رحلة الخبر إلى أذنيك - كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية للبابا شنودة الثالث

· · 896 كلمة · 5 دقيقة قراءة

ليس كل ما يصل إلى أذنيك هو صدق خالص. فلا تتحمس بسرعة لكل ما تسمع، ولا لكل ما تقرأ.. ولا تتخذ إجراء سريعًا لمجرد كلام سمعته عن إنسان ما.. بل تحقق أولًا، واعرف أن كثيرًا من الكلام يقطع رحلة طويلة قبل أن يصل إلى أذنيك..

صدق الحكيم الذي قال: (لا تصدق كل ما يُقال)..

اجعل عقلك رقيبًا على أذنيك، وافحص كل ما تسمعه، ولا تصدق كل خبر، لئلا تعطى مجالًا للوشاة وللكاذبين، ولمن يخترعون القصص، ولمن يصنعون الأخبار، ولمن يدسون، ويشهدون شهادة زور.. كل هؤلاء يبحثون عن إنسان سهل يصدقهم.. وكما قال عنهم أمير الشعراء أحمد شوقي:

قد صادفوا أذنا صغواء لينة فاسمعوها الذي لم يسمعوا أحدا

و ما أجمل قوله أيضًا عن مثل هذا الذي يصدق كل ما يسمعه، ويقبل الأكاذيب كأنها صدق:

أثر البهتان فيه و انطوى الزور عليه

ياله من ببغاء عقله في أذنيه

نعم، لو كنا نعيش في عالم مثالي، أو في وسط الملائكة لأمكنك حينئذ أن تصدق كل ما تسمعه، ولا تتعب ذاتك في فحص الأحاديث. ولكن مادام الكذب موجودًا في العالم، وما دمنا نعيش في مجتمع توجد فيه ألوان من الناس يختلفون في نوع أخلاقياتهم وفي مدى تمسكهم بالفضيلة، فإن الحكمة تقضى إذن أن ندقق ونحقق قبل أن نصدق.. واضعين أمامنا قول الكتاب: “افحصوا كل شيء، وتمسكوا بالحسن”.

ولكن قد يقول إنسان: “أنني أصدق هذا الخبر على الرغم من غرابته، لأنني سمعته من إنسان صادق لا يمكن أن يكذب”.

نعم، قد يكون هذا الإنسان صادقًا، ولكنه سمع الخبر من مصدر غير صادق، أو من مصدر غير دقيق.. قد يكون الشخص الذي حدثك أو الذي حدث من حدثك، جاهلًا بحقيقة الأمر، أو على غير معرفة وثيقة أكيدة بما يقول. أو قد يكون مبالغًا أو مازحًا أو مداعبًا. أو ربما يكون قد سمع خطأ، أو أن المصادر التي استقى منها معلوماته غير سليمة.

أو ربما يكون المصدر الأصلي الذي أخذ عنه هذا وذاك، غير خالص النية فيما يقول، وله أسباب شخصية تدفعه إلى طمس الحقائق، أو إلى الدس والإيقاع بين الناس. أو قد يكون من النوع الذي يتباهى بمعرفة الأخبار والسبق إلى نشرها بين الناس، فيقول ما يصل إليه بسرعة دون تحقيق.. وقد يكون محبًا للاستطلاع يلقى بالخبر ليعرف ما مدى وقعه على الناس..

ولكن ربما يقول القائل أنني لم أسمع هذا الخبر من واحد فقط، وإنما من كثيرين مما يجزم بصحته..!! فتقول إنه لا يصح أن نحكم عن طريق السماع دون تحقيق، حتى لو سمعنا من كثيرين. فما أكثر ما يكون كلام الكثيرين على وفرة عددهم، له مصدر واحد مخطئ (اقرأ مقالًا آخر عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات).. وما أكثر ما تتفق جماعة كبيرة من الناس على كذب مشترك، مثلما فعل أخوة يوسف حينما بلغوا أباهم خبرًا كاذبًا عن ابنه قائلين إن وحشًا قد افترسه.. وما أكثر شهود الزور الذين سمعنا عنهم من الكتاب المقدس ومن كتب التاريخ..

إن وصية " لا تشهد بالزور " موجهة إلى السامع، كما هي موجهة إلى المتكلم. فالذي يسمع الكذب ويقبله، إنما يشجع الكاذب على الاستمرار في كذبه، ويحيط نفسه بأناس أشرار غير مخلصين.

وكذلك فإن ناقل الكذب يعتبر كاذبًا، وشريكًا في الكذب وفي نشره.. ويدخل تحت هذا العنوان أيضا مروجو الإشاعات الكاذبة. وقد يقع في هذا الأمر أيضا “البسطاء” الذين يصدقون كل ما يسمعونه، ويتكلمون عنه كأنه حقيقة، دون فحص أو تأكيد. وفي الحقيقة لا نستطيع أن نسمى مثل هذه بساطة. لأن البساطة في جوهرها هي عدم التعقيد، ونحن نؤمن بالبساطة الحكيمة.. فقد قال السيد المسيح: “كونوا بسطاء.. وحكماء..”.

اثنان يشتركان في خطية الكذب: ناقل الكذب، وقابل الكذب، وكلاهما يشتركان مع الكاذب الأصلي في نشر كذبه.

وأن كانت بعض المشاكل تسبب أحيانًا عن نقل الكلام، فإن أخف الناس ضررًا من ينقلون الكلام كما هو، كما يفعل جهاز تسجيل الصوت، الأمين المخلص، الذي لا يزيد على ما قيل شيئًا، ولا ينقص، ويعطى صورة دقيقة عما قيل..

إنما بعض الناس يأخذون الكلام، ويضيفون عليه رأيهم الخاص واستنتاجاتهم وأغراضهم، ويقدمون كل ذلك لإنسان آخر، كأنه الكلام المباشر الذي نطق به من قد سمعوه..!

انظروا ماء النيل وقت الفيضان وهو بنى اللون من كثرة ما حمل من طمي.. هذا الماء كان في أصله ماء صافيًا رائقًا عندما نزل مطرًا من السماء على جبال الحبشة. ولكنه طوال رحلته في الطريق ظل ينحت الطمي من الصخور ويختلط بالطين حتى وصل إليك بهذه الصورة.. هكذا كثير من الأخبار التي تصل إليك مشبعة بالطين، ربما كانت رائقة صافية في أولها. والفرق بينهما وبين ماء النيل أن طينه مفيد للأرض، أما الطين الذي خلطه الناس في نقلهم للأحاديث، فإنه ضار وخطر ومفسد للعلاقات.

كثير من الأخبار عندما تصل إليك تكون أخبارًا مختلفة جدًا عن الواقع. وسأضرب لذلك مثلًا:

يقول شخص لآخر: “ألم تسمع؟ لقد حدث كذا مع فلان”. فيجيبه: “لا شك أنه قد غضب لذلك جدًا”. فيقول له: “طبعًا”. ويوصل الخبر لثالث ويقول له: “فلان غضب جدًا لأنه حدث معه كذا”. فيجيبه: “من غير المعقول أن يكون قد غضب فقط، لابد أنه سينتقم” ويصل الخبر الرابع أنه سينتقم، فيجيب: “حسب معرفتي لطبعه لابد أنه سيدبر دسيسة لمن أغضبه”. ويصل الخبر الخامس فيقول: “ربما يرسل خطابًا لمصلحته ويتهمه باتهامات”. فيجيبه سادس: “لا يبعد أن يقول عنه إنه شيوعي مثلًا”. ويصل الخبر لسابع فيسرع إلى الشخص المقصود ويقول له: “خذ حذرك، فلان أرسل خطابًا إلى مصلحتك يقول عنك إنك شيوعي”..!!!

يحدث كل هذا، وربما يكون الشخص الذي يتكلمون عنه قد تضايق في وقتها واستطاع أن يصرف غضبه، ويسامح من أغضبه!! أو قد يكون قد أخذ الأمر ببساطة ولم يتأثر، وانتهى الأمر.. وقد يحدث سوء تفاهم بسبب الخطاب المزعوم المرسل إلى المصلحة!! الذي لا وجود له على الإطلاق.

لذلك أكرر وأقول: (لا تصدق كل ما يقال).. ولا تكن سمّاعًا، بل افحص ودقق وحقق.. على الأقل في الأمور الهامة الخطيرة..

التصنيفات: عظات مكتوبة
مشاركة: