كتاب الله… وكفى - كتب البابا شنوده الثالث

· · 12795 كلمة · 61 دقيقة قراءة

هذا الكتاب من “سلسلة الله والإنسان - [1]”.

← بيانات الكتاب: الطبعة الأولى، يناير 1982 م. (الطبعة السادسة، إبريل 1991 م.)، القاهرة، مطبعة الأنبا رويس (الأوفست) بالعباسية.

← تم مراجعة نص الكتاب لغوياً لتصحيح الأخطاء الإملائية عند إعادة كتابته على الكمبيوتر من قِبَل أبانوب حنا .

1- مقدمة 🔗

باسم الآب والإبن والروح القدس

الإله الواحد آمين

هذا الكتاب الذي بين يديك، هو ثمرة خمس محاضرات ألقيت في الكاتدرائية الكبرى بدير الأنبا رويس، وهي:

1- معك لا أريد شيئا من العالم…………………. في 14/10/1977

2- مركز الله في حياتك……………………… في 21/12/1979

3- الإكتفاء بالله…………………………… في 14/3 /1981

4- أنت.. والله………………………….. في 27/ 3/1981

5- الله.. هدفك الوحيد………………………. في 7/8/1981

وقد تم دمجها معًا، لتقدم إليك في هذا الكتاب، الذي هو حلقة من كتاب كبير باسم [الله والإنسان]. نرجو أن يوفقنا الرب في نشر باقيه بصلواتكم..

شنوده الثالث


يُمكنك قراءة كتاب الله وكفى على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


2- ما هي علاقتك بالله؟ 🔗

ما هي علاقتك بالله؟

أود أن أحدثكم عن موضوع حيوى، هو مركز الله في حياة كل منا.. هل توجد علاقة بيننا وبين الله؟ وما طبيعة هذه العلاقة؟ وما عمقها، وما مداها؟ وهل هي علاقة رسمية؟ أم تدخل فيها العاطفة والحب؟ وما مركز علاقتنا بالله إذا ما قورنت بباقي علاقاتنا الأخرى؟

وينبغي أولًا أن نبين أهمية علاقتنا بالله..

هناك ملايين من الناس، في كافة أنحاء الأرض، قد لا يهمك أن تكون بينك وبين أحد منهم علاقة خاصة. أما الله فهو الكائن الوحيد الذي لا بُد أن تكون هناك علاقة بينك وبينه. ولهذه العلاقة ميزات تنفرد بها..

فعلاقتك بالله، هي العلاقة الوحيدة الثابتة والدائمة.

كل من تقابله من البشر، ليست لك به علاقة دائمة. فما أسهل أن تفترق عنه- على الأرض- في وقت ما، ويكون لك طريق في الحياة غير طريقه، وتشعر أنها مجرد علاقة عابرة. كذلك فإن الناس الذين تختلط بهم، غالبًا ما تكون علاقتك بهم محددة في مجال معين لا تتعداه، قد تنتهي بانتهائه. أما الله فعلاقتك به شاملة، ودائمة. وهي ليست قاصرة على حياتك الأرضية..

علاقتك بالله، تشمل أبديتك أيضًا، وفي الحياة الأخرى.

إنها علاقة تبدأ هنا، وتستمر عبر الخلود. فإلى جوار أن الله هو الذي خلقك وأوجدك ويرعاك، فإن في يده أيضًا تحديد مصيرك في الأبدية وعلاقتك به هناك. ولا شك أن هذا يختلف طبعًا عن علاقاتك بالبشر وبباقى الكائنات الأخرى. حتى البشر أو الملائكة الذين ستكون لك علاقة بهم في الأبدية، فعلاقتك بهم أيضًا داخلة في صميم علاقتك بالله.

لذلك إفحص علاقتك بالله، واعرف حقيقتها.. عمليًا..

هنا، ونضع أمامك بعض اسئلة تفصيلية:

1- هل عرفت الله؟ أم لم تعرفه بعد؟ وإن كنت تظن أنك تعرفه، فما طبيعة هذه المعرفة وما عمقها؟ وماذا يكون الله بالنسبة إليك؟

2- هل الله له وجود واضح في حياتك؟ وما نوع العلاقة التي تربطك بالله؟

3- هل له الأولوية في كل أهتماماتك ومشغولياتك ومحبتك؟

4- هل الله ليس فقط هو الأول في حياتك، إنما هو الكل؟ أم هل يوجد شيء أخر في حياتك إلي جوار الله له أهمية. ما هو؟ وهل أنا تجاهد للتخلص في كل ما ينافس الله في قلبك، ليبقى الله وحده؟

أنها درجات في العلاقة بالله. ما موضعك بينها؟

هنا وارجوا ان تأذن لي، بأن أتناول هذه الأسئلة واحدًا فواحدًا، ونناقشها معًا:

1- هل تعرف الله؟ وما عمق هذه المعرفة؟ 🔗

وقد يبدو السؤال غريبًا. فكل إنسان يظن أنه يعرف الله، وربما يقصد معرفته أنه يوجد إله. ونحن لا نقصد مطلقًا هذه المعرفة العقلية السطحية. فالشيطان أيضًا يعرف أنه يوجد إله. وقد قال القديس يعقوب الرسول " أنت تؤمن أن الله واحد. حسنًا تفعل. والشياطين أيضًا يؤمنون ويقشعرون " (يع9:2)، ويقصد مجرد الإيمان العقلي، الميت، الذي بلا ثمر، وبلا حياة في الله..

وبعد الوجوديين يعرفون ان هناك إلهًا في السماء. ويتهكمون في هذه المعرفة قائلين " فليبق الله في السماء، ويترك لنا الأرض نتمتع بها " … !

أو كإنسان يعرف أن هناك كهرباء، دون أن يعرف ما هي هذه الكهرباء وكيف تعمل، ودون أن يستخدمها في حياته أستخدامًا له عمقه ومجالاته الواسعة…

فهل أنت تعرف الله هذه المعرفة العقلية السطحية وكفى؟!

وهل معرفتك لله، ومصدرها الكتب، أو مجرد سماع العظات والتعليم؟ دون أي معرفة أختبارية في حياتك، في داخل قلبك؟ هل تسمع عن الله، كما تسمع عن شعوب بعيدة، لم تراها، لم تختلط بها ولم تعاشرها؟ ! هل تعرف الله الذي يوجد فقط في الكنيسة! فإذا ما خرجت من الكنيسة، لا تعرفه ولا تلتقي به؟ ! هل هو مجرد الإله الموجود في معاهد اللاهوت وفي كتب العقيدة؟!

أسوأ ما في المعرفة العقلية، أن تكون معرفة بلا علاقة!

لذلك، فهي لا يمكن أن تكفي.. أنها تشير إلي الله من بعيد، ولكن يبقى أن تقترب إلي الله، وتعرفه عن طريق الخلطة والمعاشرة والحياة معه. وهكذا تعرف الله الذي يسكن فيك، وليس مجرد الله الذي في الكتب. فهل تشعر بوجود الله فيك ومعك؟ أم أنك تحيا المأساه التي عاشها أوغسطينوس في فلسفته، قبل أن يعرف الله معرفة حقيقية. وقد سجل هذه المأساة في أعترافاته، حينما قال للرب " كنت معي. ولكنني من فرط شقوتي، لم أكن معك".. كان الله معه، وهو لا يحسه، ولا يشعر به!

وهنا ننتقل إلي السؤال الثانى من اسئلتنا:

2- هل الله له وجود عملى واضح في حياتك؟ 🔗

هل الله بالنسبة إليك هو مجرد فكرة؟ أم له كيان حقيقي تشعر به، وله وجود عملى في حياتك؟ ما مدى إحساسك بالله ووجوده وفاعليته فيك؟ من يكون الله بالنسبة إليك؟.. إن سؤال المسيح لتلاميذه، ما زال قائمًا أمامنا:

“من تظنون إني أنا؟”. ما هو الله في مفهومك؟

وما نوع العلاقة التي تربطه بك؟ هل هي مجرد علاقة الطلب من جانبك، والعطاء من جانبه؟ هل الله هو مجرد (الصراف) الذي يقدم لك المال؟.. أم هو الممون الذي يعطيك ما يلزمك من تموين؟ أم هو مجرد المعين الذي يقدم لك المعونة لراحتك؟ فإن كان لا يقدم هذه المعونة، أعنى إن كنت لا تشعر بهذه المعونة، فلا علاقة..! هل مجرد المنقذ الذي يحل مشاكلك؟ فإن بدا أنه لا يحلها، فلا علاقة..!

هل الله بالنسبة إليك مجرد وسيلة؟ أم هو غاية؟

هل هو مجرد وسيلة لتحقيق رغباتك، ولتكوين ذاتك؟ مجرد وسيلة للأخذ؟

وهل توجد علاقة تربطك بالله، خارج مجالات الأخذ منه؟ هل كلما تجلس إلى الله أو كلما تتحدث إليه، إنما يكون ذلك بقصد أن تطلب منه شيئًا؟! أم أنت على العكس، تريد أن تقدم له شيئًا؟ تريد أن تعطيه قلبك، وأن تعطيه حبك، وأن تعطيه وقتك. وتقول له في كل ذلك " من يدك أعطيناك"..

وإن أحببت أن تأخذ من الله: فهل ما تريد أن تأخذه هو المتعة به ومحبته، أم عطاياه المادية وخيراته..؟.. حقًا إن الله يجول يصنع خيرًا.. ولكن:

هل أنت تحب الله أم خيراته؟ ذاته أم عطاياه؟

هل أنت تفرح بالرب حينما يعطيك شيئًا، ولا تفرح حينما لا تحس بعطائه؟ إذا فأنت تفرح بالعطية، وليس بالله معطيها! العطية هي هدفك، وليس الله!

متى تحب الله حينما يعطى، وحينما لا يعطى؟ آسف لهذا التعبير.. أقصد متى تحب الله حينما يعطى، وحينما تظن أو لا تشعر أنه يعطى.. فإن الله بطبيعته، دائمًا يعطى، سواء أحسست أنت ذلك أو لم تحس..

صدقونى يا إخوتى، لو أننا آمنا تمامًا بأن الله يعطى باستمرار، ما كانت الحياة كلها تكفى لشكره..! إننا نعرف فقط عطاياه الظاهرة لنا. فماذا عن عطاياه الخفية؟ ذلك لأن الله إن كان قد أمرنا أن نعطى في الخفاء، فهو أيضًا يعطى في الخفاء.. وأن بحثنا عن عطاياه الخفية، لوجدناها فوق ما ندرك، وفوق ما نتصور..

ومع ذلك، لنترك موضوع العطاء حاليًا، فعلاقتنا بالله ينبغي ألا تُبْنَى على العطاء.

ما هي علاقتك بالله إذن، خارج دائرة إحتياجك إليه؟

هل علاقتك به، هي علاقة خوف؟

هل أنت تسير مع الله، وتحاول أن تطيع وصاياه، خوفًا منه.. هل أنت مجرد خائف من عقوبته ومن دينونته، خائف من اليوم الذي تقف فيه أمامه ويحاسبك، هل أنت خائف من رقابة الله عليك، هذا الذي يفحص الأفكار والنيات، ويروى ما في داخل القلب، وما في أعماق النفس، وليس شيء مستورًا عنه؟

لا يخاف من عقوبة الله إلا المخطئ. فهل أنت لا تزال في هذه المرحلة، لم تتب بعد ولم تصطلح مع الله؟ وأن كان الكتاب قد قال " بدء الحكمة مخافة الله"، فهل أنت مازلت في بداية الطريق، ولم تصل بعد إلى “المحبة التي تطرح الخوف إلى خارج " كما قال الرسول (1يو18:4).

هل علاقتك بالله، هي علاقتك به كحاكم؟

هو بالنسبة إليك مجرد سيد، وأنت مجرد عبد. والله هو حاكم يحكمك، يصدر لك أوامر ونواهى، تسمى الوصايا، وأنت مجبر أن تطيعه، فهو القوى الجبار الذي لا منقذ من يده، سواء اقتنعت بوصاياه أو لم تقتنع؟!

أن كنت هكذا، فأنت لا تزال تعيش في عبودية الناموس، ولم تصل إلى حياة النعمة بعد.. ولم تصل إلى النقاوة التي تحب بها وصايا الله، ولا تجدها ثقيلة.. بل تقول مع داود " وصية الرب مضيئة تنير العينين” (مز19)،

" أحببت وصاياك جدًا" (مز119)، “كلمات حلوة في حلقى، أحلى من العسل والشهد في فمي” (مز119). وأيضًا هل أنت قد وصلت إلى الشعور بأبوة الله لك، على الأقل كلما تصلي وتقول “يا أبانا.. “؟

ما هي علاقتك بالله؟ هل هي تحت الاختبار؟

هل أنت لم تصل بعد إلى درجة الثقة بالله وبمحبته ومواعيده، فما تزال تختبر؟ تجربه في هذا الموضوع أو ذاك، وترى كيف سيتصرف معك؟ وهل سيستجيب لك أم لا يستجيب، وتحدد علاقتك به هل هذا الأساس! فتحبه، أو تغضب منه، أو تقاطعه وتقاطع كنيسته وكتابه، وتبدأ تشك في ما تعرفه من صفات..؟!

أنت تعرف أن الله محبة، هل تثق بذلك، وهل تؤمن أن كل أعماله من نحوك مملوءة حبًا، مهما كان ظاهرها؟ ثم ما علاقتك أنت بهذه المحبة؟ هل يملأك الحب نحو الله ونحو الناس، فتشعر أن الله يعمل معك.

الله أيضًا هو الحق. فما علاقتك بالحق؟ إن كنت بعيدًا عن الحق، فأنت بعيد عن الله.

أعود إلى سؤالى مرة أخرى: ما علاقتك بالله؟

هل علاقتك بالله، فيها العشرة والحب والحياة فيه؟

هل تستطيع أن تقول عن الله، كما في سفر النشيد “حبيبى لي، وأنا له” (نش3:6). أنا أعرف أنك مؤمن بالله، على اعتبار أنه الخالق، والسيد، والراعى، والمدبر، والديان، وتنظر إليه هكذا. ولكن هل تنظر إليه أيضًا كمحب للبشر، وحبيب لنفسك بالذات؟ هل وصلت علاقتك بالله إلى مستوى الحب؟

هل محبتك لله، جعلته الأول في حياتك، والوحيد؟

هل تقول لله في مناجاتك: حينما عرفتك يا رب، وذقت محبتك، تضاءلت أمامي كل العواطف الأخرى، وكل المحبات وجدتها خفيفة وسطحية. أما حبك فهو الوحيد الذي يصل إلى العمق.

وهل محبتك لله جعلتك تحب أن تجلس معه، وتحدثه، وأصبحت صلاتك كلها حبًا، متأججة بعواطفك نحو الله. وبالمثل كل الوسائط الروحية الأخرى امتلأت من حرارة هذا الحب الإلهي، ولم تعد مجرد ممارسات روحية، إنما هي تعبير عما في قلبك من عاطفة نحو الله.. إن كنت هكذا فطوباك. وإن لم تكن هكذا، فاستيقظ لنفسك، لئلا يوبخك قول الرب " هذا الشعب يعبدنى بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عني بعيدًا”. (أش13:29).

إن الله لا يريد في علاقته بك سوى هذا الحب.

انه لم يطلب سوى هذا " يا إبنى أعطنى قلبك.. " والسيد المسيح لما رأى بطرس الرسول بعد القيامة، لم يقل له لماذا أنكرت، أو كيف ضعفت؟ أو ماذا كنت تقصد بالسب واللعن وعبارة لا أعرف الرجل!.. إنما سأله سؤالًا واحدًا لا غير هو " أتحبنى؟” (يو15:21). فلما أجاب بطرس “أنت تعلم يا رب كل شيء، أنت تعلم إني أحبك”، حينئذ قال له الرب " إرع غنمى.. إرع خرافى". إنه لا يريد سوى هذا الحب.

تداريب كثيرة، أم تدريب واحد؟

أتذكر بهذه المناسبة أنه وصلنى سؤال، يقول فيه صاحيه: كلما أقرأ الكتاب المقدس، تتكشف لي فضيلة معينة، فأحاول أن أدرب نفسي عليها. ثم أقرأ مرة أخرى، فتتكشف لي فضيلة ثانية، ثم ثالثة.. إلى غير انتهاء. وأنا أحاول أن أدرب نفسي على كل هذه الفضائل العديدة.. ولكني في حيرة شديدة من كثرتها. فانصحنى بماذا أبدأ؟ وماذا يمكنني أن أؤجله، لأنني من كثرة التداريب أنسى بعضها أو أنسى غالبيتها..!

والحقيقة إن محبة الله تشمل كل الفضائل..

أن تدريب الإنسان على محبة الله، يجد داخلها كل شيء.

إنها التدريب الوحيد الشامل، الذي إن أتقنته، لا تحتاج معه إلى تداريب روحية أخرى، على أن تكون محبة حقيقية عميقة، وبفهم.. محبة يتعلق فيها القلب بالله، وينسى كل شيء ما عداه، ويفصله على كل رغبة وكل شهوة

ان كل إنسان قد يقول " أنا أحب الله". وربما نسأله سؤالنا السابق: حسن أن تحب الله. ولكن هل الله في قلبك هو الأول، وهو الوحيد؟ هل محبة الله تشبع هذا القلب، فلا يحتاج إلى حب آخر إلى جوار الله؟ واضح أنها لو كانت محبة حقيقية، يشعر فيها الإنسان بالإكتفاء.

إن المحبة الحقيقية لله، تحرر القلب من كل شيء.

محبتنا لله، لها عمقها. وأن وصلت إلى عمق القلب، تطفو كل المحبات الأخرى على السطح، وتملك محبة الله كل القلب. وكل محبة لا تنبع من محبة الله، تخرج خارجًا، ويصير الله هو الكل. وبمحبة الله يتحرر الإنسان..

يتحرر من كل شهوة، ومن كل رعبة، ضد الله.

ان كل شهوة يتعلق بها الإنسان، تربطه بها، وتشده إليها. وبدلًا من أن يمسك هو بها، تسمك هي به. وكما يملكها تملكه. وبهذا يفقد جزءًا من حريته الحقيقية الداخلية، فيما هو مربوط بهذه الشهوة..

وكيف ينحل الإنسان من رباطات الشهوات والرغبات؟

ينحل منها. بمحبة أقوى، تستطيع إن دخلت القلب، أن تحل محل كل محبة أخرى، وتطردها إذ هي أعمق منها. ولا توجد محبة أقوى من محبة الله الحقيقية. إنها تحرر الإنسان من كل رغباته، فينحل من الكل، ليرتبط بهذه المحبة الواحدة..

ويرى أن كل ما هو خارج الله، ليس متعة.

يصير الله هو شهوة النفس، ولا شهوة غيره. لذلك قال أحد القديسين عن التوبة إنها إحلال حب محل حب، الله مكان حب العالم والجسد المادة.. فهل وصلت محبة الله في قلبك إلى هذا المستوى؟ وهل حررتك من أغلال الرغبات.

حتى في الأبدية: النعيم الأبدى هو الله..

لا يوجد نعيم أبدى سوى الله. وكل نعيم غير الله، ليس هو نعيمًا حقيقيًا.. إن المتعة الدائمة الكاملة بالله، هي مالم تره عين، ولم تسمع به أذن.. هذا هو الملكوت الحقيقي، أن نحيا مع الله، وفي الله، إلى الأبد، بلا عائق..

محبة الله تحرر الإنسان من الرغبات، وأيضًا من الخوف:

ونقصد بعبارة " من الرغبات " انه لا تسيطر عليه أية رغبة وتستعبده. وكما قال القديس بولس الرسول “كل الأشياء تحل لي، ولكن لا يتسلط على منها شيء” (1كو12:6). جميل هو مثل ذلك العصفور، الذي يجد مكانًا فيه حب كثير، فيلتقط منه واحدة أو أكثر، ويطير، دون أن يتعلق بهذا المكان. ولا يختزن، ولا يلتصق بهذه الحبوب..

والذي يحب الله لا يخاف. فالخوف متعلق أيضًا بالرغبات. ان الإنسان يخاف ان كانت هناك رغبة يخشى عدم الوصول إليها، أو هي معه ويخشى ضياعها. أما الذي حررته محبة الله، فمن أي شيء يخاف؟ وعلى أي شيء يخاف؟ لا شيء. لكنه يشدو مع القديس أغسطينوس قائلًا:

[جلست على قمة العالم، حينما أحسست في نفسي أنى لا أشتهى شيئًا ولا أخاف شيئًا].

حينئذ يمتلئ قلبه قوة، ويقول مع بولس الرسول “مَنْ سيفصلنا عن محبة المسيح: أشدة أم ضيق أم اضطهاد، أم جوع أم عرى، أم خطر أم سيف؟.. ولكننا في هذه جميعها يعظه انتصارنا بالذي أحبنا..” (رو35:8، 37).

ان أولاد الله أحرار من الداخل. حررتهم محبة الله، التي دخلت إلى قلوبهم، ومنحتهم النقاوة والتجرد، ومنحتهم القوة والشجاعة. وقطعت من قلوبهم كل رباطات الرغبات، فتحرروا. صاروا كل منهم حرًا، أكثر من شعاع الشمس، وأكثر من نسيم الهواء..

أيسألك أحد إذن: ما هو الله بالنسبة إليك؟

ولعلك تقول: هو الحبيب الذي " شماله تحت رأسى، ويمينه تعانقنى" (نش6:2) هو العشرة التي لا يمكنني الإستغناء عنها، لأن بها أوجد وأحيا وأتحرك.. هو ليس فكرة، ولكنه كيان يسرى في روحي وفي دمى وفي فكرى. هو بالنسبة لي كل شيء.

نعم أنت يا رب العامل في، وأنا لا أعمل. أنت المحرك لي وأنت الموجه. أنت تعمل معي، وتعمل بي، وتعمل في.. ربما لا أدركك، ولكني أحسك، بإدراك روحي في داخلي، لا يستطيع لسانى أن يعبر عنه. أنا أعرفك. ولكن ألفاظ اللغة أضعفت من أن تشرح هذه المعرفة.

أنت يا رب لست خارجي، ولكنك في داخلي.

عندما أذكرك، لست فقط أرفع نظري إلي فوق، فأنت لست فقط فوق في السماء إنما أنت في داخلي، ولست أفتش عنك في الخارج.. وصدق ذلك الأديب الذي قال " أغمضت عيني، ولكني أراك". فأنت فوق الحواس، وأنا أتخلص من هذه الحواس قليلًا، لكي أجدك.. أما إن أنشغل عقلي بالحواس، بالنظر والسمع واللمس.. فقط تعطلني عنك. ليتني يا رب أنسى الكل، وتبقى أنت وحدك، تشبع حياتي.

إن مشكلة أبينا أدم هي الأضافات التي دخلت إلي قلبه وإلي فكره، إلي جوار ربه..

كان الله في البدء، هو كل شيء في حياة أدم.

أما في خطيئته، فقط دخلت إلي قلبه أشياء أخرى.

قدَّم له الشيطان المعرفة لكي يحبها بدلًا من الله.

وقدم له حُب التأله، وأغراه بأن يصير هو وحواء إلهين مثل الله (تك5:3).

وقدم له شجرة وثمرة ليأكل.. وأراه الثمرة شهية للنظر، وجيدة للأكل، وبهجة للعيون. وهكذا أدخل إلي حياته شيئًا جديدًا، هو متعة الحواس، وشهوة الجسد بالأكل.

الخلاصة أنه قدم له أشياء جديدة تغزو قلبه، وتستقر فيه إلي جوار الله، أو تأخذ أهمية أكثر من الله، يضحي بالله من أجلها..! وهكذا لم يعد الله هو الكل بالنسبة إلي أدم، بل وجد له في القلب ما ينافسه..!

صار الله بالنسبة إليه، واحدًا من مجموعة!

لم يعد الله يمتلك كل المحبة داخل القلب، إذا دخلت إلي القلب أيضًا ومحبة المعرفة، ومحبة التأله، ومحبة الأكل، وشهوة الحواس.

وباختصار، دخلت {الذات} لتنافس الله في المركز وفي الأهمية.. وبتوالي الأيام والأجيال، دخلت إلي قلوب البشر أمور أخرى، على حساب مركز الله في القلب. وكلما كثرت محبة هذه الأمور، قلت محبة الإنسان لله..

وكيف يكون العلاج إذن؟ إنه بلا شك يكون في ترك كل هذه الأمور الدخيلة

فهل أنت مستعد أن تترك.. من أجل الله؟

أن الشاب الغني لم يستطع أن يترك أمواله الكثيرة، لذلك ترك الرب ومضى حزينًا..! وأبوانا الأولان آدم وحواء، لم يستطيعا أن يتركا إغراء المعرفة والألوهية، ففقدا صورتهما الإلهية.. فهل تتعلم من هذا درسًا في الترك؟

إن لم تستطع أن تترك كل شيء من أجله، فهل يمكنك أن تبدأ بأن تترك العشور والبكور للرب؟ وهل يمكنك أن تترك الإنشغال يومًا في الأسبوع لكي تتفرغ فيه للرب؟ وهل يمكن أن تترك بعض الملاذ التي تشغل قلبك، ليصير القلب صافيًا لله؟ سهل عليك أن تفعل هذا. وسهل أن تترك بعض ألوان الطعام، لتعطي روحك في الصوم فرصة ترتفع فيها فوق المادة والجسد، لتتصل بالله..

المهم أن تكون مستعدًا، لأن تترك من أجل الله شيئًا.

إن كانت لله الأولوية في قلبك، يمكنك أن تترك لأجله.

يمكنك أن تستغنى عن أي شيء، سيصغر في قلبك إلى جوار الله وسيفقد قيمته.. وستعلم تمامًا أنك لا بُد في يوم ما أن تترك كل شيء، بل تترك العالم كله، حين تفارقه. فالأفضل لك أن تتخلى عن أي شيء بإرادتك، قبل أن تتخلى عن الكل بغير إرادتك.. وهذا هو الدرس الذي تعلمه القديس أنطونيوس حينما نظر إلى جثة أبيه وهو ميت..

إن الشيء الذى تتركه لأجل الله، إنما تبرهن بتركه على أن محبتك لله أكثر من محبتك لهذا الشيء. فإن تركت كل شيء وتبعت الله، إنما تبرهن أيضًا على أن محبتك لله، هي أعظم من كل شيء، وتغطى على كل شيء. وماذا أيضًا؟

إن أهم ما تتركه لأجل الله، هو [ذاتك].

كثير من الناس يركزون حول ذواتهم. الذات بالنسبة إليهم هي كل شيء، هي مركز التفكير، وهي محور التفكير. وإذا باهتمام الإنسان ينصب كلية عل ذاته: ما هي حالتى الآن؟ وماذا أريد أن أكون؟ وكيف أكون؟ ومتى..؟ وما هي العوائق التي أمامي؟ وكيف أنتصر؟ وكيف أنال، وأغلب، واتفوق..؟ وكيف أكون نفسي، وكيف أنميها.. مركزى، علمى، سمعتى، ماليتى، متعى، لذاتى، حريتى، كرامتى.. مع تفاصيل لا تنتهي.

وتصبح الذات صاحبة المركز الأول، وليس الله..

بل خلال تفكير الإنسان في ذاته، وانشغاله بها، قد ينسى الله.. أو لا يعطى الله وقتًا ولا اهتمامًا، لأن الاهتمام كله مركز في ذاته. بل ما أسهل أن يخالف الله ويكسر وصاياه، ليبنى ذاته ويسعدها بالطريقة التي يفهمها..!

ماذا كانت مشكلة (الوجوديين) سوى الذات؟

الوجودى يريد أن يشعر بوجوده، ويتمتع بهذا الوجود، حسب اتجاهاته الخاصة، بالإستغراق في ملاذ العالم، وبالحرية الكاملة التي لا يقف أمامها عائق من قانون أو تقليد أو وصية الهية..! وفي هذا يرى أن الله يحد من استباحة هذه الحرية، فيرفض الله من أجل الذات، لكي تتمتع ذاته بهذا الوجود، متعة ينطبق عليها قول الرب " من وجد نفسه يضيعها" (مت39:10).

وشعار الوجودى هو: من الخير أن الله لا يوجد، لكي أوجد أنا، وأتمتع بالوجود..!

وهكذا نرى أن الذات، قد ضيعت العلاقة مع الله.

أن مثال الوجوديين هو من أسوأ الأمثلة. وقد يشبههم الأبيقوريون الذين غايتهم هي اللذة، وشعارهم: لنأكل ونشرب، لأننا غدًا نموت، أي لنمتع ذواتنا بما تشتهيه، قبل أن نموت. ومثلهم كل الذين سلكوا في شهوات الجسد..

على أن هناك أمثلة أخرى، من جهة الذات وسيطرتها:

هيرودس الملك، الذي عاصر ميلاد المسيح، لم يفرح بالرب وبالخلاص الآتي، وانما فكر في ذاته، كيف يكون هناك ملك لليهود غيره. وقادته (الذات) إلى أن يأمر بقتل كل أطفال بيت لحم، ليخلو الجو له.. بعيدًا عن ملكوت الله!! وهكذا لم يفرح بميلاد الرب، كما فرح به الرعاة والمجوس، الذين لم تكن الذات تعوقهم عن الله!

وهيرودس الملك، الذي قتل القديس يعقوب الرسول، والذي سجن بطرس.. هذا لما جلس على عرشه، منتفخًا بحلته اللاهوتيه، يكلم الشعب. وهم يمدحونه قائلين " هذا صوت إله، لا صوت إنسان".. هيرودس هذا، إذ اهتم بمجد ذاته، ولم يعط مجدًا لله.. أضاع نفسه، إذ ضربه ملاك الرب، فصار يأكله الدود ومات (أع21:12-23).

بيلاطس أيضًا، إهتم بذاته، ولم يهتم بالمسيح. ومع تصريحه بأنه " لاتوجد فيه علة تستوجب الموت"، إلا أنه حرصًا على مركزه، لئلا يغضب عليه قيصر بسبب إتهامات اليهود، سلم البار للموت وهو حاكم بإطلاقه..! ولم يكتف بهذا، بل حاول أن يبرر ذاته أيضًا، فغسل يده وهو يقول “أنا برئ من دم هذا البار”!

وهكذا استطاعت الذات، أن تسقط الملوك والولاة، وتهلكهم!

والذات أيضًا أسقطت رؤساء الكهنة ومعلمى الشعب:

أولئك الذين أسلموا المسيح للموت حسدًا، إذ خافوا على مراكزهم من شعبيته، وقالوا بعضهم لبعض “أنظروا إنكم لا تنفعون شيئًا. هوذا العالم قد ذهب وراءه” (يو19:12).

ومن أجل الذات التي أتعبها الحسد، بعدوا عن الله تمامًا، وهم رجال دين، فدفعوا مالًا ليهوذا لكي يخون معلمه، وأتوا بشهود زور لم تتفق أقوالهم، ولفقوا للسيد تهمًا هم يعرفون زيفها. ودفعوا رشوة للجند، ليقولوا إن تلاميذه سرقوا الجسد ونحن نيام! كل ذلك فعلوه، وفقدوا الرب بسببه، حفظًا على الذات وعلى الرئاسة والشهرة!!

أما ملكوت الله فلم يفكروا فيه. وكذلك النبوات الخاصة بالخلاص والفداء، ما اهتموا بها. وتعليم الشعب وقيادته إلى الإيمان، أمر تجاهلوه تمامًا! كل ما كان يشغلهم، هو ذاتهم، كيف تكبر أمام الناس، ولو بتحطيم هذا المنافس، ولوكان المسيا.

يبكت كل هؤلاء المعمدان، الذي انطلق من الذات..

كان كل اهتمام يوجه إليه، يتخلص منه، ويوجهه إلى المسيح، قائلًا: يأتي بعدي من هو أقدم مني، من هو أقوى مني، الذي لست أنا مستحقًا أن أنحنى وأحل سيور حذائه..

وقال أيضًا: من له العروس فهو العريس.. أنا صديق العريس، أنظر من بعيد وأفرح. ينبغي أن ذاك يزيد، وإني أنا أنقص (يو29:3، 30).

كانت كل الأمجاد تحيط بيوحنا المعمدان، لكنه لم يسمح أن تدخل إلى قلبه. لم تكن ذاته هي التي تشغله، بل كان يشغله الرب وحده، الذي جاء هو ليعد الطريق قدامه، لذلك كان المعمدان يخفى ذاته، ويقول عن السيد " الذي من فوق، هو فوق الجميع"..

محبة الذات تقود إلى الحسد. والحسد يضيع المحبة..

المحبة لا تحسد. وحينما يحسد الإنسان، يتمركز حول نفسه، ويفقد محبته نحو من يحسده. وإذا فقد المحبة، فقد الله، لأن الله محبة.. بالحسد، أخوة يوسف باعوا أخاهم كعبد، وخدعوا أباهم. ولم يضعوا الله أمامهم. كل ذلك لأنهم أحبوا ذواتهم، ولم يقبلوا أن يكون يوسف أفصل منهم في شيء..

إحترس من أن تنزع المحبة من قلبك بحسد، أو بغضب، لئلا تفقد الله، الذي لا يحل في قلب خال من المحبة. وإن كنت لا تستطيع أن تحب أخاك الذي تراه، فكيف ستحب الله الذي لا تراه؟! (1يو20:4).

الذات تريد أن تكبر، كما تريد أن تلتذ وتتمتع..

والذات في محبتها أن تكبر، تضيع الله من قلبها..

ولعل أبرز مثال لذلك هو سقطة الشيطان، الذي قال في قلبه " أصعد إلى السموات، أرفع كرسى فوق كواكب الله.. أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العلي (أش13:14، 14). فكانت النتيجة أنه انحدر إلى الهاوية.. لقد أرادت ذاته أن تكبر، إلى حد أنها نافست الله نفسه في جلاله الإلهي!

ومن الذين ضيعهم كبر الذات، بناة برج بابل..

أرادت ذاتهم أن تكبر، بحيث ترتفع عن مستوى الذين يعيشون على الأرض. وهكذا قال هؤلاء “هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا..” (تك4:11). فكانت النتيجة أن الله بلبل ألسنتهم وشتتهم. وهكذا كل من أراد أن يرفع ذاته، يوضع إلى أسفل، ويفقد الله.

أما الذي يضع أمامه عظمة الله غير المحدودة، فإن ذاته تصغر في عينيه ويرى أنها مجرد تراب ورماد. فتنسحق ذاته، وفي انسحاقها يرفعها الله، إليه..

والعجيب أن حرب الذات هذه، حاربت القديسين..

آباؤنا الرسل الإثنا عشر، حاربتهم الذات أيضًا! وفكروا من يجلس عن يمين الرب وعن يساره، ومن يكون الأول فيهم؟! والرب الذي يعرف أن الذات تبعد الإنسان عن الله، قال لهم: لا يكن فيكم هذا الفكر. من أراد فيكم أن يكون أولًا، فليكن آخر الكل وعبدًا للكل. وأعطاهم مثالًا، حينما انحنى وغسل أرجلهم. ولما ظهرت ذاتهم في فرحهم بإخراج الشياطين، وقالوا " حتى الشياطين تخضع لنا باسمك " قال لهم الرب " لا تفرحوا بهذا". تكتب أسماؤهم في ملكوت الله.

أن الذات كما حاربت الرسل، حاربت نبيًا عظيمًا كيونان..

كانت تهمه ذاته، ويهمه أن كلمته لا تنزل إلى الأرض. لذلك لما أمره الله أن ينادي على نينوى بالهلاك، وهو يعرف أنه غفور سيرحم، هرب من وجه الله وخالفه. وهكذا اصطدم بالله من أجل ذاته..!

ولما خرج من بطن الحوت، ونادى على نينوى، فتابت ورحمها الله وغفر لها، لم يفرح بهذا الخلاص العظيم، إنما كان مركزًا حول كرامته، حول ذاته، حول كلمته التي قالها ولم تنفذ. وجلس حزينًا. حتى أن الله قال له " هل اغتظت بالصواب؟" فقال " إغتظت حتى الموت". وبهذا كانت مشيئة يونان ضد مشيئته. وكانت عواطفه عكس عواطف الله. وكل ذلك بسبب تمركزه حول ذاته! ولولا أن الله بحث عن هذا النبي، وأصلحه وصالحه، لضاع هو أيضًا..!

كذلك أيوب الصديق الرجل الكامل، حاربته ذاته..

كان رجلًا كاملًا ومستقيمًا، ومشكلته أنه كان يعرف عن ذاته أنه كامل ومستقيم، حتى أنه قال “كامل أنا، لا أبالى” “إن تبررت بحكم على فمي. وإن كنت كاملًا يستذنبنى” (أى21:9، 20). لذلك قيل عن أيوب “إنه كان بارًا في عيني نفسه” (أى1:32). وبسبب هذا عاتب الله عتابًا شديدًا جدًا، قال له فيه " لا تستذنبنى. فهمنى لماذا تخاصمنى؟ أحسن عندك أن تظلم؟" (أى2:10، 3). أما أصحابه فكان شديدًا عليهم أيضًا.

وظل هكذا في التجربة، حتى ناقشه الله، وحرره من ذاته، فاتضع أخيرًا وقال للرب " ها أنا حقير، فبماذا أجاوبك؟ وضعت يدي على فمي.." (أى40:40)، “قد نطقت بما لم أفهم، بعجائب فوقى لم أعرفها.. أسألك فتعلمنى.. لذلك أرفض (ذاتى) وأندم في التراب والرماد” (أى3:42-6). ولما وصل أيوب إلى هذا التراب والرماد “رَفَعَ الرَّبُّ وَجْهَ أَيُّوبَ، وَرَدَّ الرَّبُّ سَبْيَ أَيُّوبَ” (42: 9، 10).

إنها الذات، يجب أن يتجرد الإنسان منها، أو يجرده الله..

وفي قصة أيوب جرده الله من كل شيء، من كل ما كان سببًا في عظمته وفي افتخاره. جرده من المال والغنى، ومن الأولاد، ومن الصحة. ومن احترام الناس له..جرده من كلمة “أنا”، ومن اعتزازه بفهمه وحكمته، حتى وضع يده على فمه وسكت.. ثم ندم في التراب والرماد. وقال للرب " أنا حقير فبماذا أجاوبك؟!". وحينئذ رفعت عنه التجربه.

أرأيت إلى أي حد تبدو خطورة الذات؟!

حينما يثق الإنسان بذاته، بذكائه وتفكيره وقدراته. وربما يعتمد على هذه الذات، وربما يفتخر بذاته وأعماله كما افتخر أيوب (أى29). وربما بسبب الثقة بالذات، يعتمد الإنسان على فهمه ولا يستشير. وبينما يقول الكتاب

" توجد طريق تبدو للإنسان مستقيمه، وعاقبتها طرق الموت" (أم12:14).

اهتمام أبينا يعقوب بذاته، كم جر عليه من تعب؟!

لكي يأخذ بكورية أخيه منه، ويحل محله، كم لجأ إلى الطرق البشرية، وإلى الكذب والخداع، وتعرض لغضب أخيه، وخاف وهرب..

إن الذات إذا أرادت ان تحقق رغباتها، ما أكثر أن تلجأ إلى التحايل وتفقد طابعها الروحي، مبتعدة عن الله. وكثيرًا ما تصير الذات هدفًا.

ويصبح الله مجرد وسيلة، لتحقيق هذه الذات وأهدافها!

فلا يكون الله هو الهدف، الذي يضحى الإنسان بذاته من أجله، بل على العكس تصبح الذات هي الهدف، والله هو الوسيله التي تبنى هذه الذات!!

حتى أن كل الصلوات تصبح مركزة في طلبات الذات، سواء وافقت مشيئة الله أم لم توافق..! وفي هذه الحالة تختفي صلوات التسابيح والتماجيد الخاصة بالله وحده، ويختفي عنصر الحب والمناجاة فيها..

إن السيد المسيح أعطانا مثالًا في التخلى عن الذات..

ففى تجسده، نرى هذه العبارة العجيبة، إنه “أخلى ذاته”. وإلى أي حد أخلاها؟ إلى حد إنه “أخذ صورة العبد”.. وماذا أيضًا؟ وأطاع حتى موت الصليب" (فى7:2-9).

وعلى الصليب، قدم هذه الذات أيضًا ذبيحة محرقة لإرضاء الله الآب وايفاء عدله الإلهي. وقدمها أيضًا ذبيحة خطية لكي يخلص البشرية التي حمل خطاياها، ومن أجلها “أحصي بين أثمة”.

وفي خلال فترة تجسده على الأرض، قال للآب “لتكن لا مشيئتى، بل مشيئتك” مقدمًا ذاته بالكلية على مذبح الطاعة.

إخلاء الذات تعلمه بولس الرسول من السيد الرب. حينما قال “لأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في” (غل20:2).

مُنْ يستطيع أن يقول مع القديس بولس “لا أنا”..

لذلك ليتنا نعيد النظر في علاقتنا بالله وتقييمها. ونحاول أن يكون الله بالنسبة إلينا هو الكل. له كل عواطفنا، وكل قلبنا وحبنا، تتركز فيه كل آمالنا، ونفضله على كل شيء، ونجد لذتنا فيه. فنتغنى مع أرمياء النبي ونقول" نصيبي هو الرب، قالت نفسي. من أجل ذلك أرجوه" (مر24:31).


يُمكنك قراءة كتاب الله وكفى على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


3- نصيبي هو الرب قالت نفسي 🔗

“نصيبي هو الرب قالت نفسي” (مر 24:31)

كلنا نحب هذه العبارة الجميلة، ونحفظها ونرددها. ولكن من منا ينفذها ويحياها؟ ومن منا يتخذها مبدأ روحيًا يغنيه عن وصايا كثيرة.

هل تقبل أن يكون الرب هو نصيبك من هذه الحياة كلها؟

هناك مَنْ يرى أن نصيبه في الحياة هو البيت والأسرة والزوجة والأولاد، ونصيبه هو المركز، المال والشهرة والوظيفة والسلطة..

ولا مانع من أن يضاف الله إلى كل هذا..!

ولكن أن يكون الله وحده هو نصيبه (مز5:16)، ويكتفى به، ولا يعوزه معه شيء (مز1:23).. فهذا أمر ليس سهلًا على كل أحد أن يقوله، وليس سهلًا على كل أحد أن يحياه..

ومع ذلك فقد أعطانا الله أمثلة له في كتابه المقدس.

أعطانا الرب مثالًا لهذا، في كهنة العهد القديم:

وليس الكهنة فقط، إنما كل سبط لاوي، الذي كان يتفرغ لخدمة الرب. لقد وزعت الأنصبة على كل الأسباط. ولكن “لم يكن للاوى قسم ولا نصيب مع أخوته. الرب هو نصيبه، كما كلمه الرب” (تث9:10).

لذلك صار إسمهم (الإكليروس) أي النصيب، لأن الرب هو نصيبهم، وهم أيضًا نصيب الرب. وكان الرب يكفيهم، فلم يعوزهم شيء. وصارت حياتهم نصيبًا للرب، لا تشغلهم أرض، ولا أملاك، ولا عمل آخر سوى عمل الرب..

فهل أنت كذلك..؟ نصيبك الرب؟ إن لم تكن من المكرسين للرب، فعلى الأقل اختبر علاقتك بالله في ضوء الأمثلة الآتية:

1- إن لم تكن حياتك نصيبًا للرب، فهل يوم السبت نصيبه؟ 🔗

إن كنت لا تعطى الحياة كلها للرب، فهل تعطيه هذا اليوم الواحد من كل أسبوع؟ هل تقدس يوم الرب، يومًا للرب كل أسبوع، عملًا من الأعمال لا تعمل فيه حسب وصية الرب (تث14:5). هل تخصصه للصلاة والتأمل والقراءة الروحية، وخدمة الرب، والتمتع به؟ أم أن لك اهتمامات أخرى تشغلك؟

إن كنت لا تقدم هذا اليوم الواحد للرب، فهذا اعتراف ضمنى أن الرب ليس هو نصيبك بالتمام.. لو كان نصيبك، لاستطعت بطريقة ما أن توجد له وقتًا، وأن تتحكم في مشغولياتك، ويكون يوم الرب للرب..

2- اختبار آخر لنصيب الرب فيك،، هو الصلاة 🔗

إن كنت لا تواظب على الصلاة، فذلك لأن الرب ليس هو نصيبك، ليس هو الذي يشبعك ويملأ قلبك!

لهذا حينما تقف للصلاة، تجد عشرات الأفكار تقف أمامك، وتجدها كلها مهمة جدًا، وتعجبك. فتفكر متى تنتهي من الصلاة، لكي تتفرغ لهذه الأمور التي قد تعتبرها للأسف أهم من الصلاة!.. لو كانت هذه المسائل مجرد محاربات من العدو، لكنت تتضايق منها، وتستمر في الصلاة التي تجد فيها لذلك. أما إن كانت هذه الأمور تشدك، وبعنف، أتسرع في صلاتك وتنهيها، بسبب هذه الاهتمامات.. فهذا دليل على أن الله لم يصر نصيبك بعد..

أما الذي يكون الرب نصيبه، فإن وقف للصلاة، لا يحب أن يتركها، بل هي تشمل كيانه كله، وتستوعبه. وكل الاهتمامات الأخرى، ينساها. وان تذكرها، تبدو تفاهات أمامه، لا تستحق أن تشغل قلبه، أو أن تشغل فكره..

وهنا ننتقل إلى نقطة ثالثة، في أختبار نصيب الرب:

3- الذي يكون الرب نصيبه، يجد متعة في الله ولذة 🔗

إنه يفرح بالرب، ويجد متعه في الجلوس معه، ولذة في محادثته، ويقول مع داود النبي “باسمك أرفع يدي، فتشبع نفسي كما من شحم ودسم” (مز62).

وفرح الإنسان بالله، يدفعه إلى أن يخصص لله وقتًا أكثر، وأن يدخله في العمق، عمق قلبه، وعمق حبه، وعمق تفكيره واهتماماته..

على أن البعض قد يجدون فرحًا بأمور العالم، ولذة فيها، بمستوى لا يتوافر في علاقتهم بالله. وهذا يدل على أنهم لم يتخذوا الرب نصيبًا لهم..

إن كان الأمر هكذا، فلنسأل: ما هي علاقتك بالله؟ هذا إن كانت لك علاقة به فعلًا.. وأين الله منك؟ ما مدى وجوده فيك؟

هل هو على هامش حياتك؟ أم هو في صميم حياتك؟

أم هو حياتك كلها؟ ماذا تراه يكون بالنسبة إليك؟

هل هو أمل من آمالك الكثيرة؟ أم هو كل آمالك؟

هل هو جزء من مشغولياتك؟ أم هو كل ما يشغلك؟

هل الله بالنسبة أليك نظرية قرأتها في الكتب؟ أو هو مجرد تعليم تعلمته في الكنيسة؟ أم أنه يمثل كيانًا عمليًا في حياتك؟

كن صريحًا مع نفسك، ولا تخدع ذاتك..

أقول هذا، لأن البعض قد يصلى، والله على جانب حياته، وليس في العمق. وقد يصوم هذا الإنسان، ويتناول، ويمارس كل الوسائط الروحية، ومع ذلك لا يزال الله على جانب حياته..!

فمتى يصير الله الحياة كلها؟ ومتى نقول مع بولس الرسول:

لي الحياة هي المسيح” (فى21:1)

البعض حياتهم هي الأسرة والمركز والمال والزواج والاولاد، ومتع الرفاهية، فإن لم يكن له كل هذا، يقال عنه إنه لم يدخل الدنيا بعد، ولم يتمتع بالحياة، وما زال على الهامش. يقولون عنه بالعامية “فلان ده مش عايش”.

أما الذي يقول " لي الحياة هي المسيح" فإنه يستطيع أن يقول بعدها “والموت هو ربح”..

يستطيع أن يقول " لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، فذاك أفضل جدًا" (فى23:1). بل يستطيع أن يقول أيضًا " من سيفصلنا عن محبة المسيح؟! أشدة أم ضيق أم اضطهاد، أم جوع أم عرى، أم خطر أم سيف؟.. ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رو35:8، 37).

4- هناك اختبار آخر تستطيع أن تختبر به مدى علاقتك بالله، وذلك في ضوء الوصية التي تقول 🔗

تحب الرب إلهك من كل قلبك..” (تث5:6).

قد تحب الله من قلبك، هذا جائز. ولكن هل أنت تحبه من كل قلبك؟ أي هل تعطى القلب كله له، والحب كله له؟ من منكم استطاع أن ينفذ هذه الوصية؟

من الذي كل مشاعره وعواطفه مركزة في الله؟ هو نصيبه على الأرض، وهو نصيبه أيضًا في الأبدية. وهو الذي يملأ حياته وفكره وقلبه..

ان كان الله قد ملك على كل قلبك، فإن العالم كله يصبح بالنسبة إليك وكأنه “صفيحة زبالة”، كومة من القمامة لا قيمة لها.. وتنظر إلى كل متع العالم، كما نظر إليها سليمان الحكيم من قبل، فقال “باطل الأباطيل، الكل باطل وقبض الريح” (جا2:1، 14).. المال، الجاه، السلطان، الألقاب، الشهرة.. الكل باطل.. الجمال، المظهر، العظمة، المتعة، البيت، الأولاد.. الكل باطل..

ويصبح الله هو الكل، ولا شيء إلى جواره.

إهدأ إذن إلى نفسك، وافحص علاقتك بالله جيدًا:

ما موقعك، وما موضعك، على خريطة الله..؟!

ما هو مركز الله في حياتك وفي شعورك؟ قل لنفسك: هل الله يشبعنى الإشباع كله، بحيث يمكنني أن أكتفى به، وأكون سعيدًا في اكتفائى، لا أشعر بشيء ينقصنى؟ هل أنا فرح القلب بالرب، سعيد أنى وجدته؟ أغنى له في كل يوم أغنية جديدة.. هل اسم الرب محبوب في فمي؟

هل الرب هو أحلامى بالليل، وآمالى في النهار؟

هل هو عاطفتى الملتهبة؟ هل هو سبب خفقات قلبي؟ هل هو حياتى؟هل هو بدل ذاتى بالنسبة لي؟ ما مركزه بالضبط في داخلي؟

أنت محتاج بين الحين وىلآخر أن تراجع نفسك، وترى أين أنت سائر، وهل لك هدف، وهل هدفك هو الله؟ وهل هو نصيبك حقًا الذي ارتضيت به؟ وهل هو كذلك على الدوام؟ أم بين الحين والحين، تبرز إحدى الرغبات لكي تأخذ مكان الله في قلبك، وتصير هي نصيبك في الحياة، ولو في فترة معينة..؟!

أنظر إلى داود، لترى ماذا كان الله بالنسبة إليه:

إنه يقول " قوتى وتسبحتى هو الرب" (مز118). ويقول “الرب راعى، فلا يعوزنى شيء” (مز23). الرب إذن هو قوته وتسبحته وراعيه. وماذا أيضًا؟ يقول “إلهنا ملجأنا وقوتنا، ومعيننا في شدائدنا التي أصابتنا جدًا” (مز45). ويتابع الكلام فإذا الله حصنه، وترسه، ومجنه، وهو ربه وإلهه، بل أنه يذوق الرب، وينظر ما أطيبه.. الله بالنسبة إليه هو كل شيء.

وكل الذين اتخذوه نصيبهم، يجدونه لهم كل شيء.

إنهم لا يقاتلون. فالكتاب يقول لهم “الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون” (خر14:14).

وهم لا يتكلمون من أنفسهم، بل روح أبيهم هو الذي يتكلم فيهم (مت20:10). هو يعطيهم فمًا وحكمة، لا يستطيع جميع معانديهم أن يقاوموها (لو15:21). هو الذي يقودهم في موكب نصرته (2كو14:2)، وهو الذى يظلل عليهم بجناحيه. هو الأب، وهو الحبيب، وهو الصديق، وهو الرفيق في الطريق..

هو القلب الوحيد، المضمون في حبه وإخلاصه..

قد لا نضمن عواطف ومشاعر كل من نخالطهم من الناس، ولا نضمن إخلاصهم في كل الظروف، ولا ثباتهم في محبتهم، فقد يتركون محبتهم الأولى.

أما الله فهو الوحيد المضمون، الذين إن كنا نحن غير أمناء من نحوه، يبقى هو أمينًا (2تى13:2).. إن نسيت الأم رضيعها، فهو لا ينسانا، هذا الذي قد نقشنا على كفه، وحتى جميع شعور رؤوسنا محصاة عنده، لا تسقط واحدة منها بدون إذنه.. كيف لا نحب إلهًا مثل هذا، ليس له شبيه بين (الآلهة)..؟!

هل الله هو مصدر الخيرات، أم هو الخير؟

المبتدئ في الحياة الروحية وفي العلاقة مع الله، قد ينظر إلى الله على اعتبار أنه مصدر الخير، وهو كذلك فعلًا مصدر كل الخيرات. ولكن الذي صار الله نصيبه، يرى أن الله هو الخير ذاته، وهو الخير الوحيد.. إنه لا يبحث عن النعيم خارجه، أو كمكافأة منه، إنما يرى أن الله هو النعيم الحقيقي الذي نتمتع به.

إنه كل شيء في الأبدية. وليست الأبدية نعيمًا سواه.

إنه هو شجرة الحياة التي نتغذى بها، وهو الْمَنِّ الْمُخْفَى، هو خبز الحياة، هو ماء الحياة الذي كل من يشرب منه، لا يعطش إلى الأبد. هو الحياة ذاتها، من يثبت في الحياة. وهو الحق، من يعرفه يعرف الحق، والحق يحرره. هو النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسان، وهو الحكمة، وهو المتعة الحقيقية.

إن الله سوف لا يمنحنا شيئًا معينًا يسعدنا في الأبدية، إنما هو نفسه الذي يسعدنا. وكل من يقترب منه، يقترب من السعادة، ومن يذوقه يذوق السعادة والحب..

أترانا، حتى في الأبدية، سننشغل بشيء غير الله، أو يسعدنا شيء غير الله؟! حاشا، فالله الذي اخترناه نصيبنا هنا، سيكون هو نصيبنا أيضًا هناك..

أما كيف تكون متعتنا الدائمة به، فهذا سر الملكوت..

هذا هو " ما لم يخطر على قلب بشر"، لأن كل ما نتمتع به على الأرض في صلتنا بالله ومذاقتنا له، سوف لا يقاس مطلقًا بالمجد العتيد أن يستعلن فينا، حينما نعرفه المعرفة الحقيقية وننمو كل حين في معرفته، فقد قال الإبن للآب “هذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك..” (يو3:17).

إن كان الله هكذا هو نصيبك، فلا يمكن أن تخطئ..

إن كان الله مالئًا كل قلبك وفكرك، وإن كان هو كل حبك وكل هدفك، فكيف يمكن إذن أن تخطئ؟!.. أمر غير معقول، لأن الخطيئة هي أنحراف عن محبة الله، إلى محبة أخرى ضده. ولكن إن كان هو نصيبك، وهو كل هدفك وآمالك، وهو كل اشتياقات قلبك، إذن لا تستطيع حينئذ أن تخطئ، والشرير لا يمسك. بهذا أولاد الله ظاهرون (1يو9:3، 10).

إن محبتك لله، لا تعطى مجالًا إطلاقًا لأية خطية. وهنا لست محتاجًا إلى تداريب كثيرة على وصايا عديدة. تكفيك محبته، فهي تدريبك الوحيد.

وهنا يظهر الفرق بين الناموس والنعمة..

الذي ما زال تحت الناموس، يجاهد بكل قوة لكي ينفذ الوصية. أما إن دخل في نطاق الحب الإلهي، وصار الله نصيبه، حينئذ يحرره الحب من عبودية الناموس. فيفعل كل خير من خلال محبته لله. ومن خلال محبة الله، يحب الفضيلة أيضًا، ويحب الوصية، ولا تصير وصايا الله ثقيلة عليه، ولا تحتاج منه إلى مجهود..

إن النعمة لم تلغ الوصية، ولم تلغ الناموس. ولكن كل الوصايا قد دخلت في دائرة الحب، وأصبح تنفيذها في مجال التعبير عن هذا الحب، ولم تعد أوامر ونواهى. فالرب يقول “من يحبني، يحفظ وصاياي”. شيء طبيعي من نتائج الحب.

وهكذا إن صار الله نصيبك، لا تعرج بين الفرقتين..

لا تكن مع الله في يوم، وبعيدًا عنه في يوم آخر. فالقلب الثابت في الحب، لا يتزعزع، ولا ينحرف، ولا يتحول عن هدفه الإلهي. ولذلك يقول لنا الرب “إثبتوا في محبتى” (يو9:15)، “إثبتوا في، وأنا فيكم، كما يثبت الغصن في الكرمة، ويأتي بثمر” (يو15).

فهل إنت تشبه هذا الغصن الثابت في الكرمة..

هذا الغصن الذي تسرى عصارة الكرمة في عروقه وتعطيه حياة، وبهذا الثبات يشابه الكرمة في كل شيء، ويعطى ثمر الكرمة ذاتها..

هذا الغصن صارت الكرمة نصيبه، إن انفصل عنها، إنفصل تمامًا عن الحياة، وجف ومات وألقى إلى الحريق. أما في ثباته في الكرمة، فإنه ينتعش ويحيا، وينمو أيضًا. وهكذا قال الرب “أنا الكرمةوأنتم الأغصان” (يو5:15).

وبهذا إن كان الله نصيبك، فإنه يكون داخلك..

مثل عصارة الكرمة التي تكون داخل الغصن. ومثلما قال الرسول “أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله ساكن فيكم” (1كو6:3). وإن كان الله فيك، فلست تبحث عنه خارجًا.. إن قيل لكم إنه هنا أو هناك، فلا تصدقوا (مت24). إنه داخلكم “أنا فيهم” (يو23:17).

يا من اتخذت الله نصيبًا، هل تحس بوجوده فيك؟

هل أنت ثيئوفورس، أي حامل الله؟

هكذا تلقب القديس أغناطيوس الأنطاكى، وهكذا كل مؤمن حقيقي يسكن الله في قلبه، ويشعر بِسُكْنَى الله فيه، حيثما أقام وحيثما ذهب.. إنه حامل الله.

ليتك تصلى إذن، وتقول للرب: فلتكن أنت يا ربي هو نصيبى الوحيد، ولا نصيب لي غيرك. خذ كل ما عندي، واعطنى ذاتك، أعطنى فضل معرفتك. لستأريد أن أطلب منك طلبات كثيرة، فأنا أريدك أنت وحدك. أريد أن يفقد كل شيء قيمته في نظرى، وتبقى أنت القيمة الوحيدة التي أهتم بها. فأحبك أنت الإله الساكن في قلبي، وليس مجرد الله الذي أقرأ عنه في الكتب..

أمثلة من القديسين الذين اتخذوا نصيبًا لهم:

أ‌- بطرس الرسول في قوله “تركنا كل شيء وتبعناك” (مت27:19)، معبرًا عن حالة الرسل كلهم، الذين تركوا أهلهم وبيوتهم وعملهم، وساروا وراء الرب، الذي صار نصيبهم..

ب- بولس الرسول صار أيضًا واحدًا من هؤلاء، في عبارته الجميلة “خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية، لكي أربح المسيح، وأوجد فيه” (فى8:3). كل شيء فقد قيمته إلى جوار الرب في نظر بولس، لذلك قال " ماكان لي ربحًا، فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة، من أجل فضل معرفة المسيح ربى" (فى7:3).

ج- وهذا ما يقوله المزمور لكل نفس صارت عروسًا للرب " إسمعى يا إبنتى وانظرى وأميلى أذنك، وأنسى شعبك وبيت أبيك، فإن الرب قد اشتهى حسنك وله تسجدين" (مز10:45).

د- وكانت أمنا رفقة، التي تركت بلادها واهلها، وسافرت مع ألعازر الدمشقى، لتحيا مع إسحق، رمزًا للنفس البشرية التي تترك كل شيء لتحيا مع المسيح، كنصيب لها..

هنا ونتذكر عبارة جميلة قالها داود النبي وهي:

معك لا أريد شيئًا على الأرض” (مز25:73).


يُمكنك قراءة كتاب الله وكفى على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


4- معك لا أريد شيئًا على الأرض 🔗

معك لا أريد شيئًا على الأرض (مز25:73).

الذي يحب الله بعمق، يصل إلى درجة الإكتفاء بالله..

الله يملأ قلبه وفكره وكل أحساسه ومشاعره، ويشبعه، فيشعر بالإكتفاء، ويقول مع داود " فلا يعوزنى شيء" (مز1:23).. ويشعر أنه لا يستطيع أن يضيف شيئًا في قلبه إلى جوار الله. فيعيش سعيدًا مع الله، ويقول له في حب “معك لا أريد شيئًا على الأرض”.

بهذا المثال عاش آباؤنا القديسون، وقد أشبع الله حياتهم.

1- ولنأخذ داود النبي كمثال 🔗

كان ملكًا، بكل ما يحيط الملك من سلطة وعظمة في ذلك الزمان. وكان قائدًا للجيش، وقاضيًا للشعب، ورب أسرة كبيرة. وكان محترمًا من الكل، ومسيحًا للرب. ويبدو أنه ما كان ينقصه شيء من خيرات الدنيا ومتعها.. ومع ذلك ما كان شيء من هذا يشبع قلبه حقًا، بل يلقى بكل هذا وراء ظهره ويقول:

“واحدة طلبت من الرب وإياها ألتمس..” ما هي هذه الواحدة التي تنقصك إيها الملك العظيم مسيح الرب؟ يقول “واحدة طلبت من الرب وإياها ألتمس، أن أسكن في بيت الرب.. وأتفرس في هيكله” (مز4:27).. هناك في هذا الموضع المقدس، كان يطلب الرب ويقول:

“طلبت وجهك، ولوجهك يا رب ألتمس.لا تحجب وجهك عني” (مز8:27، 9).

أهذه طلبتك الوحيدة؟ وماذا عن الملك والجيش والقضاء والأسرة والغنى؟ كلا يا رب، معك لا أريد شيئًا على الأرض “يا الله أنت إلهى إليك أبكر، عطشت نفسي إليك” (مز1:63) “إلتصقت نفسي بك”،“باسمك أرفع يدي، فتشبع نفسي كما من شحم ودسم”،“رحمتك أفضل من الحياة. شفتاى تسبحانك”، “كنت أذكرك على فراشى، وفي أوقات الأسحار كنت أرتل لك” (مز63).

إنه الحب الذي يملأ القلب، يقول فيه:

محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي” (مز119).

وماذا عن مشغولياتك يا داود؟ إنها لا تشغلنى عنك يا رب. “سبع مرات في النهار سبحتك على أحكام عدلك” (مز119)،“في نصف الليل نهضت لأشكرك”، “سبقت عيناى وقت السحر لأتلو في جميع أقوالك”،“كلمات حلوة في حلقى، أحلى من العسل والشهد في فمي” (مز119).

حقًا إن الذي يحب الله، يصغر كل شيء في عينيه..

إن داود لا يغريه قصره ولا عرشه، بل يقول الرب " مساكنك محبوبة أيها الرب إله القوات. تشتاق وتذوب نفسي للدخول إلى ديار الرب.. طوبى لكل السكان في بيتك، يباركونك إلى الأبد" (مز1:84، 4)، “فرحت بالقائلين لي إلى بيت الرب نذهب” (مز1:122)،“إخترت لنفسي أن أطرح على عتبة بيت الرب” لماذا؟ “لأنيومًا صالحًا في ديارك خير من آلاف” (مز10:84).

حقًا “معك لا أريد شيئًا على الأرض”.. إن هذه العبارة هي اختبار حقيقي للقلب ومدى علاقته بالرب. لنأخذ مثالًا آخر:

2- أبونا إبراهيم، بهذا الاختبار كانت دعوته 🔗

لما دعاه الله، قال له “إذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك” (تك1:12). وترك إبراهيم وطنه وعشيرته وبيت أبيه، وقال للرب في قلبه “معك لا أريد شيئًا على الأرض”. وخرج وراء الرب، وهو كما يقول الرسول"لا يعلم إلى أين يذهب" (عب8:11)، يكفيه أنه كان ذاهبًا وراء الرب.

لم يهتم بالمكان الذي يذهب إليه، ما هو وأين هو، إنما كان تفكيره في الرب الذي يذهب معه.

لما صحبه تارح أبوه، تعطل بسببه بعض الوقت في حاران (تك31:11). ولما صحبه لوط إبن أخيه، حدثت مخاصمة بين رعاة هذا وذاك. ولما فارقه واختار أخصب أرض في المنطقة بدأت البركة تتضاعف على ابرآم.

كيف تعيش يا إبرآم، وقد أخذ لوط أرضًا “كجنة الله كأرض مصر” (تك11:13). وترك لك القفر؟ يقول إبرآم: أنا مع الله، لا أريد شيئًا على الأرض. يكفينى الرب ونعمته. وفعلًا باركه الرب، وقال له " إرفع عينيك وانظر.. جميع الأرض التي أنت ترى، لك أعطيها.." (تك14:13، 17). وعاش ابرآم غريبًا، عقيمًا، ولكن مع الرب غربته كانت تتمثل في حياة الخيمة، وعلاقته بالرب كانت تتمثل في المذبح الذي يبنيه في كل موضع.

وهذا الرجل الغريب، المكتفى بالرب، هوالذى خلص لوطًا من السبى (تك14)، واستقبله ملك سادوم، وملك ساليم، ملكي صادق الذي باركه (تك18:14).

ولكن هل حدث في وقت ما، أن مبدأ “معك لا أريد شيئًا على الأرض” إهتز في قلب أبينا إبرآم ولو قليلًا؟ نعم، حدث أنه اشتهى أن يكون له إبن..

ولما اشتهى أن يكون له إبن، وقع في تجارب..

تجربة هاجر (تك16)، وتجربة قطورة (25). وحتى لما ولد له إسحق من سارة، أتته تجربة أخرى، إذ اختبره الله فيه، وقال له “يا إبراهيم.. خذ إبنك وحيدك الذي تحبه، إسحق.. وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك” (تك2:22). واذا بإبراهيم الذي عاش بمبدأ “معك لا أريد شيئًا على الارض”، إبراهيم الذي يحب الله الحب كله، أخذ إسحق إبنه، وبكر صباحًا جدًا

وأخذ معه الحطب والسكين. وربط إبنه فوق الحطب، ورفع السكين ليقدمه ذبيحة.. لذلك بارك الله هذا الإنسان الذي أحبه أكثر من إبنه الوحيد، وبنسله تباركت جميع قبائل الأرض.

كان قلب إبرآم مركزًا في الله، أكثر مما في إسحق..

قال السيد المسيح"..ومن أحب إبنًا أو إبنة أكثر منى، فلا يستحقنى" (مت37:10)، ونفذ أبونا إبراهيم هذه الوصية قبل أن يقولها المسيح بأجيال طويلة..

كان الله بالنسبة إليه أكثر من العشيرة والوطن والأهل والإبن الوحيد.. إنها فضيلة للإنسان أن يحب أهله، ولكنهم لا يكونون شركاء الله في قلبه.

داخل محبة الله، نعم. ولكن إلى جوارها، لا..

الإنسان الروحي يحب جميع الناس كجزء من محبته لله. ولكنه لا يحب أحدًا، يشارك الله في حبه، أو ينافس الله في حبه، أو يجلس في القلب إلى جوار الله!

الله لا ينافسه أحد في الحب، ولا ينافسه شيء..

ولذلك فالمحبة الحقيقية نحو الله يلزمها التجرد. وفي هذا قال الكتاب “لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الآب.. والعالم يمضي وشهوته معه” (1يو15:2، 17). وقيل أيضًا “محبة العالم عداوة لله” (يع4:4)، لا يستطيع أحد أن يعبد ربين أو يخدم سيدين. إما الله، وإما العالم.. وقد قال الكتاب في ذلك:

أية شركة للنور مع الظلمة” (2كو14:6).

الله هو النور الحقيقي. وكل ما هو خارج الله ظلمة. كل ما يتعارض مع الله ومحبته ظلمة. ونحن قد دعينا أن نكون أبناء النور، لا نشترك في أعمال الظلمة..

والظلمة متفاوته في درجاتها، أبشعها الخطية. على أن التفاهات أيضًا والماديات، إن كانت تبعدنا عن الله فهي ظلمة أيضًا، ليس لنا أن ندخلها إلى قلوبنا.

ويبقى الله وحده، ومعه لا نريد شيئًا على الأرض. نحارب كل شهوه وكل فكر فيهما تعطيل لمحبة الله. ويبقى الله وحده، كما تقولون في الترتيلة:

ليس لي رأى ولا فكر ولا شهوة أخرى سوى أن أتبعك

لهذا فأولاد الله، قد يملكون المال، ولكنه لا يملكهم..

قد يستعملون العالم، وكأنهم لا يستعملونه (1كو31:7)،“لأن هيئة هذا العالم تزول”. فلا يوضع العالم إلى جوار الله.

3- مثال آخر نذكره هنا، هو لوط، ثم امرأته 🔗

لوط لم يصل إلى التجرد الذي يحب فيه الرب من كل القلب، والذي يقول فيه"معك لا أريد شيئًا من العالم". لذلك إختار الأرض المشبعة، ولم يختر المكان الذي يستطيع فيه أن يحيا مع الله! فماذا كانت النتيجة؟ كانت أنه سبى (تك14)، وفقد كل أملاكه. تم أنقذه إبرآم. وأيضًا لوط لم يتعلم درسًا، وكان البار يعذب نفسه يومًا فيومًا بمناظرالأشرار.وأخيرًا فقد كل شيء في حرق سادوم.

وهنا ظهرت توبة لوط ورجوعه إلى الله. فلما دعاه الملاكان أن يخرج من المدينة ويهرب إلى الجبل (تك19)، لم يقل أملاكى وأغنامى ومالى وأنسبائى، إنما رضخ أخيرًا وقال للرب “معك لا أريد شيئًا من العالم”.وخرج من سادوم صفر اليدين لا يملك شيئًا، يكفيه الرب الذي سيبدأ معه من جديد، من لا شيء…

أما زوجة لوط، التي لم تدخل إلى قلبها عبارة"معك لا أريد شيئًا من العالم"

فقد نظرت إلى الوراء، إلى العالم الذي تعلق به قلبها، فصارت عمود ملح.. صارت درسًا لكل من يضع إلى جوار الله شهوة أخرى يتعلق بها..

4- من الأمثلة الجميلة: تلاميذ المسيح ورسله 🔗

سمعان وأندراوس اللذان"تركا شباكهما وتبعاه" (مر18:1). ويوحنا ويعقوب إبنا زبدى، اللذان" تركا أباهما زبدي في السفينة مع الأخرى وذهبا وراءه" (مر20:1). ومتى الذي ترك مكان الجباية، ولم يحفل بمسئولياته.والباقون الذين تركوا بيوتهم وزوجاتهم. وقلب كل منهم يردد عبارة “معك لا أريد شيئًا على الأرض”. وبولس الرسول، الذي ترك مركزه الكبير وسلطته، وتحمل الآلام لأجل المسيح قائلًا:“خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح”، هكذا أيضًا كانت تربطه بالرب عبارة “معك لا أريد شيئًا على الأرض”.

كلهم، بعد أن تركوا كل شيء، لم يندموا على شيء..

شعور كل منهم: كيف أريد شيئًا من العالم، بعد أن أشرق على قلبي هذا النور العظيم، وبعد أن تعرفت على الرب، الذي هو أسمى من كل شيء، الذي وهبته قلبي، فصرت أنا كلى له، وصار هو لي.

5- مثال آخر، هو الرهبان، وتاجر الجواهر 🔗

الرهبان الذين عاشوا حياة التجرد الكامل، حياة النسك والزهد، لا يملكون شيئًا، بل قد نذروا الفقر الإختيارى، وارتفعوا فوق مستوى البيت والأولاد، وفوق مستوى المادة، وجالوا في البرارى والقفار، معتازين

هؤلاء من عظم محبتهم للملك المسيح، قالوا له “معك لا نريد شيئًا من العالم”..

منهم أمراء تركوا الملك، مثل الأميرين مكسيموس ودماديوس. وأصحاب مناصب كبيرة تركوا مناصبهم، مثل الأنبا أرسانيوس معلم أولاد الملوك. وأغنياء تركوا غناهم مثل العظيم الأنبا أنطونيوس. ومتزوجون تركوا زوجاتهم مثل الأنبا آمون والأنبا بولس البسيط.. كلهم قالوا للرب “معك لا نريد شيئًا على الأرض”..

لعل هذا يذكرنا بمثل التاجر الذي قال عنه السيد المسيح " يشبه ملكوت السموات إنسانًا تاجرًا لآلئ حسنة. فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ما كان له واشتراها" (مت45:13، 46). هذه اللؤلؤة الكثيرة الثمن، هي الحياة مع الله، وعشرته والتمتع به، التي من أجلها يبيع الإنسان الحكيم كل ما يكون له، ويقول للرب يكفينى أنت، معك لا أريد شيئًا على الأرض..

ما أجمل المبدأ الرهبانى: الإنحلال من الكل، للإرتباط بالواحد.

أي أن القلب ينحل من كل شيء، ومن كل أحد، لكي يرتبط بالواحد الذي هو الله. وهذا الواحد، هو الذي يشبعه ويملأ كل كيانه، ويكون سبب سعادته وفرحه. هكذا عاش الآباء، بفكر منشغل بالله وحده..

6- مثال مريم ومرثا 🔗

زارهما السيد المسيح في بيتهما. فانشغلت عنه مرثا بشئون الضيافة، وهي تظن أنه تفعل خيرًا من أجله. أما مريم فجلست عند قدميه، تتأمله وتستمع إليه، مركزة كل عواطفها فيه، ولسان حالها يقول" معك لا أريد شيئًا على الأرض". وقد طوبها السيد المسيح بقوله عنها إنها اختارت النصيب الصالح. أما مرثا فقال لها الرب:أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، والحاجة إلى واحد (لو41:10). لعل مرثا ينطبق عليها قول ذلك الأديب الروحي:

“قضيت عمرك تخدم بيت الرب، فمتى تخدم رب البيت” حتى الخدمة لا يجوز أن تشغلنا عن عشرتنا بالرب، كما سنشرح في صفحات مقبلة إن شاء الله. أما الآن فننقل إلى مثل آخر هو:

7- موسى النبي، بين القصر والبرية 🔗

موسى النبي كان يعيش في قصر ملكي، وكان معتبرًا أحد الأمراء، إبن إبنة فرعون، وكان يحيط به الغنى والجاه والسلطان. ولكن كل ذلك لم يدخل إلى قلبه، بل كان قلبه متعلقًا بملكوت الله. لذلك وضع في قلبه أن يعيش للرب ويقول له “معك لا أريد شيئًا من العالم” “حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر” “منفصلًا بالأحرى أن يذل مع شعب الله، على أن يكون له تمتع وقتى بالخطية” (عب25:11، 26). وهكذا عاش مع الله كراعى غنم في البرية، وكتائه مع الشعب في سيناء، تاركًا متع الحياة في قصر فرعون، فمع الله ما كان موسى يريد شيئًا على الأرض.. لذلك استحق أن يكون كليم الله، وأمينًا على كل بيته (عد7:12)، “فمًا إلى فم وعيانًا يتكلم الله معه، وشبه الرب يعين”. هكذا صارت علاقته مع الله..

ولأنه مع الله لم يكن يريد شيئًا على الأرض، لهذا صار له الله نفسه، يتحدث معه أربعين يومًا على الجبل، ويصيره وسيطًا بينه وبين شعبه، ويقبل شفاعته فيهم، بل يجعله ينير معه على جبل طابور في التجلى.

8- مثال آخر نتعلمه من أخطاء سليمان ورجوعه 🔗

كان سليمان ملكًا عظيمًا جدًا، أعطاه الرب عظمة وجلالًا ملكيًا أكثر من جميع الذين كانوا قبله في أورشليم، ومنحه حكمة. ولكن سليمان على الرغم من حكمته لم يقل للرب " معك لا أريد شيئًا على الأرض"، بل إنه على عكس ذلك قال “بنيت لنغسى بيوتًا، غرست لنفسي كرومًا، عملت لنفسي جنات وفراديس.. عملت لنفسي برك مياة.. قنيت عبيدًا وجوارى.. جمعت لنفسي أيضًا فضة وذهبًا وخصوصيات الملوك والبلدان، واتخذت لنفسي مغنيين ومغنيلت، وتنعمات بنى البشر سيدة وسيدات.. ومهما اشتهتهعيناى، لم أمسكه عنهما” (جا4:2، 10).

وفرح سليمان بكل تعبه هذا، الذي لم يكن مصدره الله، ولا محبته وعشرته. وفي كل ذلك أخطأ، حتى أصبح موضوع خلاص سليمان تحيطه علامة استفهام كبيرة..! وماذا عن كل تعبه؟ لقد صار كل هذا التعب باطلًا، وذكرتنا قصته بلوط في سادوم.

حصاد السنين كلها، الذي أضاعه لوط في نار سادوم: السعى وراء الأرض المشبعة، ولو أدى ذلك إلى ترك مذبح إبراهيم وعشرته، الكد والكفاح من أجل الثروة، إحتمال البيئة الفاسدةوعثراتها والتزاوج مع الاشرار.. كل ذلك حرقته النار، وخرج منه لوط بلا شيء.. تمامًا مثل كل تعب سليمان، الذي ختمه بعبارة " الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس".. حقًا إن العلاقة مع الله هي الثابتة والخالدة، وهي النافعة في هذا العالم وفي العالم الآخر. وماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟!

9- إن أعظم مثال بشرى نضعه لعبارة “معك لا أريد شيئًا على الأرض” هو مثال آبائنا الشهداء 🔗

الذين أحبو الله، ليس فقط أكثر من كل متع الأرض، وإنما أكثر من الحياة ذاتها، فقدموا حياتهم من أجله، واثقين بأن هذه الحياة لها امتداد معه هناك في الأبدية. وهكذا تركوا الدنيا كلها بكل ما فيها، ومعه لم يريدوا شيئًا على الأرض، ولا حتى أن يعيشوا فيها..

إن الذي يحب الله، ويكتفي به، يكون مستعدًا أن يترك أي شيء من أجله، أو كل شيء من أجله..

10- والذي يترك من أجل الرب، يعوضه الرب أضعافًا 🔗

هوذا الرب يقول"كل من ترك بيوتًا، أو أخوة أو أخوات، أو أبًا أو أمًا، أو إمرأة أو أولادًا، أو حقولًا، من أجل إسمى، يأخذ مئة ضعف، ويرث الحياة الأبدية" (مت29:19). هذا من جهة الجزاء. على أن الذين يتركون شيئًا من أجل الرب، إنما يتركونه ليس من أجل الجزاء، إنما من أجل محبتهم للرب التي ملكت كل قلوبهم، بحيث زهدوا كل شيء، وقالوا للرب: معك لا نريد شيئًا على الارض.

11- هذه العبارة ليست في مجال الحب فقط، إنما المعونة أيضًا 🔗

بهذه العبارة استطاع يعقوب الضعيف الخائف، أن يتقابل مع أخيه عيسو القوى العنيف، الذي كان معه أربع مئة رجل (تك6:32). أما يعقوب فلم يكن معه مثل هذا الجيش، وليس غير نسائه وأولاده وعبيده وإمائه. ولكن كانت له هذه الصلاة " نجنى من يد أخي، من يد عيسو، لأني خائف منه.. وأنت قلت لي: إني أحسن إليك، وأجعل نسلك كرمل البحر" (تك11:32، 12). أنا أعتمد على قوتك أنت يا رب، ومعك لا أريد شيئًا على الأرض.

الإنسان الروحي يرى أن الله هو راعيه وحاميه وحافظه:

إن أحاطت به مشكلة، يحيلها إلى الله، فالله هو الذي يحل مشاكله، وليس هو. يقول للرب: من أنا، وما هي قوتى، وما هو فهمى حتى أحل مشاكلى؟ أنت يا رب تعرف مشاكلى أكثر منى، تعرف الخفيات والظاهرات، المشاكل الواضحة لي، والمشاكل المستترة عني، والمشاكل المقبلة في الطريق.

بحكمتك يا رب تستطيع أن تحل كل مشكلة. وبمحبتك تريد، لأني أثق تمامًا أنك تحبنى أكثر مما أحب نفسي، وتحرص على أكثر مما أحرص على ذاتى. أنا طفل أمامك “وحافظ الأطفال هو الرب” (مز6:116). لذلك أترك كل شيء في يديك، واستريح بالإيمان، واثقًا أنه عندك حلول كثيرة، وواثقًا بأنه “إن لم يبن الرب البيت، فباطلًا تعب البناءون. وإن لم يحرس الرب المدينة، فباطلًا سهر الحراس” (مز1:127).

ما دمت يا ربي ترى تعبى، فهذا يكفينى. أنت يا ضابط الكل، الذي تحفظ العدل على الأرض، وأنت مريح التعابَى، تحمل أوجاعنا وآلامنا. لست أشغل نفسي مطلقًا بمشاكلى، إنما أتركها في يديك"ومعك لا أريد شيئًا على الأرض".

الذي يلتقى بالله، لا يحتاج لقوة خارجية. قوته هي الله..

لذلك فهو يقول مع المرتل “قوتى وتسبحتى هو الرب، وقد صار لي خلاصًا لي خلاصًا” (مز14:118). قوته هي الرب نفسه. لا أسلحة العالم، ولا المعونة البشرية " فالاتكال على الرب خير من الاتكال على البشر" (مز118).

ولهذا يقول المرتل أيضًا “إلهنا ملجأنا وقوتنا، ومعيننا في شدائدنا التي أصابتنا جدًا.. الرب إله القوات معنا. ناصرنا هو إله يعقوب” (مز1:46، 7).

هذا الذي يرى أن قوته هي الله نفسه، لا يتكل على ذاته، على مواهبه وذكائه وامكانياته، ولا يتكل على ذراع بشرى، أو على حيل بشرية، إنما يكفيه الله وحده، يحارب به، وينتصر به، ويقوده الرب في موكب نصرته.

لا يفكر كيف يتكلم، فالله هو الذي يتكلم على فمه"لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (مت20:10). ولستم أنتم الذين تدافعون عن أنفسكم، بل “قفوا وانظروا خلاص الرب. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون” (خر13:14، 14). الرب هو قوة لكم. وهو خلاص لكم. والذي يكتفى بالله، لا تعوزه قوة أخرى. بل يقول للرب “معك لا أريد شيئًا على الأرض”.

12- وبهذا المبدأ تقدم داود الصبي لمحاربة جليات الجبار 🔗

شاول الملك قدم لداود الأسلحة والملابس الحربية، ولكنه تركها ولم يستعملها. وتقدم إلى جليات قائلًا “أنت تأتي إليَّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود” (1صم45:17). نعم يا رب، أنا لا أملك أسلحة مثله، ولكن معي اسمك وقوتك. ومعك لا أريد شيء على الأرض.. وحارب داود بهذه القوة الإلهية التي أغنته عن كل أسلحة الحرب، لأن الحرب للرب (1صم47:17). وهو الغالب في الحروب.

13- وجدعون في هذا الأمر، علمه الرب درسًا 🔗

لقد جمع 32 ألفًا لكي يقاتل جيش المديانيين، ولكن الرب رأى هذا العدد كثيرًا، لئلا الشعب إذا انتصر، يظن أنه بقوته وعدده قد انتصر وليس بالرب (قض2:7). وهكذا ظل الرب ينقص العدد وينقيه حتى وصل إلى ثلاثمائة فقط، حارب بها جدعون وغلب، لكي يعرف أن القوة هي من الله، وما دام الله معه، فلا يحتاج إلى قوة جيش لكلا ينتصر، إنما معه لا يريد شيئًا على الأرض، لا يعد قوة بشرية إلى جوار الله.

14- ومع الله أيضًا، لا نحتاج إلى حكمة بشرية 🔗

كثيرًا ما يعتمد الحكماء على حكمتهم وفهمهم، وليس على الله الذي يقول “وعلى فهمك لا تعتمد” (أم5:3). لذلك إن سرت مع الله، فلا تبحث عن ذكائك أو حكمتك، لأن الله"إختار جهال العالم، ليخزى بهم الحكماء. واختار ضعفاء العالم ليخزى بهم الأقوياء..لكي لا يفتخر كل ذى جسد أمامه(1كو27:1-29)

إن داود النبي قال"ومعك لا أريد شيئًا على الأرض"، قال قبل ذلك مباشرة، في نفس المزمور"وأنا بليد ولا أعرف. صرت كبهيم عندك، ولكني معك في كل حين. أمسكت بيدى اليمنى. برأيك تهدينى.وبعد إلى مجد تأخذنى."

(مز22:73، 24). ليس حكمتى هي التي تهدينى إليك، إنما أنت تمسك بيدى، وبرأيك تهدينى. ومعك لا أريد شيئًا..

15- مرقس الرسول في كرازته، كان مثالًا أيضًا 🔗

جاء يكرز في مصر، بلا أية معونة بشرية، وبلا أية إمكانيات. لم تكن له فيها كنائس، ولا مؤمنون، ولا أية إمكانيات مادية. وعلى العكس كانت هناك عوائق من الديانات الراسخة، ومن الفلسفات القوية، ومن السلطة الرومانية.. ولكن مار مرقس الذي دخل الإسكندرية ماشيًا، وبحذاء مقطوع، قال للرب في كرازته “معك لا أريد شيئًا على الأرض”.. وقد كان. وبمعونة الرب وحده، تمم هذا الرسول خدمته، وكرز بالكلمة، وأوجد لله شعبًا..

16- وكذلك أيضًا الرسل الإثنا عشر في خدمتهم 🔗

أرسلهم الرب بلا كيس ولا مزود، بلا ذهب ولا فضة ولا نحاس في مناطقهم (مت10). ومع ذلك لم يعوزهم شيء. لكي يستطيع كل رسول منهم أن يقول للرب"معك لا أريد شيئًا على الأرض".

وعند باب الجميل، لم يكن مع بطرس شيء يعطيه للمتسول الأعرج. ولكنه قال له: الذي لي إياك إعطيه: باسم يسوع الناصرى قم وامش (أع6:3).. وهكذا كان بسم الاب والابن والروح القدس الرب كافيًا، ومعه لا يريد الرسول شيئًا على الأرض.

17- حتى الذات لا نريدها أيضًا 🔗

في الخدمة، يكفيك الرب، لست تحتاج إلى ذهب ولا فضة، ولست تحتاج إلى حكمة بشرية، يكفيك الرب الذي يعطيك فمًا وحكمة.. وحتى ذاتك أيضًا لست تحتاج. فقد قال الرب “من أراد أن يتبعنى، فلينكر ذاته” (مر34:8).

بل قال أيضًا “من أضاع نفسه من أجلى، يجدها” (مت39:10).

إذا قف أمام الله مجردًا من كل شيء، تكفيك نعمته.قل له في إيمان وثقة"معك لا أريد شيء على الأرض"، “إننى معك في كل حين”.

ولكن هل أنت حقًا لا تريد سوى الله، أم لك أشياء أخرى تريدها؟.. إن كان لك ما تريده إلى جوار الله، فهذا يمثل خطورة في حياتك. فما هي..؟


يُمكنك قراءة كتاب الله وكفى على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


5- نقط الضعف والبدائل 🔗

نقط الضعف والبدائل

أنت تريد أن تكون سعيدًا في حياتك. وللسعادة أسباب. فهل الله هو سبب سعادتك وهو مصدرها؟ أم أن هناك أسبابًا أخرى تسعدك بدلًا من الله.

هذه المصادر الأخرى التي تسعدك، هي نقط الضعف فيك، والشيطان إذا تعرف على هذه المصادر، يحاول أن يتعبك.

أن القلب الزاهد في أمور العالم الحاضر، هو حصن لا ينال. لا يستطيع الشيطان أن يجد مدخلًا إليه، ينفذ منه. ولكن الشيطان يرقبك ويرى ماذا تحب، وماذا تشتهى، وماذا يسعدك؟ لكي يمسكك منه. بل هو أحيانًا يعرض عليك أمورًا، فإذا استجبت لها، تكون قد استجبت له، فيتخذها لمحاربتك.

في الجنه عرض على أبوينا الأولين، أن يكونا مثل الله عارفين الخير والشر وفوجدت الفكرة هوى في قلبيهما، وكانت نقطة ضعف أسقطهما بها الشيطان.

وعلى الجبل، حاول أن يعرف ماذا يسعد المسيح..!

كان السيد يقضى أوقاتًا مقدسة مع الآب، في شركة روحية. فأراد الشيطان أن يعرف: هل يوجد شيء إلى جوار الآب يسعد السيد المسيح، فيغريه، أو يجذبه منه..! وهكذا عرض عليه تجربة الخبز: ما رأيك أن تحول الحجارة خبزًا، فتأكل أنت، وتطعم الناس، وتكسب شعبية عن طريق، وتؤدى رسالتك بهذه الطريقة كمصلح اجتماعي؟! ورفض المسيح الفكرة، لأن له طريقًا روحيًا، يريد به أن يطعم الناس بكل كلمة تخرج من فم الله، لأنه قد جاء لإشباع أرواحهم التي لا تحيا بهذا الخبز.. وهكذا فشلت التجربة الأولى.

فجربه الشيطان بالمناظر الروحية، بأن يلقى نفسه من فوق، وتحمله الملائكه، ويرى الناس فيؤمنون! ثم جربه بالملك، يصير له سلطان على هذه الممالك، وينشر الخير بالقوانين الأرضية.. وفشلت هاتان التجربتان أيضًا، لأن المسيح رفضهما، إذ قد جاء ليخلص ما قد هلك، وذلك بالصليب.

ولم يجد الشيطان شهوة في هذا القلب القدوس النقى. لم يجد نقطة ضعف واحدة يستخدمها. وكما قال الرب “رئيس هذا العالم يأتي، وليس له في شيء”. إنه قلب زاهد، لم تستهوه ممالك الأرض ومجدها، ولا المناظر المبهرة للناس، وتحويل الحجارة إلى خبز.لا أعراض ولا أهداف جانبية، غير الملكوت…

لعبة الشيطان هي أن يجد شيئًا يسعد الإنسان غير الله..

أما النفس الزاهدة التي قوى الله مغاليق أبوابها، وجعل تخومها في سلام، فهي هذه التي لا يعوزها شيء يستطيع العالم أن يقدمه، بل هي مكتفية بالله.

فهل توجد في قلبك أية شهوة أو رغبة، يمكن للشيطان أن يشدك بها؟

إن الشيطان مستعد أن يقدم رغبات، حتى للناسك..

حتى للرهبان، الذين هجروا العالم وكل ما فيه، وزهدوا كل شيء، وماتوا عن العالم، ونذروا الفقر، وصلى الدير عليهم صلاة الأموات.. هؤلاء أيضًا لا ييأس الشيطان منهم، بل يقدم لهم أيضًا رغبات ورغبات..وآمال، وأشياء يحاول أن يتعلق بها القلب..! يضع أشياء في القلب إلى جوار الله..

يريد أن يخرج الإنسان من دائرة الإكتفاء بالله..

فإذا ما الرغبات دخلت وملكت، تبتدئ سعادة الإنسان تهتز، ويبدأ سلامه يضيع.. ويتحول الهدف عنده. بعدما كان هدفه هو الله، تصير له أهداف كثيرة، ويتوه في العالميات، ويبعد عن الله..

ويصبح الله بالنسبة إليه مجرد وسيله لتحقيق أهدافه..

إن أراد الله فهو لا يريده لذاته، وإنما ليحقق له أهدافًا في قلبه يحبها. وإن صلى، فلا يصلى اشتياقًا لله وحبًا، وإنما يصلي لكي يطلب من الله هذه الرغبات التي يحبها.ولا يصبح الله مركز الحب في قلبه، إنما مجرد وسيلة..!

ولنضرب بعض أمثله لأشخاص، إكتشف فيهم الشيطان رغبات معينة، أو وضع هو فيهم هذه الرغبات، وأصبحت نقط ضعف سقطوا بها، ولنبدأ بالأشرار أولًا..

1- آخاب الملك، وشهوة التَمَلُّك 🔗

أراد الشيطان أن يضرب آخاب الملك ضربة تعرضه لغضب الله وتقضى عليه، فعرض عليه أن يأخذ حقل نابوت اليزرعيلي ويضمه إلى أملاكه. وأعجب آخاب بالفكرة. فسيطرت على قلبه وعلى فكره، وأفقدته سعادته وسلامه، ولم يعد يستريح إلا إذا أخذ الحقل. ورفض نابوت، وتدخلت إيزابل.. وكان ما كان من قتل نابوت، ووراثة آخاب له، وتعرضه لنقمة الله. وهلك آخاب. كانت في قلبه شهوة، تمثل نقطة ضعف، يدخلمنها الشيطان..

أما القلب المرتفع فوق مستوى الرغبات، الذي نصيبه هو الرب، والرب وحده، فهذا لا يقدر الشيطان عليه، إذ لا يجد فيه شهوة يلعب بها لعبة المنح والمنع..

إنما يقدر على القلب، الذي تخرجه شهواته عن الله.

2- كانت هذه هي مشكلة يهوذا الإسخريوطي أيضًا 🔗

كان تلميذًا للسيد المسيح، واحدًا من الإثنى عشر، يعيش مع الرب، ويرى معجزاته، ويسمع تعليمه.. ولكن السيد لم يكن له كل شيء. كانت ليهوذا رغبات إلى جوار الرب وضعها في قلبه.كان يحب المال الذي يوضع في الصندوق الذي معه.لم يعد الرب هو الكل بالنسبة إليه، كما كان بالنسبة إلى الأحد عشر الباقين. وإذ لم يستطع يهوذا أن يخدم سيدين، ضحى بالرب وهلك..

3- وبنفس الأسلوب، كانت هذه هي المشكلة اليهود مع المسيح 🔗

كانوا ينتظرون المسيا، أي المسيح. ولكنهم ما كانوا يحبونه لذاته ويركزون فيه عواطفهم، إنما كانوا يريدونه كمجرد وسيلة لتخليصهم من الحكم الأجنبى، من سطوة الرومان، وليؤسس لهم إمبراطورية تعيد حكم داود وسليمان..

كانت هناك في قلوبهم رغبة غير الرب، رغبة في العمق.وما كان الرب في قلوبهم سوى شيء جانبى لتحقيق هذه الرغبة التي هي الأساس. ولذلك حينما دخل المسيح إلى أورشليم في يوم أحد الشعانين، ونادوا به ملكًا، لم ينادوا به كذلك حبًا له، إنما حبًا لأنفسهم “ولمملكة داود الآتيه”. الذات كانت هي الأساس، والمملكة والحكم والخلاص من الأعداء، كل ذلك كان هو الأساس، وليس المسيح.. ولهذا، فإنه لما أعلن المسيح أن مملكته هي مملكة روحية، ليست من هذا العالم، انفضوا عنه ودبروا لقتله في نفس الأسبوع!

وأنت، هل الرب بالنسبة إليك هدف أم وسيلة؟

عظمة القديسين كانت تكمن في الإكتفاء بالله..

كان الله هو هدفهم، وهدفهم الوحيد، وقد ركزوا كل عواطفهم فيه. ولم تكن لهم رغبات إلى جواره تمثل نقط ضعف يستخدمها الشيطان لإسقاطهم. لذلك سهل عليهم أن يتركوا كل شيء من أجله، بكل رضى وفرح.

لم تكن لهم أهداف إلى جوار الله، أو بدلًا من الله..!

إن الأشرار لهم نقاط ضعف، من رغبات تحاربهم، كما ذكرنا أمثله من آخاب الملك، ويهوذا الإسخريوطي، واليهود صالبى المسيح. ولكن ماذا عن أولاد الله؟

هؤلاء يحاربهم الشيطان ببدائل، تبدو في ظاهرها مقدسة:

ولنذكر الخدمة هنا كمثال..

إنسان يَتَعَرَّف على الله، ويسلك في طرقه، فيشتاق أن يخدم.. والشيطان لا يمنعه مطلقًا من الخدمة، إذ أنه بذلك يكشف حيلته، فيرفضها المؤمن ويقول له “اذهب عني يا شيطان”.. إنما على العكس يقول له الشيطان"إخدم، وأنا معك"..

ويغرقه في خدمات كثيرة، حتى ما يجد وقتًا للصلاة..

تصبح الخدمة كل شيء في نظره، يعطيها كل وقته وكل جهده وكل قلبه، حتى ما يَجِد وقتًا يتمتع فيه بالله.. تسأله: أين صلاتك؟ أين تأملاتك؟ أين قراءاتك الروحية؟ أين الساعات المقدسة التي تنسكب فيها أمام الله، في حُب وخشوع، تفتح له قلبك، وتعطيه من حبك، وتتمتع بحبه..؟!

يقول لك: اعذرني، أنا مشغول.. تحضير الدروس، والإفتقاد، والنادي، والحفلات والرحلات، والصور والجوائز، والندوات، والأمور المالية والإدارية الخاصة بالخدمة، والمكتبة ووسائل الإيضاح.. من أين أجد وقتًا لكل هذا، وكيف أجد وقتًا للصلاة؟ وإن وجدت، سيسرح فكري أثناء صلاتي في كل هذا..!

حسنٌ أن يهتم الإنسان بالخدمة، بكل نشاط وأمانة. ولكن ليس حسنًا أن تصير الخدمة بديلًا لله..

إنها وسيله روحية يُعَبِّر بها عن محبته لله، ويجذب بها الآخرين إلى محبة الله. ولكن لا يجوز مطلقًا أن تبعده الخدمة عن الله. لا يجوز أن تتحول الخدمة من وسيلة إلى هدف. وليس صالحًا للخدام أو للمخدومين أن تجف روحياتهم في مجال الخدمة، عن طريق العمل المستمر الذي لا يجد وقتًا للصلاة والتأمل.

مرثا كانت تخدم الرب، خدمة أبعدتها عن الجلوس عند قدميه والإستمتاع إليه، فقال لها الرب"أنتِ تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، والحاجة إلى واحد". والإبن الكبير كان يخدم أباه “سنوات هذا عددها” ولكن في مشغوليته لم يسمح له بعلاقات محبة ومودة مع الآب، فَكَلَّمَهُ بأسلوب غير لائق (لو28:15-30).

وما أعجب أن تكثر أخطاء الإنسان داخل الخدمة..

ليس فقط، أن المشغولية في الخدمة تبعده عن الصِّلَة المباشرة بالله في الصلاة والتأمل والحب، وإنما ربما باسم “الغيرة المقدسة” يبدأ الخادم حربًا ضد كل ما لا يروقه في الخدمة، وربما يعتبر زملاءه زَوَانًا ينبغي اقتلاعه من حقل الخدمة. وهكذا يشتم ويتشاجر ويعلو صوته، ويدين غيره، ويتهم الآخرين في قسوة وفي غير حب.. ويرى نفسه في كل ذلك بَطَلًا مُدَافِعًا عن الحق! وقد يقارن بين البر الذي فيه، والخطأ الذي في غيره، كما فعل الفريسي مع العشار.

كل ذلك داخل الخدمة وداخل الكنيسة.. وتبحث أثناء ذلك عن علاقة الخادم بالله، فلا تجدها. لقد فقد سلامه الداخلي، وفقد عشرته مع الله، وفقد الحب. وفيما يحاول أن يقتلع ما يظنه زَوَانًا، صار هو مثل الزوان..! وصارت الخدمة هدفًا، بدلًا من الله، وفيها فقد نقاوة قلبه، والكتاب يقول “طوبى لأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله” (مت8:5).

الخدمة الحقيقية الروحية توصِل إلى الله، وليست بديلًا عنه..

لهذا إن وجدت الخدمة قد أبعدتك عن صلواتك وتأملاتك وخلوتك وعشرتك مع الله، أو إن وجدتها قد أَثَّرَت على نقاوة قلبك، أو أفقدتك وداعتك وتواضعك، إعرف أنها قد انحرفت عن الطريق، أو أنه استقلت بذاتها عن الله وصارت هدفًا بدلًا منه..! واحترس منها، وحاول أن تصحح مسارك..

إجلس إلى نفسك، كما كان يفعل أرسانيوس، وافحص نفسك..

كان هذا القديس العظيم يفحص نفسه باستمرار، ليعلم أين هو سائر. كذلك أنت أيضًا، اهدأ إلى نفسك وافحص ذاتك، ما هي علاقتك مع الله، وهل هو هدفك الحقيقي؟ وافحص كل الوسائط الروحية التي تسلك فيها: هل هي تقربك إلى الله؟ أم أنت تسلك فيها بطريقة روتينية سطحية بعيدة عن محبة الله؟ وهل بعض هذه الوسائط صارت هدفًا في ذاتها، أو انحرفت في الطريق؟!

وكما تحدثنا عن الخدمة، نتحدث عن الصلاة والتأمل..

قد تَقِف لتصلي. ولا يمنعك الشيطان من الصلاة، بل يراقبك أثناءها ليعطلك عنها بطريقة تناسب ذكاءه وحيله. فينتهز فرصة ورود تأمل روحي جميل لك أثناء الصلاة، ويقول لك “ما أجمل هذا التأمل. لا شك أنه سيفيد الكثيرين إن سمعوه منك”. فإن أعجبتك الفكرة، يكون قد أنحدر بك من الإنشغال بالله إلى الانشغال بالناس. وهنا يتقدم خطوة أخرى، فيقول لك: “كيف تضمن أن تحتفظ في ذاكرتك بهذا التأمل الجميل إلى نهاية الصلاة. خذ ورقة واكتبه حتى لا تنساه”.

وبهذا يكون قد أَحْدَرَك من الله إلى الناس، ومن الصلاة إلى الخدمة، ويعطل صلاتك بطريقة تقبلها..!

فتترك صلاتك، وتجلس لتكتب تأملاتك! وقد تتكرر العملية أكثر من مرة! وتصبح التأملات بالنسبه إليك، ليست تعبيرًا عن مشاعرك نحو الله وعمق عواطفك من جهته، إنما تصبح وسيله لأجل الآخرين، ويقف الله جانبًا..

ويكون الشيطان قد غير تقييم الأمور في نظرك!

يكون قد أقنعك بأن تعطي الخدمة قيمة أكثر من الصلاة. ويكون قد نقلك إلى الاهتمام بالناس أكثر من محبة الله ويكون قد حطم قيمة الخشوع في الصلاة والتركيز فيها، وجعلك تتركها لتجلس وتكتب. وهكذا يشغلك عن الله بطريقة ما..! وشيئًا فشيئًا يغير تقييم الصلاة تمامًا في نظرك..

وربما يحاربك محاربة من نوع آخر في تأملاتك، ويجعلها مجالًا للكبرياء والمجد الباطل، بدلًا من خدمة الآخرين ومنفعتهم. وذلك بأن تقولها لا بروح الخدمة، إنما بروح التباهى والإفتخار. وإذا بالصلاة والتأمل، قد استخدمها العدو لضررك، ولإبعادك عن الله، وإذا بالخدمة قد أعطاها مفهومًا آخر.

وقد يعطي العمل في فكرك قيمة أكثر من الصلاة!

يلهيك في أي نشاط يسميه “الخدمة”، وقد يكون خاليًا من أي نفع روحي. وبسبب هذا العمل يبعدك عن الصلاة، أو يقول لك إن العمل صلاة! أما صلواتك فلتكن في أي وقت، وفي أي وضع.. وأنت سائر في الطريق، أو وأنت جالس، أو وأنت تتكلم مع الناس، بدون الصلاة الخاشعة المركزة التي تشعر فيها فعلًا أنك واقف أمام الله..

إنها محاربات من العدو، حتى في الوسائط الروحية..

أما أنت يا حبيب الله، فلتكن متيقظًا. وليكن الله أمامك في كل حين. وليكن لك الإفراز الذي تفهم به حيل العدو. فتحتفظ بالله في فلبك على الدوام، وليكن هو هدفك وقمة اهتمامك.

واحترس من الخطايا المُحَبَّبَة، التي تلبس ثوب الفضيلة، والتي تأتيك في ثياب الحملان، غير كاشفة عن حقيقتها..


يُمكنك قراءة كتاب الله وكفى على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا .


6- التدرُّج 🔗

التدرج

إجعل الله هدفًا لك، وتقدم نحوه خطوة خطوة..

طبيعي أنك لا تستطيع أنك تبدأ حياتك الروحية بالكمال، وأن يكون الله هو الكل بالنسبة إليك. ولكن إبدأ بأن تعرف الله، على أن تنمو في هذه المعرفة. وأن تحب الله، وتنمو في هذا الحب. وتعطى الله من قلبك، وتنمو في الإعطاء وتفتح داخلك لله ليسكن فيه، وتوسع مكان سكناه.

درب نفسك أن تترك باستمرار بعض ما تحبه لأجل الله..

إلى أن يأتي الوقت الذي تستطيع فيه أن تترك كل شيء لأجله. خذ الصوم مثلًا: هل هو مجرد ترك طعام شهى لأجل الله؟ كلا، وإنما هذا الصوم هو تمهيد لأن تترك كل ما تشتهيه من أجل الرب. إنه فترة روحية، تقوى فيها الروح على الجسد، لتقترب إلى الله، ويزداد إقترابها يومًا بعد يوم.

وكلما تقل محبتك للعالميات، تزداد محبتك لله. المهم أنك لا تقف عند خطوة معينة، إنما تقدم باستمرار.

كن كالبذرة، التي تصير شجرة، ثم تنمو وتنمو..

قال السيد الرب “هكذا ملكوت الله: كأن إنسانًا يلقى البذار على الأرض، وينام ويقوم ليلًا ونهارًا، والبذار يطلع وينمو وهو لا يعلم كيف، لأن الأرض من ذاتها تأتى بثمر، أولًا نباتًا، ثم سنبلًا ثم قمحًا ملآن في السنبل” (مر26:4-28).

هكذا طبيعة النمو: بذرة، عشب، نبات، سنبل، ثمر..

هات أية بذرة، والقها في الأرض، فإنها لا تتوقف عن النمو. وإن صارت شجرة، تظل الشجرة كل يوم تنمو، بل كل ساعة وكل لحظة. النمو هو طبيعة فيها، سواء لاحظت أنت هذا يوميًا أو لم تلاحظ. طبيعي أنك إذا غبت فترة عنها، وأتيت ستجد النمو واضحًا.. والشجرة لا تمل من الصعود، ولا تتوقف.

كن أنت مثل هذه الشجرة، التي تطلع دائمًا إلى فوق، وتمتد يمينًا ويسارًا. وتتدرج من بذرة تحت الأرض، إلى نبات فوق الأرض، إلى كيان ينمو ويعلو ويكبر، وكمثال حبة الخردل التي تشبه بها الملكوت..

هكذا أنت خذ درسًا من الشجرة التي تنمو. خصص وقتًا لله، واجعل هذا الوقت يزيد هذا الحب يومًا بعد يوم، وتظهر هذه الزيادة واضحة في حياتك وعلاقتك بالله.

ولكن إحذر.. إن لم تستطع أن تنمو، وتوقفت..

إحترس كل الإحتراس، من أن ترجع إلى الوراء..

وحينئذ يقول لك الرب"عندي عليك، أنك تركت محبتك الأولى" (رؤ4:2).

إنها مأساة حقًا، أن محبة الإنسان لله، بدلًا من أن تزداد، تتوقف، ثم تفتر أو تبرد، ويرجع إلى الوراء، ويشتهى يومًا من الأيام السابقة، أيام حرارة الروح، فلا يجدها. ويصرخ قائلًا “يا ليتنى كما في الشهور السالفة، وكالأيام التي حفظنى الله فيها، حين أضاء سراجه على رأسى، وبنوره سلكت في الظلمة” (أى2:29، 3).

إن كنت ترجع إلى الوراء، فمتى تصل أيها الأخ؟ ومتى تصلين أيتها الأخت؟والمشوار أمام كل منكما طويل، والهدف ما يزال بعيدًا.

لقد عرفت الله. هذا حسن جدًا. ليتك تنمو في المعرفة.

لكن لعلك تسأل: ما حدود هذا النمو؟

أن شئت الصراحة، لا حدود..

أنت اصطلحت مع الله بالتوبة، وكونت معه علاقة في النقاوة، وَسِرْت في طريقه بالمحبة، عاشرته وصادقته وأحببته. وماذا بعد؟ يقول الرسول: “ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم. وأنتم متأصلون متأسسون في المحبة، حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين، ما هو العرض والطول والعمق والعلو، وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله” (أف19:3).

“لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله”.. ما أعجبها عبارة!

إننى أقف أمام هذه العبارة مذهولًا، لا أعرف.. كلما حاولت أن أعوض إلى أعماقها، أجدها أعمق من فهمى ومن إدراكى..! حقًا من منا يستطيع أن يدرك “كل ملء الله”..؟ ومن منا يستطيع أن يقترب من هذا الملء..؟ أو على الأقل ملء المحبة، التي تربط الإنسان بالله..؟

أنتقل بكم إلى عبارة أخرى أخف، هي قول الرسول:

إمتلئوا بالروح” (أف18:5)..

ليس فقط أن تكون لك علاقة بالروح، أو خضوع وطاعة للروح، أو أن يحل عليك الروح، بل أن تمتلئ بالروح.. لا يخلو جزء منك من ملء الروح، لا قلبك، ولا فكرك، ولا حواسك.. الروح يملأ كل ما فيك. ما أعظمها درجة..!

فهل وصلت إلى الإمتلاء بالروح؟ هل فرغت ذاتك من كل شيء آخر، لكي يملأ الروح كل ما فيك، فتحيا بالروح، وبالروح تميت أعمال الجسد(رو13:8)؟

أنظر إلى قول القديس يوحنا الرسول في سفر الرؤيا “كنت في الروح، في يوم الرب” (رؤ10:1). ولأنه كان في الروح، رأى السماء مفتوحة، ورأى عرش الله، ورأى السيد المسيح ووجهه كالشمس في قوتها.. كل ذلك، لآنه كان في الروح.. إذن ما معنى عبارة “الإمتلاء بالروح”؟ وكيف يصل الإنسان إليها؟

إن لم تصل إليها، لا تقف. سر نحوها..

إعرف أنك إن كنت سائرًا نحو هدف معين، وقطعت نصف الطريق إليه أو ثلاثة أرباعه. فأنت لم تصل بعد إلى غايتك، فيجب أن تكمل مسيرتك نحو هدفك، بكل أمانة. يعز بك قول المرتل في المزمور الكبير “طوباهم الذين بلا عيب، في الطريق” (مز1:119).

باستمرار كن ماشيًا في الطريق، متقدمًا فيه، ولو خطوة خطوة. تقترب إليه اليوم أكثر من أمس، وباكر أكثر من اليوم، وبعد باكر أكثر من باكر. وقل مع الرسول:

“ليس إني قد نلت أو صرت كاملًا، لكني أسعى لعلي أدرك”.

ويشرح ذلك بقوله “إيها الأخوة، أنا لست أحسب نفسي أنى قد أدركت. ولكني أفعل شيئًا واحدًا، إذ أنا أنسى ما وراء، وأمتد إلى ما هو قدام. أسعى نحو الغرض..” (فى12:3-14). سِرْ مع القديس بولس إيها الحبيب، وامتد معه إلى قدام..

كل يوم يمر عليك، فليقربك إلى الله بالإكثر..

في نموك الروحي، وفي علاقتك بالله، إجعل كل يوم يمر عليك، يزيدك معرفة بالله، ويزيدك حبًا له، والتصاقًا به، وثباتًا فيه. ويزيدك خدمة له وبناء لملكوته. وفيما أنت تقترب كل يوم إلى الله، إحترس من المعطلات التي تقابلك في الطريق.

إحترس من الأهداف الجانبية، التي تعوقك عن الله..

الله هو هدفك الوحيد، وليس لك هدف آخر غيره. ولكن العدو إذ يريد أن يعطلك، يقدم لك- في مسيرتك الروحية- أهداافًا أخرى جانبية، ربما تبدو سليمة أمامك. ولكن القصد منها تعطيلك عن التركيز في الله ومحبته.. فاحترس منها.

صدقنى، إن ملائكة الله في السماء أو وهي “مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب14:1)، هذه الملائكة تعجب جدًا، إذ تجدنا متمسكين بأمور تافهة، جاعلين منها أهدافًا تعطل مسيرتنا نحو الله!

حقًا، إن كل رغبة غير الله، هي رغبة تافهة، ولا يمكن أن تشبع القلب إشباعًا حقيقيًا. وكما قال القديس أوغسطينوس، مناجيًا الله في اعترافاته:

“ستظل قلوبنا قلقة، إلى أن تجد راحتها فيك”.

إن الله إن رآنا بدلًا من الإمتداد إلى قدام، في الطريق إليه، قد توقفنا عند بعض الأهداف الجانبية، فشغلتنا عنه، ووهبناها من الوقت والجهد والصحة والعاطفة والاهتمام، ما كان يجب أن نقدمه إليه هو، الهدف الحقيقي وحده.. فإنه يقول لنا نفس العبارة التي قالها قديمًا للشعب التائه في البرية:

كفاكم قعودًا في هذا الجبل” (تث6:1).

إمتد إذن إلى قدام. ولا تسمح لأى شيء أن يعطلك في الطريق. كل محبة تشغلك عن محبة الله، أو تحاول أن تحل بدلًا من محبة الله في قلبك، وكل رغبة أو شهوة تسبب لك فتورًا في روحياتك، إقلعها والقها عنك.. واحتفظ بالله وحده في قلبك، لا ينافسه شيء، ولا ينافسه أحد..

وليكن الرب معك، يقويك وينميك،

ويقود خطواتك إليه.

آمين.

مشاركة: