مع المرأة السامرية، على الرغم من خطاياها. قال لها “حسنًا قلت ليس لي زوج.."، “ها قلت بالصدق” (يو 4: 17، 18). ووسط هذا المديح شجعها على الاعتراف. وربح نفسها للتوبة..

هناك إنسان تشجعه بكلمة طيبه، وآخر صالحة، أو بذكر قصص وآيات أو بتهوين المر عليه، أو بالتحدث عن نعمة الله وعملها.. كذلك بالتغاضي عن كثير من أخطائه. لأن التوبيخ على كل خطأ قد يوقع في اليأس.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


56- الله الذي يبدأ 🔗

هناك أسلوبان في حياة التوبة، وفي العلاقة بين الله والإنسان:

1- أن يأتي الإنسان إلى الله، فيقله الله 🔗

وذلك حسب وعد الله الصادق “من يقبل إلي، لا أخرجه خارجًا” (يو 6: 37). وهذا هو الذي حدث للابن الضال: شعر بسوء حالته، وقال أقوم واذهب إلى أبي. وفعلًا ذهب إليه، فقبله أبوه فرحًا (لو 15: 17 - 24). ويطلب الله منا هذه التوبة وهذا الرجوع إليه، فيقول “ارجعوا إلى فأرجع إليكم” (ملا 3: 7).

2- الأسلوب الثاني: أن يبدأ الله العلاقة مع الإنسان 🔗

هو الذي يذهب إليه. يسعى إلى خلاصه، كما سعي وراء الخروف الضال حتى وجده وحمله على منكبيه فرحًا (لو 15: 4، 5)، وعن هذه المبادرة الإلهية، يقول “أنا واقف على الباب أقرع. من يفتح لي، ادخل وأتعشى معي، وهو معي” (رؤ 3: 20). ونود في هذا الفصل، أن نركز على بدء الله بالعمل معنا.

الإنسان قد لا يبدأ مع الله، لأسباب عديدة:

  • ربما لأنه مغلوب من شهواته.

تضغط عليه الشهوة من داخل قلبه، أو تحاربه بشدة من الخارج، وتؤثر عليه وتأسره. بحيث أصبح يحب الخطية، ولا يريد أن يبرأ منها (يو 5: 6). فماذا يفعل مثل هذا الإنسان؟ هل ييأس ويفقد الرجاء؟ أم أن الله يبدأ العمل معه: يفتقده، ويقرع على بابه، ويجتذبه إليه؟ يقينًا إن هذا يحدث.

  • وربما الإنسان لا يبدأ، لأنه مشغول عن الله بأمور كثيرة:

وهذه المشغوليات لا تترك له وقتًا يتفرغ فيه لله.. كما قال الرب لمرثا: “أنت تهتمين وتطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد” (لو 10: 41، 42).. إنسان ليس لديه وقت لله.. ليس وقت للصلاة، ولا للقراءة والتأمل، ولا للخدمة.. يحتاج إلى يد قوية، تنزعه من كل هذا..

  • وربما الإنسان لا يبدأ، بسبب الجهل. لا يعرف كيف يبدأ.

مثل أهل نينوى الذين قيل عنهم إنهم “لا يعرفون يمينهم من شمالهم” (يون 4: 11). فبدأ الله معهم، وأرسل إليهم يونان النبي ليهديهم إليه. ومثل شاول الطرسوسي، الذي كان بجهل يضطهد الكنيسة (1 تي 1: 13). فكان لابد أن يظهر له المسيح ويجتذبه إليه. وأيضًا حينما تأثر بهذا الظهور وآمن، قال “ماذا تريد يا رب أن أفعل؟” (أع 9: 6). عبارة “ماذا أفعل؟” قالها أيضًا الشاب الغني (مت 19: 16). وقالها أيضًا اليهود في يوم الخمسين (أع 2: 37). ويقولها كثيرون..

  • وربما الإنسان لا يبدأ، بسبب الضعف.

· فهو يقول “الشر الذي لست أريده إياه أفعل”، “الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسني فلست أجد”، “أري ناموسًا آخر في أعضائي، يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية”، “ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت” (رو 7: 18-24).

· إذن لا بُد أن يبادر الله، وينقذ مثل هذا الإنسان..

وهنا لعل إنسانًا يسأل:

إذا لم أستطيع أنا أن أبدأ، هل الله مستعد أن يبدأ معي؟

نعم يا أخي، هو مستعد أن يبدأ. بل هذا هو أسلوبه باستمرار. والكتاب المقدس مزدحم بأمثلة كثيرة فيها كان الله هو الذي يبدأ، منذ خلق الإنسان، وقبل خلقه أيضًا. ولنحاول أن نتأمل كل هذا معًا..

هناك حقيقة ثابتة، يسجلها الكتاب المقدس، وهي:

علاقة الله بالإنسان، الله هو الذي بدأها..

  • بدأت العلاقة بأن الله خلق الإنسان. وطبعًا لو لم يخلقه ما كانت هناك علاقة. وأضاف الله إلى هذا، إنه خلقه على صورته ومثاله كشبهه، ومنحة الروح الذي به ينشئ علاقة معه..

  • وإلي جوار الخلق: لما سقط الإنسان الله هو الذي بدأ العلاقة.

لم يبدأ الإنسان بالسعي إلى الله ليعترف بخطيته ويطلب المغفرة والمصالحة، بل العكس لقد هرب من الله واختبأ وراء الشجر. فذهب الله إليه، وكلمة وشجعه على الاعتراف. ووعده بالخلاص، حينما قال إن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تك 3). وكأن الله كان يقول لآدم: هل أنت خائف مني يا آدم؟ لا تخف، أنا سأغفر لك. سأعد لك طريق الخلاص..

  • ولا شك أن الله هو الذي بدأ بإعداد هذا الخلاص العجيب.

هو الذي علم البشرية عقيدة الفداء والكفارة، وموت نفس بريئة طاهرة عن نفس خاطئة مستحقة للموت. وهو الذي وضع للإنسان شرائع الذبائح والمحروقات، وقواعد النجاسة والتطهير. وهو الذي أعطانا التوبة للحياة (أع 11: 18).

  • والله هو الذي بدأ بالوحي، وأرسل إلينا الأنبياء.

كل ذلك لتعليمنا وإرشادنا، وتوصيل كلمته إلينا. وهو الذي أعطى هؤلاء الرسل “خدمته المصالحة” (2 كو 5: 18). حتى أن القديس بولس الرسول قال “نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله” (20 كو 5: 20). إذن الله هو الذي يبدأ عملية المصالحة، ويرسل رسله لتمهيدها.

  • هو الذي تجسد، ونزل إلينا، ليفدينا ويخلصنا.

وما كنا نحن نعرف شيئًا عن التجسد والفداء، وما كنا نطلبه. ولكن الله أظهر محبته لنا، بهذا الخلاص العجيب” هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16).

وفي علاقته بالإنسان، الله هو الذي بدأ بالدعوة.

سواء بالنسبة إلى النبوة، أو الرسولية، أو الكهنوت.. الله هو الذي دعا أبانا نوح، وكلفه بصنع الفلك، والدخول فيه، ليخلص هو وأسرته، ولكي يستبقي الله حياة على الأرض (تك 6-8). وكان الفلك في الماء رمزًا إلى المعمودية “الذي فيه خلص قليلون، أي ثماني أنفس بالماء. الذي مثاله يخلصنا نحن الآن، أي المعمودية” (1 بط 3: 20، 21).

وكما دعا الله نوحًا، دعا أبانا إبراهيم، ليكون له شعبًا يسير في طريق الخلاص.

أبرام لم يبدأ هذه العلاقة، غنما بدأها الله معه. دعاه ليتبعه في الأرض التي يريه إياها، وباركه. وقال له تتبارك فيك جميع قبائل الأرض” (تك 12: 1-3). وأيضًا “تتبارك في نسلك جميع أمم الأرض” (تك 22: 18)

ونفس الموعد أعطاه الرب لأبينا يعقوب، فقال له “ويتبارك فيه وفي نسلك جميع قبائل الأرض” (تك 28: 14).

الله هو الذي بدأ، فمنح البركة.

منح البركة منذ البدء لأبوينا الأولين آدم وحواء (تك 1: 28). وكرر نفس البركة لأبينا نوح وبنيه (تك 9: 1). ومنح البركة لأبينا إبراهيم (تك 12: 12) (تك 22: 17، 18). ولأبينا إسحق (تك 26: 24)، ولأبينا يعقوب (تك 28: 14).

وكانت أعظم بركة، أن ينتهي من نسلهم المسيح، وبه تتبارك جميع قبائل الأرض بالخلاص الذي يقدمه للعالم.

فالخلاص هو الهبة العظمي، الذي بدأ الله بها، وأكملها من أجل محبته للإنسان،لأنه:

“يريد أن الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون” (1 تي 2: 4).

ومن أجل هذا الخلاص دعاء الأنبياء والرسل:

  • دعا موسى النبي، حينما كلمه من العليقة (خر 3: 4). وذلك لكي يرسله لخلاص الشعب، وما كان موسى مفكرًا وقتذاك في هذه الدعوة، ولا في السعي لتخليص الشعب، بل اعتذر عن ذلك أكثر من مرة (خر 4: 10، 13).

  • ودعا الله أناسًا من بطون أمهاتهم.

كما قال لأرمياء الطفل “قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيًا للشعوب” (أر 1: 15). ومثل أبينا يعقوب (رو 9: 1- 13) (تك 25: 23).

ومعلمنا القديس بولس الرسول قال عن دعوته “لما سر الله الذي أفرزني من بطن أمي، ودعاني بنعمته.."(غل 1: 15). ثم لما حل الوقت المناسب، كان الله أيضًا هو الذي بدأ، فقابله في طريق دمشق، وظهر له بنور مبهر ودعاه (أع 9)

  • وجميع رسل السيد المسيح، هو الذي دعاهم، بل قال لهم:

“لستم أنتم اخترتموني، بل أن اخترتكم.."(يو 15: 16).

وأكمل قائلًا “وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم”. وكما اختار الرسل الاثني عشر (مت 10: 1)، كذلك اختار السبعين أيضًا (لو 10: 1).

ما فَكَّر بطرس وأندراوس أن يتبعا المسيح، وهما مشغولان بشباكهما. وما فكر متى أن يكون أحد تلاميذ المسيح، وهو موظف في مكان الجباية، وهكذا بالنسبة إلى الباقين.. ولكن الرب هو الذي بدأ بتكوين علاقة ودعاء كل هؤلاء..

“الذين سبق فعرفهم، سبق فعينهم.. وهؤلاء دعاهم أيضًا” (رو 8: 29، 30).

هو الذي يناديك من حيث لا تعلم، وحيث لا تتوقع، ويقول لك “هلم ورائي”. وهو الذي يقودك في الطريق، ويمنحك القوة.. المهم أن يكون قلبك مستعدًا.

إن ظهورات الرب لتلاميذه بعد القيامة، تعطينا فكرة جميله عن الله الذي يبدأ..

  • في تلك الفترة، كان السيد هو الذي يذهب إلى تلاميذه، وما كانوا هم الذين يأتون إليه. ولعل من الأشياء الجميلة التي تستدعي التأمل: أنه ظهر لهم وهو جلوس في العلية، والأبواب مغلقه (يو 20: 19).

هل جربت وقتًا، كانت فيه أبوابك مغلقة، ثم اخترقها المسيح ليتحدث إليك؟!

معقول ومقبول، أن يتحدث المسيح إلينا، حينما تكون أبوابنا مفتوحة له (رؤ 3: 20). أما أن يدخل ويظهر ويتحدث إلينا، والأبواب مغلقة، فهذا هو الأمر العجيب الذي يناسب محبته.

على أنه بالنسبة إلى الرسل، كانت أبوابهم مغلقة بسبب الخوف، لا بسبب الرفض..

  • وظهر السيد لتلاميذه أيضًا، وهم منهمكون في أمور مادية:

الأصحاح الأخير من إنجيل يوحنا، يشرح لنا كيف ظهر السيد المسيح لسبعة من تلاميذه كانوا يصطادون السمك، ومنهم بطرس ويوحنا.. فقد حدث أنهم رجعوا إلى صيد السمك (يو 21: 3). ومع ذلك ظهر لهم الرب أثناء الصيد. وفي ذلك يقول القديس أغسطينوس “إن المسيح ظهر لبطرس، ليس وهو منهمك في صيد النفوس إنما ظهر له المسيح، وهو منهمك في صيد السمك..”.

لعل في ذلك تعزية لنا أن الرب مستعد أن يظهر لنا، ليس فقط ونحن في عمل روحي،، بل حتى ونحن في العمل المادي أيضًا.. هو الذي يبدأ: يظهر، ويبدأ الحديث، لصالحنا.

  • وظهر أيضًا لتلميذين، وهما لا يعرفانه..

إنهما تلميذا عمواس. ظهر لهما وهما لا يعرفانه. بل لما سألهما عن موضوع حديثهما، أجاباه “هل أنت متغرب وحدك في أورشليم، ولم تعلم الأمور التي حدثت في تلك الأيام”..

وبدأ المسيح من موسى ومن جميع الأنبياء، يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب (لو 24: 18-27).. وأخيرًا انفتحت أعينهما وعرفاه (لو 24: 31).

إن كنت بعد لم تعرفه، هو مستعد أن يظهر لك، ويكشف لك ذاته، ويفسر لك الأمور المختصة به.. ويجعل قلبك ملتهمًا فيك، وهو يوضح لك الكتب (لو 24: 33). هو الذي يبدأ..

حتى في التوبة، غالبًا ما يبدأ الله عمله فينا. وكل ما يطلبه أن نتجاوب معه.

هو الذي بدأ فأعطانا الضمير، وأعطانا التمييز. وأيضًا روحه القدوس يبكتنا على خطية (يو 16: 8).. كل ذلك لك يدفعنا إلى التوبة.

وإن كنا متراخين، ويرسل لنا كلمه تحثنا، عظة مؤثرة، كتابًا نافعًا.

وتتابعنا زيارات النعمة، تدفعنا إلى التوبة.

وربما يسمح الله لنا بمرض أو ألم، ليجعلنا نفيق من غفلتنا، أو يسمح بحادث معين يكون له تأثيره. أو يتكلم في قلوبنا خلال تأثرنا بوفاة أحد أحبائنا. وهكذا إلى سائر الوسائل التي نشعر فيها أن الله ينخس قلوبنا لنتوب. إنما المهم أن نتجاوب، ولا نرفس مناخس (أع 9: 5).

أترانا نستطيع أن نصل إلى التوبة بمجرد مجهودنا الخاص؟ كلا، فالرب يقول:

بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئًا (يو 15: 5).

لنا رجاء إذن أنه يعمل فينا لأجل خلاصنا. حتى إن كنا لا نريد، نرجو أن يمنحنا هذه الإرادة. ألم يقل القديس بولس الرسول”.. لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا لأجل المسرة” (في 2: 13) لذلك “تمموا خلاصكم بخوف ورعدة”..

داود النبي أخطأ، وما كان يشعر بخطورة خطيئته:

وظلت خطية تقوده إلى أخري، وهو يتمادَى ولا يشعر بما هو فيه، إلى أن أرسل الله إليه ناثان النبي، فضرب له مثلا شعر به بعمق جرمه.. ومن هنا بدأت معه قصة التوبة والدموع والندم، والتي سجلها في كثير من مزامير. وكان الله هو البادئ ليقوده إلى انسحاق النفس..

مثال آخر هو لوط في أرض سادوم.

لقد أختار لوط الأرض المعشبة، مع بيئتها الخاطئة المعثرة، وسكن في سادوم وتمادي فزوج بناته من أهلها. ويقول القديس بطرس في رسالته الثانية عن عمل الرب معه “وأنقذ لوطًا البار مغلوبًا من سيرة الأردياء في الدعارة. إذ كان البار بالنظر والسمع -هو ساكن بينهم- يعذب يومًا نفسه البارة بالأفعال الأثيمة” (2 بط 2: 7، 8).

أوقع الله أهل سادوم. ولما أراد الله حرق المدينة أرسل ملاكين يعجلان لوطا للخروج منها “ولما تواني امسك الملاكان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه، لشفقة الرب عليه، وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة.."(تك 19: 16).

ثِق أن الله مستعد ان يعمل معك كما عمل مع لوطا ويخرجك من أرض الخطية فعليك أن تستسلم لقيادته، ولا تنظر إلى الوراء كما فعلت امرأة لوط..

صَلِّ إذن وقل: اعمل يا رب معي. ولا تنتظر حتى أبدأ أنا، فربما لا أبدًا!

ابدأ معي كما فعلت مع هؤلاء وغيرهم. خذني من سادوم أخرجني منها، بواسطة ملائكتك القديسين. وليظل يدوي في أذني صوتك الحنون “اهرب لحياتك ولا تقف في كل الدائرة.. لئلا تهلك” (تك 19: 17).

أما نحن فليتنا نغني مع المرتل “نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين. الفخ أنكسر ونحن نجونا. عوننا من عبد الرب” (مز 123).

أنت يا رب الذي كسرت الفخ. إذ لا يستطيع عصفور أن يكسر فخ الصيادين..

هل كانت مريم القبطية تفكر في التوبة؟! كلا، بل كانت ماضية لارتكاب مزيد من الخطايا. ثم تدخل الله في حياتها، وحدثت معجزة منه أيقظتها ودفعتها إلى التوبة. واستمر عمل الله معها حتى تحولت إلى ناسكة سائحة..

وبالمثل تدخل الله في حياة أوغسطينوس وبيلاجية وسارة، وحول دفة الحياة إلى طريقه هو وكان هو البادئ..

حتى في الخدمة، هو الذي يدعو ويرسل، ويمنح قوة من روحه القدوس لنعمل بها، بل قد يعد لنا كل شيء ويقول لنا:

“أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه” (يو 4: 38).

“آخرون تعبوا، وانتم دخلتم على تعبهم”.. كل شيء يعده لنا حتى الكلمة: هو يمنحنا كلمة عند افتتاح فمنا” (أف 6: 19). وهو الذي يعطي التأثير للسامعين لكي يعملوا بما سمعوه.. فإن كان احد يخاف الخدمة فليذكر دائمًا عمل الله فيها..

حتى الأبدية الله هو الذي فيقول عن نصيبنا فيها:

“أنا ماضٍ لأعد لكم مكانًا..” (يو 14: 2).

مباركة هي محبتك يا رب. ليتك تعد لنا هذا المكان. حتى تأتي وتأخذنا إليك وحيثما تكون أنت، نكون نحن أيضًا (يو 14: 3).


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


57- نهاية أمر خير من بدايته 🔗

في قصة القيامة نرى كيف أن تعب التلاميذ وخوفهم في يوم الجلجثة والصلب، قد انتهي بفرحهم واطمئنانهم في يوم القيامة.

ولعل هذا يذكرنا بآية هامة وردت في سفر الجامعة:

“نهاية أمر خير من بدايته” (جا 7: 8).

طبعًا على شرط أن تكون نهاية طيبة..

والنهاية الطيبة تجعل الإنسان كل تعبه، ولا يذكر سوى هذه النهاية المفرحة التي تعزيه. تمامًا. كما أن قيامة السيد المسيح محت من مشاعر التلاميذ كل ما قاسوه في يوم الصلب.

وهكذا نرى الناس دائمًا يبحثون عن النهاية، ويهتمون بها.

وذلك في كل نواحي الحياة: تروي قصة أو تشاهد رواية، وكل ما يهمك هو كيف انتهت القصة أو الرواية.. قضية، أو خلاف بين زوجين، أو حدث، ولكنك تسأل في لهفة: والنهاية..؟ نفس الوضع في أية مباراة، أو أية منافسة، أو أية حرب بين دولتين، أو أي حوار أو تفاوض… السؤال المهم هو: وماذا كانت النهاية أو النتيجة..

حتى في الحياة الروحية: الأهمية كلها هي في النهاية.. ولذلك فإن القديس بولس الرسول يقول عن رجال الله:

انظروا إلى نهاية سيرتهم، فتمثلوا بإيمانهم (عب 13: 7).

إنه نفس الوضع الذي تذكره الكنيسة في أعياد القديسين.. قليل هم الذين تعيد الكيسة لميلادهم: كالعذراء (أول بشنس) والمعمدان (30 بؤونة) والأنبا شنوده المتوحدين (7 بشنس). ولكن كل أعياد القديسين تقريبًا هي في أيام نياحتهم أو أيام استشهادهم، في نهاية سيرتهم، حيث أكملوا جهادهم بسلام.

لأن هناك أشخاصًا بدأوا بداية طيبة وانتهوا بنهاية سيئة.

من أمثلة أولئك ديماس تلميذ بولس الرسول، الذي كان يذكره ضمن أعمده الكنيسة مع القديسين مرقس ولوقا وأرسترخس. ولكنه قال عنه أخيرًا “ديماس تركني لأنه أحب العالم الحاضر” (2 تي 4: 10). وقال أيضًا عن أمثال ديماس هذا”.. كثيرين ممن كنت اذكرهم لكم مرارًا، والآن أذكرهم أيضًا باكيًا، وهم أعداء صليب المسيح، الذين نهايتهم الهلاك.. ومجدهم في خزيهم” (في 3: 18،19).

عجيب عن هؤلاء، أن نهايتهم الهلاك! إذن المهم هو النهاية.

لأن كثيرين بدأوا بالروح وكلموا بالجسد، مثل أهل غلاطية..

وسليمان الحكيم، بدأ بحكمة فائقة، وانتهي بالأصنام (1 مل 11).. نرجو أن تكون له نهاية أخرى فاضلة، وهي زهده الذي ورد في سفر الجامعة دليلًا على توبته وهنا نقول “نهاية أمر خير من بدايته “أو هكذا قال الوحي الإلهي على فم سليمان..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


58- قصص نهايات طيبة 🔗

ويحكي لنا الكتاب قصص نهايات طيبة، نذكر من بينها:

1- قصة يوسف الصديق، التي بدأت بخيانة إخوته وقسوتهم، وبيعهم له كعبد، وإشغاله خادمًا في بيت فوطيفار، ثم تلفيق تهمة له، وإلقائه في السجن. ولكن المهم هو النهاية، التي صار فيها أبًا لفرعون (تك 45: 8) والمتسلط على كل أرض مصر، وفرحته بلقاء أبيه وإخوته الذين بكوا بين يديه طالبين المغفرة. حقًا إن نهاية أمر خير من بدايته:

نفس الوضع نقوله عن دانيال والثلاثة فتية:

دانيال القي في جب الأسود. ولكن انتهي الأمر بأن الله أرسل ملاكه فسد أفواه الأسود (دا 6:22). والثلاثة فتية ألقوهم في أتون النار، ولكن انتهي الأمر بأن رأوهم وسط النار بلا أذي، وقد سار معهم رابع شبيه بابن الآلهة (دا 3: 5).

وانتهي الأمر في القصتين بعبادة الإله الحق، وتمجيده في كل المملكة أكثر من كل آلهة الأمم. حقا أن نهاية أمر خير من بدايته.

ونفس الكلام نقول عن أيوب الصديق الذي تعرض لتجربة قد تفوق احتمال البشر، وفقد أولاده وماله وصحته وكرامته.. وبلغت التجربة ذروتها. ولكن ماذا كانت النهاية؟ يقول الكتاب “ورد الرب سبي أيوب. وزاد الرب على كل ما كان لأيوب ضعفًا.. وبارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه.. وعاش أيوب بعد هذا مائة وأربعين سنة. ورأي بنيه إلى أربعة أجيال..” (أي 42: 10- 17).. حقًا إن نهاية أمر خير من بدايته.

ويعوزني الوقت أن تحدثت عن النهايات الطيبة التي ذكرها الكتاب في تقديم إسحق محرقة، وفي بناء نحميا لأسوار أورشليم بعد أن تهدمت وأحرقت أسوار المدينة بالنار (نح 1)، وكيف نصره الله أخيرًا. كذلك قصة المسبيين في بابل، وكيف عادوا أخيرًا، بعد أن بكوا على أنهار بابل، وعلقوا قيثاراتهم على الصفصاف، وقالوا كيف نسبح الرب في أرض غريبة (مز 136) كلها نهايات طيبة، نقول فيها أمر خير من بدايته”.

نفس الوضع نقوله أيضًا في كل قصص التائبين.

كلما نذكر حياة القديس أوغسطينوس، وكيف بدأ حياة مستهترة ماجنة وكذلك القديس موسى الأسود وكيف بدأ قائلًا قاسيًا. والقديسة مريم القبطية والقديسة بيلاجية، والقديسة سارة، وكيف بدأن بحياة الزنا، وانتهت حياتهن كقديسات عظيمات. ألسنا نقول عن حياة كل من هؤلاء التائبين والتائبات “نهاية أمر خير من بدايته”..

إذن على كل واحد أن يبحث في كل أمر: كيف تكون النهاية؟

كل طريق تسلك فيه أسأل نفسك: ما نهاية هذا الطريق؟ وكذلك فكر بنفس التفكير في كل مشروع تبدؤه، وكل علاقة تكون مع آخرين..

شاب مثلًا يحب فتاة ليست من دينه، عليه أن تفكر ماذا تكون نهاية هذه العلاقة؟ ما مصيرها وما مصيره؟! إنسان يختلف مع زوجته، ويحتدم الخلاف بينهما بلا صلح، فليفكر أيضًا: ماذا ستكون نهاية هذا الخلاف، وإلى أين يقوده؟! شاب يبدأ التدخين، ولو بسيجارة واحدة مجاراة لزملائه، أو تجربة لطعم التدخين، عليه أن يفكر كثيرًا: ما نهاية هذا الأمر.

وبنفس الطريقة في كل ممارسة يمكن أن تتحوَّل إلى عادة.

يسأل الإنسان نفسه: وما نهاية هذه الممارسة؟

بل كل لفظة يقولها، وكل غضب يشتغل في داخله، فليسأل نفسه: وما النهاية؟ وماذا ستكون ردود الفعل وتصرفات الطرف الآخر؟ وإلى أين ينتهي به الغضب؟ وإلى أين تنتهي به الكلمة غير المنضبطة.

ذلك أيضًا في مشكلة تحل بك، لا تيأس ولا تضطرب، بل قل لنفسك “نهاية أمر خير من بدايته”.

قُل لنفسك “مصيرها تنتهي”. هذا الموضع لابد ستكون له نهاية. والنهاية في يد الله. والله رؤوف وحنون. وبلا شك “نهاية الأمر ستكون خيرًا من بدايته”..

وهذا اللون من التفكير، لا يكون فقط بالنسبة إلى مشاكلك أنت وحدك، وإنما أيضًا بالنسبة إلى كل مشكلة أو ضيقة تحل بمعارفك وأصدقائك، بل وبالكنيسة نفسها..

لعل فِكر الشهداء والمعترفين أيضًا كانت تدور به هذه الآية:

ما نهاية العذاب والموت؟ أليس هو الوصول إلى العالم الآخر؟ إلى الفردوس، إلى الأكاليل، إلى النعيم الأبدي في نهاية الأمر كله. وهذا بلا شك أفضل جدًا. إذن أين شوكتك يا موت؟ لقد زالت. ونهاية الأمر خير من بدايته..

الأبدية بلا شك هي نهاية أفضل..

العالم الآخر هو عالم أفضل، حيث “ما لم تره عين ولم تسمع به إذن، ولم يخطر على بال إنسان، ما أعده الرب لمحبي اسمه القدوس” (1 كو 2: 9)… والجسد الروحاني السماوي الذي نعيش به بعد القيامة (1 كو 15: 44-49) لا شك إنه أفضل من جسدنا النادي هذا… وفي الأبدية عشرتنا مع الله وملائكته وقديسيه، هي أفضل من جسدنا المادي هذا.. وفي الأبدية عشرتنا مع الله وملائكته وقديسيه، هي أفضل بما لا يقاس من عشرة هذا العالم الحاضر. ووجودنا في عالم كله خير، هو أفضل من وجودنا هنا، حيث يوجد الخير والشر، وحيث يعيش الزوان إلى جوار الحنطة..

إذن الأبدية أفضل. فلماذا نخافها؟ ولماذا لا نستعد لها.

ولعلنا في الضيقات نذكر العتاب الذي قدمه أرمياء النبي لرب المجد قائلًا له “أبر أنت يا رب من أن أخاصمك. ولكن أكلمك من جهة أحكامك: “لماذا تنجح طريق الأشرار؟ اطمئن كل الغادرين غدرًا؟!” (أر 12: 1).

ويجيب القديس أغسطينوس عن هذا السؤال بالنظر إلى النهاية: فيقول إن الأشرار كالخان، يرتفع دائمًا إلى فوق. وفيما يرتفع وتتسع رقعته يتبدد. بينما النار تبقي أسفل، ولكنها ثابتة وقوية.

لذلك فعلَى الإنسان أن يهتم بالنهاية قبل كل شيء، مهما كان بدء الأمر فيه تعب أو ضيق..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


59- نهاية طيبة مع بداية متعبة 🔗

الحياة الروحية، تبدأ بالباب الضيق والطريق الكرب (متى 7: 13، 14) , ولكن هذا الضيق يؤدي إلى النعيم الأبدي بينما “واسع الباب، ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك”.. ولذلك ما أجمل قول المرتل:

الذين يزرعون بالدموع، يحصدون بالابتهاج” (مز 125).


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


60- الطفل موسى 🔗

طفل صغير، ولد في عصر مظلم، وكان محكومًا عليه بالموت قبل أن يولد، وقد أخفاه أبواه خوفًا لمدة ثلاثة أشهر، وإذ لم يستطيعا إخفاءه أكثر، وضعاه في سفط (سبت)، وألقياه عند حافة النهر، في المياه..

مَنْ كان يظن أن هذه الطفل المحكوم عليه بالموت، والملقي في الماء، يصير نبي الله العظيم، وكليم الله..؟!

يصير موسى النبي، الذي نسبت الشريعة إلى اسمه، فيقال شريعة موسى، وناموس موسى.. بل يصير رجل المعجزات والآيات، الذي شق البحر الأحمر بعصاه، وضرب الصخرة فتفجرت ماء، وأنزل من السماء المن والسلوى..!

مَن كان يظن أن هذا المحكوم عليه بالموت من فرعون، يعيش أربعين سنة في قصر فرعون، كأحد الأمراء، ويدعي ابن ابنة فرعون.. ويصبح فيما بعد القوة الجبارة التي يعمل لها ألف حساب..

يصير الإنسان الذي يصرخ أمامه فرعون ويقول أخطأت (خر 9: 27)، ويتضرع إليه أكثر من مرة أن يصلي من أجله، ليرفع الرب عنه الضربات.

مَن كان يظن أن أن الطفل الصغير الملقي مصيره هكذا؟ ولكنها يد الله حينما تتدخل في الأحداث وتدبر مصائر الناس.. إنه اله الذي قال له أيوب الصديق “علمت أنك تستطيع كل شيء، ولا يعسر عليك أمر”.

قصة الطفل موسى تعطينا دسًا في الرجاء، أن الله يستطيع أن يحول الضعف إلى قوة ويغير المصائر حسبما يشاء..

حقًا إن الله يستطيع أن يعمل أعمالًا عجيبة لا تخطر على بال.

إننا ننظر إلى الحاضر فقط. وقد نرى فيه أمورًا صعبة معقدة، تجلب الحزن أو اليأس. أو قد نرى فيه أمورنا صعبه معقدة، تجلب الحزن أو اليأس. أو قد نرى مخاطر ليس من السهل الخروج منها.. بينما يكون المستقبل، الذي يمسكه الرب في يده، هو غير الذي نراه في الحاضر، غيره تمامًا، وربما عكسه تمامًا.

ليتنا بدلًا من أن نظر إلى الحاضر المُتْعِب الذي أمامنا، ننظر بالرجاء إلى المستقبل المُبْهِج الذي في يد الله..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


61- الأرض الخربة 🔗

  • هذا الرجاء وضعه الله أمامنا، منذ الآيات الأولى التي تتحدث عن قصة الخليقة، حيث يقول الوحي الإلهي:

,“كانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمه” (تك 1: 2).

إنها صورة كئيبة للطبيعة من أول القصة. ولكن ليس من الصالح أن نقف عند حدود هذه الصورة فالقصة لم تتم فصولها..

فمع وجود هذه الصورة الكئيبة، كان هناك ما يبعث الرجاء.. كانت هناك عبارة “وروح الله يرف على وجه المياه “وماذا أيضًا؟

,”وقال الرب ليكن نور، فكان نور، ورأى الله النور أنه حسن” (تك 1).

وهكذا فتحت أمام الصورة الكئيبة المظلمة نافذة من نور.

  • وإذا كل شيء قد تغير.. وبدأت يد الله تعمل: تنظم هذه الطبيعة، وتنقشها، وتخلق فيها الحياة، وتضع لها النظم، وتلبسها ثوبًا من الجمال والبهاء، وينظر الله إلى كل ما عمله، فإذا هو حسن جدًا..

مَن كان يظن أن الطبيعة الخربة، الخاوية، المغمورة بالمياه، المغطاة بالظلمة، تتحول إلى هذا الجمال الذي نعيش فيه، الأشجار والأزهار والأثمار، والبحار والأنهار، والطيور والفراشات ذات الألوان، وجمال السماء والقمر والنجوم، والجبال والتلال والبحيرات، جمال يتغنى به الشعراء. ويبدع في رسمه الفنانون.

إن قصة الطبيعة في نشأتها، فيها رمز، وفيها رجاء.

أنها رمزًا لكل حياة خربة وخالية ومظلمة، وتنتظر في رجاء قول الرب “ليكن نور”.. تنتظر يد الله في الأيام الستة.. حتى تتكامل صورتها، وتنتهي إلى عبارة “حسنٌ جدًا”..

فلا تقف يا أخي عند عبارة “خربة وخالية “وتكتئب. إنما تطلع إلى المستقبل في رجاء، وانتظر الرب… وفي كل يوم يمر عليك. كلما يقول الوحي الإلهي “وكان مساء وكان صباح “ن اهتف من كل قلبك “يا جميع الأمم صفقوا بأيديكم.. هللوا لله بصوت الابتهاج” (مز 46: 1)، قد علمت يا رب أنك تستطيع كل شيء، ولا يعسر عليك أمر..

الله قادر أن يغير كل شيء.. إلى أفضل، وإلى العكس.

وليس المهم عنده البدايات، وإنما ما تنتهي إليه الأمور.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


62- العاقر 🔗

من الآيات الجميلة في الرجاء، نشيد العاقر في سفر إشعياء:

“ترنَّمي أيتها العاقر التي لم تلد. أشيد بالترنم. لأن بني المستوحشة (التي ليس لها زوج) أكثر من بني ذات البعل.. أوسعي مكان خيمتك، ولتبسط شقق مساكنك.. لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار. ويرث نسلك أممًا، ويعمر مدنًا خربة. لا تخافي لأنك لا تخزني” (اش 54: 1-4).

هناك إذن رجاء للعاقر، ليس فقط أن تلد، إنما بالأكثر أن يرث نسلها مدنًا.

هذه العاقر ترمز إلى الأمم الذين كانوا غرباء من الله، مستوحشين.

وترمز إلى كل نفس خاطئة بعيدة عن شركة الروح وثمار الروح. هذه لم يعطها الرب مجرد رجاء أن يكون لها نسل وثمر.. إنما قال لها بالأكثر “وسعي خيامك.. ستمتدين يمينًا ويسارًا”.

ليس فقط يكون لك صبر ورجاء، إنما ترنمي.

افرحي بالرجاء. ليس بِعُقْمِك، إنما بالوعد الذي سيتحقق.

حقًا يا رب أنك تستطيع كل شيء، ولا يعسر عليك أمر.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


63- قصص معونة 🔗

  • مَن كان يظن أن داود الطفل سينتصر على جليات الجبار؟

ولكن داود كان عنده الرجاء، الذي به قال لجليات: اليوم يحسبك الرب في يدي..” (1 صم 17: 46).

ولولا هذا الرجاء ما تقدم داود في ثقة لمحاربته. ولم يخف مطلقًا، بينما كان الجيش كله خائفًا.

وبالرجاء دخل مارمرقس الرسول كارزًا في مصر.

لم يكن له فيها شعب ولا كنيسة. وكانت هناك العبادات الفرعونية، واليونانية، والرومانية، والديانة اليهودية، والفلسفة الوثنية، ومدرسة الإسكندرية. وسيف الدولة الرومانية الحاكمة، ودسائس اليهود..

مَن كان يظن أن مرقس الشاب، ينتصر على كل المعوقات، وينشر الإيمان في كل مصر؟ حقًا عن الله يستطيع كل شيء، ولا يعسر عليه أمر. ويعجبني هنا قول الكتاب:

مَنْ أنت أيها الجبل العظيم؟ أمام زربابل تصير سهلًا (زك 3: 7).

حقًا إننا بالرجاء نرى كل شيء سهلًا.

بالرجاء، نرى طريقًا مفتوحًا لنا داخل البحر. ونسمع قول موسى النبي: الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون (خر 14: 14).

بالرجاء نثق أن عصا أليشع، إن وضعت على الغلام سيقوم.

بالرجاء نثق أننا سندخل الأرض، حتى أن تهنا في البرية أربعين عامًا.

بالرجاء صلي يونان وهو في بطن الحوت. كان له رجاء أنه سيخرج ويعود يري هيكل الله مرة أخرى (يون 2: 4).

بالرجاء بطرس لم ييأس بعد إنكاره.

كان له رجاء أن الرب سيغفر ويقبله كما كان رسولًا..

حقًا مَن كان يظن أن هذا الذي خاف، أنكر الرب أمام جارية، سيمكنه أن يقف أمام رؤساء الكهنة، ويقول لهم في شجاعة “ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس” (أع 5: 29). ويحتمل من أجل الرب، ويكرز ويموت شهيدًا.

إن قصص كرازة الرسل - يعطينا دروسًا في الرجاء.

اختار الله جُهَّال العالم ليخزي بهم الحكماء (1 كو 1: 27).

وهذه الفئة القليلة، استطاعت ان تقف أمام جبروت الدولة الرومانية ودسائس اليهود. والذين لا قول لهم ولا كلام، إلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم (مز 19: 3، 4). وفي حوالي 34 عامًا، استطاعوا أن ينشروا المسيحية في كل الشرق الأوسط، ومصر، وتركيا، واليونان، ورومه، وبقاع كثيرة في أوروبا وأسيا وأفريقيا..

ألا يعطينا هذا الرجاء في عمل الله فينا لآجل ملكوته

مَن كان يظن أن نحميا الأسير، يأخذ معونة يعيد بها بناء سور أورشليم؟

ولكن الله لا يعسر عليه أي أمر.

حتى إن ألقي دانيال في جب الأسود، يمكن أن يرسل الله ملاكه فيسد أفواه الأسود (دا 6: 22).. حتى إن ألقي الفتية في أتون النار، لا يصيبهم ضرر ويتمشّى الرب معهم وسط النار (دا 3: 25).. حتى إن ألقي يوسف في السجن، يخرج منه للحكم.

مَن كان يظن أن شاول الطرسوسي مضطهد الكنيسة، يتحول إلى أكبر كارز بالمسيحية، ويتعب أكثر من جميع الرسل (1 كو 15: 10).

ومَن كان يظن أن أريانوس والي أنصنا، أقسى ولاة ديوقلديانوس وأعنفهم في تعذيب الشهداء، يؤمن أخيرًا ويصير شهيدًا.. وكذلك لونجينوس الجندي الذي طعن المسيح بالحربة..

علمت يا رب أنك تستطيع كل شيء، ولا يعسر عليك أمر..

حقًا إنه من أعظم معجزات الرب، قدرته على تغيير النفوس.

إن قصص التوبة تعطينا رجاء عجيبًا. وهي كثيرة جدًا.

مَن كان يظن أن مريم المجدلية التي أخرج الرب منها سبعة شياطين (لو 8: 4)، تصير مبشرة للرسل بالقيامة؟

مَن كان يظن أن مريم القبطية الزانية تصير من السواح؟ ونفس الأسلوب نتحدث به عن أوغسطينوس وموسى الأسود وغيرهما.


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


64- كل شيء مستطاع 🔗

كونوا أن الله يستطيع كل شيء (مت 19: 26) هذا أمر طبيعي..

ولكن هوذا بولس الرسول يقول “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني” (في 4: 13). ولكن اكبر آية تدعو إلى الرجاء هي:

“كل شيء مُستطاع للمؤمن” (مر 9: 23).

بهذا الرجاء ننال قوة ننتصر بها في حياتنا.

أما الشيطان فطريقته أن يدفع الناس إلى اليأس، وإلى الخوف، والتردد، والشعور بالضعف والعجز، لكي يشل حركتهم.. ويشدهم بثقل الصليب، ويخفهم من الباب الضيق والطريق الكرب، حتى ما يستطيعون التقدم خطوة واحدة. أما أنت فقل مع بولس الرسول:

أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني.

الذي حول الطرسوسي يستطيع أن يحولني. والذي منح التوبة لاوغسطينوس يمكنه أن يتوبني. والذي أعان داود على جليات يمكنه أن يعينني. والذي قبل المزدري وغير الموجود يقبلني.

الرجاء يعطي قوة على العمل، وعدم التفكير في الفشل.

إننا لا نعترف بالفشل إطلاقًا، مادامت يد الله معنا.

كل شيء يدعو لليأس، نضع أمامه قوة الله غير المحدود، وتدخل الله بكل محبته لتغيير الأمور إلى أفضل..

ما أكثر قول الله: لا تخف. لا تخافوا..

إنه لم يسمح لموسى أن يخاف. من ملاقاة فرعون (خر 4). ولم يسمح لأرميا أن يخاف لصغر سنه. وقال ليشوع بن نون بعد موت موسى النبي “لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك.. لا أهملك ولا أتركك. تشدد وتشجع.. لا ترهب ولا ترتعب لأن الرب إلهك معك” (يش 1: 5، 9).. إن إيمانك بعمل الله معك يعطيك رجاء ثم انظر إلى هذا الوعد العجيب جدًا، في قول الرب:

“من يؤمن بي، فالأعمال التي أنا اعملها، يعملها هو أيضًا، ويعمل أعظم منها” (يو 14: 12).

مَن نحن يا رب أمام هذا الوعد؟ إنه الوعد؟ إنه أكبر منا. ولكن عجيبة هي محبتك ووعودك. ولكننا نؤمن بمحبتك وبكرمك في العطاء، وتدخلك للمعونة ونؤمن أيضا بأن الحرب للرب (1 صم 17: 47)، والله ليس لديه مانع أن يخلص بالكثير أو القليل (1 صم 14: 6).

الله قادر أن يغلب بجيش يشوع.

وقادر أن يغلب بحصاة داود.

مهما كنت ضعيفًا أو صغيرًا، الله قادر أن يعمل بك وفيك، كما عمل في ارميا الطفل، وداود الصبي. واستخدم صموئيل الطفل ليبكت به عالي الكاهن العظيم (1 صم 3: 10-18).

ما دامت الحرب للرب، اعتمد عليه إذن، وليكن رجاؤك فيه، مهما وقفت ضدك خطية أو شهوة، تجربة أو مشكلة. ومهما وقف ضدك الناس الأشرار.

وتذكر قصص رجال الله، الذين تقوا من ضعف (عب 11: 33، 34) وصاروا أشداء في الحرب، وقهروا ممالك..

هؤلاء هم جبابرة، الذين لا يخافون.

لا تضعف. لا تهزك التجارب ولا الضيقات، ولا الخطايا ولا الشهوات، ولا الأعداء. كن كالبيت المبني على الصخر، الذي لم تقو عليه الأمطار ولا الرياح (مت 27: 25). كن كالجنادل التي في مجرى النيل، ثابتة لا تقوَى عليها المياه.

ضع أمامك بعض الآيات التي تعزيك وتقويك.

“إن سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا لأنك أنت معي” (مز 23: 4) “إن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي. وإن قام عليَّ قتال، ففي هذا أنا مطمئن (مز 27: 3) “مرارًا كثيرة حاربوني منذ صباي، وأنهم لم يقدروا علي.. الرب صديق هو يقطع أعناق الخطاة” (مز 129: 2، 4). “الفخ انكسر ونحن نجونا. عوننا من عند الرب..” (مز 124: 7، 8) “دفعت لأسقط والرب عضدني. قوتي من عند الرب” (مز 117).

تذكر سير القديسين الذين لم يخافوا مطلقاُ، ولم يفشلوا..


يُمكنك قراءة كتاب حياة الرجاء على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


65- أبصرت بابًا مفتوحًا في السماء 🔗

قال هذه العبارة وهو منفاه في جزيرة بطمس، وفي الرؤيا الذي يقول في أوله “أنا يوحنا أخوكم وشريككم في الضيقة، وفي ملكوت يسوع المسيح وصبره..” (رؤ 1: 9).

وعلى الرغم من أنه كان بعيدًا عن كل التعزيات والمعونات البشرية، إلا أن التعزيات الإلهية لم تبتعد عنه. فرأي السيد في تلك الجزيرة، وتسلم منه رسائل. ثم يقول بعد تلك الرؤيا:

“بعد هذا أبصرت، وإذا باب مفتوح في السماء.. وإذا عرش موضوع في السماء..” (رؤ 4: 1، 2). إنها تعزية عجيبة لهذا الرسول العظيم، وهو في ضيقته وفي منفاه، تذكرنا بقول الرب لملاك كنيسة فيلادلفيا:

هأنذا قد جعلت أمامك بابًا مفتوحًا، ولا يستطيع أحد أن يغلقه” (رؤ 3: 8).

إنها كلمة من الله يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا احد يفتح” (رؤ 3: 7).

كلمة عزاء، كلما نتذكرها نمتلئ بالرجاء، ونجد فرحًا بهذا الباب المفتوح في السماء.

حقًا حينما جميع الأبواب، يبقي باب الله مفتوحًا، ولا يستطيع أحد أن يغلقه..

وهكذا يطمئن الإنسان مهما كانت جميع الأبواب مغلقة في وجهه. فالله الحنون المحب بمكنه أن يفتح ولا أحد يغلق… من أجل هذا يعيش أولاد الله في فرح كامل، لا تهتز ثقتهم بأية ظروف خارجية ضاغطة..

ويقدم لنا الكتاب مثال داود النبي، وهو مطارد من شاول الملك:

شاول بكل سلطانه، وكل قسوته، وكل حيله، وكل كراهيته لداود، كان يطارده من برية إلى أخرى، ومن مغارة إلى أخرى، يريد قتله، ويحيك حوله المؤامرات ومع ذلك حفظ الرب داود، وبقي حيًا. ومات شاول الملك دون أن يؤذيه.

وكذلك لم يقدر على إيذائه أبشالوم بكل خيانته..

ذلك لن الله كان قد جعل أمام داود بابًا مفتوحًا، دخل منه إلى المجد، متذكرًا خبراته الكثيرة في في قيام العداء ضده، حتى أنه قال ذات مرة “يا رب لماذا كثر الذين يحزنونني… كثيرون قاموا علي. كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه (مز 3). بل أنه قال: “أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب” (مز 69: 4).

ونحن نسأل “وماذا فعلت أمام كل أولئك يا داود؟ وهل حطموا حياتك؟! “يجيب “الرب هو ناصري. مجدي ورافع رأسي. بصوتي إلى الرب صرخت، فاستجاب لي من جبل قدسه” (مز 3) “نظرت، وإذا باب مفتوح في السماء”.

هؤلاء الكثيرون الذين قاموا على داود، لم يستطيعوا أن يغلقوا هذا الباب المفتوح أمامه من الرب. ألست تستطيع أن تخرج من هذه القصة بقاعدة روحية وهي:

إن حياتك هي في يد الله. ولست في أيدي الناس..

لقد قال عيسو “أقوم وأقتل يعقوب أخي” (تك 27: 41). ولكنه لم يستطع لأن يعقوب أبصر، وإذا باب مفتوح في السماء. وقد رأى سلمًا بين الأرض والسماء، وملائكة الله صاعدة ونازلة عليها (تك 28: 12). من أجل هذا حدث أنه في رجوعه “ركض عيسو للقائه، ووقع على عنقه، وبكيا” (تك 33: 4).

حقًا إن الله يستطيع أن يُغَيِّر المواقف، ويُغَيِّر القلوب.

وكما قال الكتاب “إِذَا أَرْضَتِ الرَّبَّ طُرُقُ إِنْسَانٍ، جَعَلَ أَعْدَاءَهُ أَيْضًا يُسَالِمُونَهُ.” (سفر الأمثال 16: 7). وحتى إن لم سالموه، فلن يقدروا عليه، كما قال الرب لأرمياء النبي “يحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك، لأنقذك” (أر 1: 19).

ما أكثر الذين قاموا على رسل المسيح وتلاميذه!

قام ضدهم الكتبة والفريسيون والصدوقيون، وكهنة اليهود ورؤساء كهنتهم وشيوخ الشعب وولاة الرومان وحكمهم.. وألقوهم في السجون، وجلدوهم. ولكن الله كان قد جعل أمامهم بابًا مفتوحًا، فانتشرت الكرازة في كل مكان. و"الذين ليس لهم صوت ولا كلام، إلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم” (مز 19: 3، 4)، حتى “الذين تشتتوا، جالوا مبشرين بالكلمة” (أع 8: 4).

كانت كل الأبواب مغلقة أمامهم. ولكن الله كان مفتوحًا. وهذا يكفي لذلك نصيحتي أقولها لكل إنسان تواجهه متاعب وضيقات وتعقيدات.

لا تنظر إلى الأبواب المغلقة، إنما انظر إلى المفتاح الذي في يد الله.

إنه يستطيع أن “يفتح ولا أحد يغلق”.. هو القادر على كل شيء، وهو الذي يحبك ويحب لك الخير. كل الذين يقومون ضدك، قوتهم محدودة كبشر. حتى الشيطان أيضًا، قوته محدودة كمخلوق. أما الله فغير محدود، وقوته غير محدودة.

لذلك فإن الله غير المحدود، قال لبولس الرسول “تكفيك نعمتي” (2 كو 12: 9).

إنها نعمة الله القادرة أن تفتح لك في البحر طريقًا (خر 14) وتفجر لك من الصخرة ماء (خر 17: 6)، وتهدم أمامك جبالًا. كما قال الرب عن معونته لعبده زر بابل “من أنت أيها الجبل العظيم. أمام زربابل تصير سهلًا” (زك 4: 7).

يعوزنا الوقت إن تحدثنا عن قصص القديسين مع باب الله المفتوح:

هل أتحدث عن القديس أثناسيوس الرسولي، الذي قيل له “العالم كله ضدك يا أثناسيوس” ومع ذلك وقف ضد العالم الهرطوقي وانتصر، لأن الرب جعل إمامه بابًا مفتوحًا.

أم أتحدث عن نحميا، الذي فتح الله له بابًا عجيبًا، فإذا بملك أممي يزوِّدهُ بكل الإمكانيات ليعيد بناء أورشليم، ويتحوَّل من إنسان في السبي، إلى حاكِم في مدينة الله.

أم أتحدث عن لعازر الدمشقي، وكيف أرشده الرب إلى رفقه ليختارها زوجة لأسحق ابن سيده، بإرشاد إلهي عجيب!! حتى قال لا تعوقوني والرب قد انجح طريقي” (تك 24: 56).

كذلك ما أكثر الأبواب المفتوحة للتوبة..

مَن كان يظن أن سينفتح باب للتوبة أمام مريم القبطية التي أعثرت المئات وأسقطتهم. ولكن الله فتح أمامها بابًا بمعجزة، لمست فيها يد الرب وتابت..

ومَنْ كان يظن أنه سينفتح بابًا أمام أوغسطينوس وبيلاجية وموسى الأسود، بعد أن وصلت حال كل منهم إلى وضع سيء للغاية في البعد عن الله..

وهكذا أيضًا شاول الطرسوسي مضطهد الكنيسة.

مَن كان يظن أنه سيتحول إلى رسول وإناء مختار للرب، هذا الذي كان ينفث تهديدًا، ويجر رجالًا ونساء إلى السجن (أع 9: 1، 2). وإذا باب في السماء ينفتح أمامه وهو في الطريق إلى دمشق، برؤيا عجيبة، كلمة فيها الرب، فآمن وتحول إلى العكس، وتعب أكثر من جميع الرسل، ونال أكليل الشهادة..

كذلك الأمم فتح لهم الله بابًا للتوبة والقبول..

وكانوا معتبرين غرباء، أجانب عن رعوية الله، فصاروا هم الزيتونة الجديدة التي طعمت في الزيتونة العتيقة. وأصبحت الغالبية العظمي من المؤمنين نابعة من هؤلاء الأمم وانفتح الباب بمعجزة أمام كرنيليوس (أع 10: ثم أمام الكل (أع 15).

ماذا أقول أمثلة عجيبة امتدحها الكتاب:

أرملة صيدا التي أطعمت إيليا، والمرأة الكنعانية التي شفي السيد المسيح ابنتها راحاب الزانية، وراعوث، وملكة سبأ التي جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان.. كل أولئك اللائي تسجلت أسماؤهن في التاريخ، وطوبهن الكتاب، لمجرد أن الله جعل أمام كل واحدة بابًا مفتوحًا.

بل ماذا أقول عن يونان النبي الذي ابتلعه حوت؟!

مَن كان يظن أن مثل هذا يمكنه أن يخرج من جوف الحوت، ويحيا، ويبشر نينوى وتؤمن على يديه؟! ولكن الحل الوحيد أن الله قد جعل أمامه بابًا مفتوحًا، ففتح الحوت فاه، وألقاه إلى البر، ليؤدي رسالته!! حقًا كما يقول الكتاب:

“غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله” (لو 18: 27).

إن الله قادر على كل شيء. وإن اعتمدت عليه تحيا في رجاء ثابت لا يتزعزع. هو قادر أن يفتح الأبواب المغلقة، ويحل كل المشاكل المعقدة. بيده كل المفاتيح،” يفتح ولا أحد يغلق “وهناك مثل عجيب لباب مغلق فتحه الله:

لقد فتح الرب باب الفردوس بعد آلاف السنين..

وهكذا أدخل فيه آدم وحواء، بعد أن طردا قديمًا من الجنة، وأدخل فيه كل الراقدين على الرجاء، وجعل هذا الباب مفتوحًا أيضًا أمام اللص اليمين، وأمام جميع التائبين، لكي يصيروا جميعًا فرحين في الرجاء (رو 12: 12).

لكل هذا، أطلب من الرب أن يفتح أمامك الأبواب:

قبل أن تخرج من بيتك كل يوم، أطلب من الرب أن يفتح أمامك كل القلوب، وكل الآذان، وأن يفتح أمامك أبواب الرزق وأبواب الخير. وما أجمل تلك الصلاة التي يصليها الآب الكاهن أمام الهيكل ويقول:

“اجعل باب بيتك مفتوحًا أمانا في كل زمان..”

ويقول أيضًا “لا تغلق باب بيتك في وجوهنا”.

بل في كل يوم يصلي كل منا ويقول “افتح يا رب شفتي، فيخبر فمي بتسبيحك” (مز 50). ذلك لأننا لا نضمن إن فتحنا أفواهنا من ذواتنا، أي كلام سنقوله؟ وهل سيكون مرضيًا أمام الله أم لا يكون؟ وماذا ستكون نتائجه؟..

ولعل من الصلوات العجيبة التي صلاها أليشع النبي لأجل تلميذه جيحزي هي قوله:

“افتح يا رب عيني الغلام فيرَى”.. (2 مل 6: 17).

فيرَى أن الذين معنا أكثر من الذين علينا، فيطمئن، ويؤمن. نعم نحن لن عيون ولكنها لا تبصر، وآذان ولكنها لا تسمع.. وتحتاج أن يفتح الرب عيوننا وآذاننا وقلوبنا أيضًا.. ألسنا نقول في صلواتنا “اكشف عن عيني فأري عجائب من ناموسك” (مز 119).

وبعد، أترانا قلنا كل ما يفتحه الله أمامنا؟ كلا، بلا شك.. فالموضوع أطول من أن يسعه مقال، عن الله الذي قال:

افتح لكم كُوَى السماء، وأفيض عليكم بركة، حتى لا توسع”.

باب الله مفتوح أمامنا على الدوام، مهما أُغْلِقَت باقي الأبواب.

يقول لنا كما قال لملاك كنيسة فيلادلفيا “هأنذا قد جعلت أمامك بابًا مفتوحًا، ولا يستطيع أحد أن يغلقه” (رؤ 3:8). هذا هو قلب الله الحنون، الذي أزال الحجاب الحاجز وفتح الطريق إلى قدس الأقداس، وفتح باب الفردوس أمام آدم وبنيه.

إنها عبارة مُعَزِّيَة، نتذكرها في بدء العام الجديد.

مهما ضاقت الدنيا أمامك، ومهما تعقدت السبل، وأغلق الناس قلوبهم وأحشاءهم، ودعوت وليس من مجيب، وبحثت وليس من صديق، حينئذ تتعزى بقول القديس يوحنا الحبيب: “نظرت وإذا باب مفتوح في السماء”.

يقولها لكل من في ضيقة، ولكل خاطئ أتعبته الخطية.

لكل خاطئ سيطرت الخطية عليه.. حاول أن يتخلص منها مرارًا ولم يستطيع وكاد ييأس.. طرق باب التداريب الروحية، وكل جهاد شخصي. وطرق أبواب الصوم وضبط النفس.. ولم يجد طريق التوبة مفتوحًا أمامه.. حينئذ يرفع هذا “الخاطئ نظره إلى فوق، ويقول “رأيت بابًا مفتوحًا في السماء”، “عوني من عند الرب الذي صنع السماء والأرض” (مز 121: 2).

المهم في مشاكلنا أن نرفع نظرنا إلى فوق، وإلى السماء لكي نرى الباب المفتوح، فنتعزَّى..

مشكلنا أننا في كل ضيقتنا، نتجه إلى المعونة الأرضية! نتجه إلى ذكائنا وَحِيَلَنا وإلى الذراع البشري في مساعدة الناس لنا. نتجه إلى الظروف والإمكانيات وبسبب هذا نقع في الحيرة والقلق والاضطراب. ولكن كل هذا يزول، ونطمئن، أن رفعنا نظرنا إلى فوق، لنري الباب المفتوح في السماء، كما فعل القديس يوحنا الحبيب، شريكنا في الضيقة..

لاحظوا أنه رأى هذا البابا المفتوح، دون أن يطلب.

لم ينفتح هذا الباب بصلواته، إنما هو باب مفتوح بطبيعته مفتوح بالحب الإلهي..

لم يقل يوحنا “افتح لي بابًا في السماء، لآري عرشك وجندك. إنما أراه الله كل هذا من حنانه، لكي يعرف أن عطايا الله إنما تنبع من محبته ومن أنعامه.. حقًا إنه يقول بالنسبة إلى التعابى “اقرعوا يفتح لكم”. لكنه يقول للذين يحيون في الإيمان “وكل هذه تزدادونها” (متى 6: 33). تأتيكم بدون طلب، من الآب السماوي الذي يحب أولاده ويعرف احتياجاتهم..

هذا الباب يفتحه الله، ولا يستطيع أحد أن يغلقه.

حسب وعده الأمين.. ذلك لأنه “يفتح ولا أحد يغلق” (رؤ 3: 7). فإن فتح أمامك بابًا، تجد كل أمورك بابًا، تجد كل أمورك ميسرة، “لا يقف أحد في وجهك” (يش 1: 5). ط ولا يقع بك أحد ليؤذيك” (أع 18: 10). وأبواب الجحيم لن تقوى عليك (متى 16: 18).

إذن لا تضيع وقتك منقبًا في الأرض، تحفر لك أبارًا مشققة لا تضبط ماء (ار 2: 13). إنما يكفي أن تضمن المعونة الإلهية، تضمن الباب السماوي المفتوح، وحينئذ يصير لك كل شيء..

هذا الباب المفتوح رآه يوحنا وهو في ضيقة منفيًا في جزيرة بطمس، ومضطهدًا لأجل الكلمة.

في وقت لم يكن يجد فيه على الأرض حنانًا ولا عدلًا، ولم يجد من البشر معونة ولا سندًا.. حينما بدا أن كل إنسان قد تخلي عنه، أو عجز عن معونته، فترك إلى أعدائه يحكمون عليه.. في هذا الوقت الذي أغلقت فيه أبواب الأرض، نظر وإذا باب مفتوح في السماء، وسمع، صوتًا يقول له “اصعد إلى ههنا فأريك..” وأراه عرش الله في الرؤيا، وقوات السماء..

عجيب هو الله حقًا في عمق عطاياه، الله المقيم المسكين من التراب (مز 113: 7).

ولعل القديس يوحنا كان يقول للرب: من أنا يا رب الذي تصنع معي كل هذا أنا البائس الملقي في هذه الجزيرة النائية، أنا غير المستحق أن أرى عرش الإمبراطور تراجان، كيف استحق أن أرص عرش ملك الملوك ورب الأرباب؟! نعم تعال يا يوحنا واصعد لترى هذا العرش، لكي تعرف أن كل أباطرة الأرض هم حفنة من تراب..! ويقف أمانا سؤال:

كيف صعد يوحنا إلى السماء، ليري هذه الرؤيا؟

هنا تقف اللغة عاجزة.. نعم كيف صعد؟ أنا لست بمستطيع أن أجيب.. أفضل إجابة هي أن أقول: لا أعرف.. لست أجد ألفاظًا في اللغة العربية، ولا في أية لغة أخرى تستطيع أن تعبر عن هذا المعنى.. لذلك أكتفي بأن أتركه إلى تأملاتكم الخاصة.

“اصعد إلى هنا”. هذا أمر. كيف نَفَّذَهُ يوحنا؟ أو كيف نُفِّذَ في يوحنا؟ كيف صعد إلى السماء؟ وكيف دخل من هذا الباب المفتوح؟ وكيف رأي؟ بالعين أم بالروح أو بعين روحية؟ وكيف؟ المهم أن الله حول ضيقته إلى فرح، وجهله إلى معرفة، ونفيه إلى ترقية، وأنعام عربونًا لحياة أخرى ستكون بع القيامة، ومنحنا نحن رجاء في تلك الحياة..

كل هذا حدث ليوحنا، وهو في المنفَى..

لم يحدث هذه الرؤيا وهو في أورشليم، مدينة الملك العظيم، ولا وهو في الهيكل ولا حتى في قدس الأقداس، ولا إلى جوار تابوت العهد ليس في كل تلك الأماكن العظيمة والمقدسة، حيث ينتظر الإنسان أن يري رؤى.. إنما في الضيقة، وفي النفي..

حقًا إن ملكوت الله لا يأتي بمراقبة (لو 17: 20).

أننا لا نعرف متى ولا أين يفتقدنا الله بنعمته، بعمل روحه القدوس. لا نعرف متى تفتح السماء أبوابها؟ ومتى يأتينا الصوت كبوق، أو كريح عاصف، أو كصوت مياه كثيرة..؟ إنه يأتي بانتظارنا أو توقعنا، أو مراقبتنا.. لسنا نعرف متى يأتي الرب لمعونتنا ومتى يعلن لنا.

المهم أن نكون مستعدين لعمل الروح فينا..

نفتح نحن قلوبنا، فيفتح لنا الرب بابًا في السماء.

نصعد بأرواحنا إلى السماء، بينما أجسادنا لا تزال على الأرض، حينئذ يصعدنا الرب إلى السماء، حتى لو بقينا ظاهريًا على الأرض..” في الجسد أم خارج الجسد؟ لست أعلم. الله وحده يعلم” (2 كو 12: 3). هنا ونقول أن رؤيا يوحنا تحمل لنا أعظم رجاء مفرح وهو:

أن أبواب السماء صارت مفتوحة. وقد رآها القديس اسطفانوس الشماس من قبل:

وذلك حينما حنق عليه اليهود ليقتلوه. يقول الكتاب: “أما هو فشخص إلى السماء، وهو ممتلئ من الروح القدس. فرأي مجد الله والرب يسوع عن يمين الله فقال: ها أنا أنظر السموات مفتوحة، وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله” (أع 7: 55، 56).

هذه السماء المفتوحة أمامنا هي أملنا الكبير الذي نسعى إليه لكي نرى فيها مجد الله ونبصر الرب يسوع.

رآها اسطفانوس أول الشمامة، ورآها يوحنا الحبيب، مفتوحة. وأبصرا شيئًا من المجد العتيد، كعربون للملكوت الأبدي.. والعجيب أن كلا منهما قد رآها وهو في ألم واضطهاد، مرذولًا من الناس، أحدهما في وقت رجمه، والآخر أثناء نفيه.. وذلك لكي نفهم أن طريق هذه السماء هو الصليب، وأنه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله” (أع 14: 22).

وقبل اسطفانوس ويوحنا، أبصر السماء حزقيال النبي:

رأى عرش الله محمولًا على الكاروبيم (حز 1). ورأي هذا المنظر حينما كان ضمن المسبيين، عند نهر خابور. وقال في ذلك “كان.. وأنا بين المسبيين عند نهر خابور أن السموات انفتحت. فرأيت رؤى الله..” وشرح ما رآه.. ثم قال “هذا منظر شبه مجد الرب. ولما رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلم (خر 1: 28). عجيب أن يري هذه الرؤيا وهو في السبي… كيوحنا في النفي.

بنفس الوضع رأى دانيال النبي شبه المنظر وهو في السبي:

رأى ابن الإنسان وهو على سحاب السماء، أمام الآب، وقد أعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا، لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته مالا ينقرض (دا 7: 13، 14). ورأي رؤى أخرى، وأرسل له الله الملاك جبرائيل ليفسرها له (دا 8: 16).

كل هذه الرؤَى، رآها أنبياء وقديسون في ضيقاتهم.

سماء الله وعرشه رآهما يوحنا في النفي، اسطفانوس قبل قبل رجمه. وحزقيال ودانيال وهما في سبي. ولا شك أن هذه المناظر التي يسمح الله لقديسيه أن يروها أثناء ضيقاتهم لأجل اسمه، إنما هي لون من العزاء الإلهي أثناء الآلام..

وأنتم أيها الأخوة، هل رأيتم هذه السموات المفتوحة؟ أما أن لكم عيونًا ولكنها لا تبصر؟

وإن كان كذلك، فمتى تنقشع تلك الغشاوة عن أعيننا، حتى نرى ما يمكن أن يراه الروحانيون.. كأشخاص في الجسد، نحن لا نري، ولكن متى صِرنا في الروح، مثلما كان يوحنا “في الروح في يوم الرب” (رؤ 1: 10)، حينئذ سنرَى.

طالما عيوننا مشغولة بالجسد وبالمادة وبالعالم، ومغلقة بالهيولانيات، فلا يمكن أن تري الروحيات.

السماء المفتوحة رآها القديسون في ضيقاتهم، أما المترفون الذين يعيشون في المتعة والفرح واللذة، فإنهم لا يشعرون بالحاجة إلى باب مفتوح في السماء! وإن طلبوا من الله، فسيقولون: افتح لنا أبوابًا على الأرض. فالسماء لم يأت موعدها بع.. افتح لنا أبواب الكنوز والرزق والترقيات. هؤلاء المترفون، أخشي أنهم في السماء أيضًا سيسمعون تلك العبارة المخيفة “الحق أقول لكم إنكم قد استوفيتم أجركم” (متى 6: 5).

ومثل المترفين، كذلك لا يطلب المنشغلون بابًا في السماء.

إن كل تفكيرهم مركز في العالم وفي الأرضيات. ليس لديهم وقت ولا رغبة لكي يرفعوا نظرهم إلى فوق. مثالهم ذلك الغني الغبي، الذي قال “أهدم مخازني وأبني أعظم منها، وجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي، وأقول للنفسي: يا نفسي خيرات كثيرة موضوعة لسنين عديدة. فاستريحي وكلي واشربي وافرحي” (لو 12: 18، 19).

إذن علينا أن نرتفع فوق الأرضيات، لنري الباب السماوي المفتوح..

مثال ذلك: فلك نوح الذي تغرب عن العالم، وارتفع فوق المياه التي غطت ككل شيء. وفتح أبونا نوح فيه طاقة، تشبه الباب المفتوح في السماء. وخرجت من الطاقة حمامة جاءت بغصن زيتون، رمزًا للسلام الإلهي في الأرض الجديدة التي باركها الرب..

إن لم تستطيع أن ترتفع فوق الأرضيات بصفة دائمة، فليكن ذلك على الأقل في فترات، كيوم الرب.

لقد منحك الرب هذا اليوم، ليكون لك معه، تنحل فيه من الأرضيات، لكي ترتبط بالواحد الذي هو الله: تفكر فليه، تكلمه، تستمع إلى صوته في قلبك، وقد تطهر ذهنك -ولو مؤقتًا- من كل ما هو مادي.. حينئذ ستبصر الباب.

ملاحظات عن كتاب حياة الرجاء:

← تم مراجعة نص الكتاب لغوياً لتصحيح الأخطاء الإملائية عند إعادة كتابته على الكمبيوتر من قِبَل أبانوب حنا .

مشاركة: