كتاب مخافة الله – كتب البابا شنوده الثالث

· · 19445 كلمة · 92 دقيقة قراءة

← بيانات الكتاب: الطبعة الأولى، فبراير 1994 م.، القاهرة، مطبعة الأنبا رويس (الأوفست) بالعباسية، الناشر: الكلية الإكليريكية للأقباط الأرثوذكس، رقم الإيداع بدار الكتب: 9571/1993 م. – الترقيم الدولي: 977-5345-13-8.

ملاحظات عن الكتاب 🔗

نشرت “كنيسة الملاك ميخائيل بدمنهور” سنة 1971 م. نبذة من عظة للأنبا شنوده أسقف التعليم بنفس الاسم (غلاف)، ولكن المحتوى مختلف، وذلك تحت سلسلة “تأملات روحية” (4).

تم مراجعة نص الكتاب لغوياً لتصحيح الأخطاء الإملائية عند إعادة كتابته على الكمبيوتر من قِبَل أبانوب حنا .

يُمكنك قراءة كتاب مخافة الله على هاتفك الأندرويد عبر تطبيق كتب البابا، نزله من هنا

1- مقدمة 🔗

من زمان، وأنا أود أن أنشر هذا الكتاب.

وذلك لكي يقيم توازنًا مع محاضراتي وكتاباتي الكثيرة عن محبة الله وحنانه ورحمته..

لدرجة أنني فكرت أن أجعله الباب الأخير من كتابي عن (المحبة) الذي نشرته في العام الماضي.

ثم فضلت أن أجعله كتابًا مستقلًا..

أولًا: لكي يأخذ حظه من الاهتمام، ولا يتوه وسط الأبواب الأخرى من الكتاب.

ثانيًا: لكي يدخل أيضًا في مجموعة كتب (التوبة).

وقد قدمت لكم من هذه المجموعة ثلاث كتب هي:

حياة التوبة والنقاوة – اليقظة الروحية – السهر الروحي.

فليكن كتاب المخافة هو الرابع في هذه المجموعة.

البابا شنوده الثالث

2- الباب الأول: لماذا نتحدث عن مخافة الله 🔗

لعل البعض يتساءل: لماذا نتكلم عن مخافة الله؟‍! بينما قد بشرتنا الأناجيل بأن الله أب لنا بكل ما تحمل كلمه أب من معاني الحنو؟.. وقد تعود الناس منا أننا كنا نكلمهم باستمرار عن إلهنا الطيب الحنون، الذي يعاملنا بكل شفقة ورأفة. ويقابل خطايانا – إذا تُبنا – بالمغفرة والتسامح فلماذا نتكلم عن المخافة إذن؟

أقول: إن الناس على نوعين: نوع يذيبه الحب.. نوع آخر يستغل المحبة مجالًا للاستهانة والاستهتار.

وحتى الذي تذيب المحبة قلبه على نوعين:

فهناك من يحبون الله، ويعملون كما يليق بالمحبة، بكل قوة وتظهر محبة الله في حياتهم، وفي سلوكهم، وفي طاعتهم لله واتفاق مشيئتهم ورغبة قلوبهم مع مشيئة الله.. وهذا هو النوع المثالي، ولكن ليس جميع الناس مثاليين..

وهناك من يحبون الله، وتنقصهم الإرادة والتنفيذ.

المحبة خاتم على قلوبهم، ولكنها ليست خاتمًا على سواعدهم (نش 8: 6). مثال ذلك القديس بطرس الرسول ساعة الإنكار. لقد أنكر السيد المسيح، ومع ذلك كان يحبه.. وقد قال له بعد القيامة “أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ” (يو 21: 17).

في ساعة إنكاره: أكانت له المحبة، ولم تكن له المخافة؟

أقصد مخافة الله.. لأن بطرس كان وقتذاك خائفًا من الناس أن يضروه بسبب صلته بالمسيح. وكان خوفه من الله في ذلك الوقت أقل من خوفه من الناس.. وحتى محبته لله أثناء تلك التجربة، لم تكن محبة كاملة. لأنها لو كانت محبة كاملة، لانتصرت على الخوف من الناس، وما كان قد أنكر الرب..

يا ليت بطرس في ذلك الوقت، كانت في قلبه مخافة الله..

أما النوع الثاني من الناس، فإنه يخطئ فهم المحبة!

فإذ يعرف أن الله يغلبه حنانه، فيغفر ولا يعاقب، لذلك فهذا النوع لا يخاف، ويخطئ..!

إنه يتدلل على الله تدللًا خاطئًا غير مقبول.

ويقول في نفسه، وربما أمام الناس: ما دُمنا نتعامل مع إله رحوم، إله حنون شفوق طيب، فلا نخاف إذن مهما أخطأنا. لا بُد أن الله سيغفر – إنه غفر للمرأة الزانية، وغفر لمريم المجدلية التي أخرج منها شياطين (مر 16: 9). إلهنا الطيب قَبِل إليه زكا العشار، واختار أيضًا متى العشار رسولًا، وأشفق على الخاطئين..

وهكذا يستهين بمحبة الله، أقصد محبة الله له. أما هو فلا يكون محبًا لله وهو يعصَى وصاياه!

لذلك فالحديث عن مخافة الله لازم جدًا، بالنسبة إلى هذا الجيل الذي نعيش فيه..

ذلك لأننا نعيش في جيل، فقد فيه الناس خوف الله: فمنهم من ينكر وجوده، ومنهم من يهاجمه فينتقد الله ويتهمه. وفي هذا الجيل أيضًا من يتذمر على الله، ومن يكسر وصاياه بكل جرأة وبلا خوف..!

هذا الجيل الذي تفشت فيه الاستباحة وألوان من الاستهتار. وأصبح كثيرون يثورون على القيم والمبادئ، ويسيرون بأسلوب قاضي الظلم الذي قيل عنه إنه كان “لا يخاف الله، ولا يهاب إنسانًا” (لو 18: 2).

نعم، ينبغي أن نتحدث عن مخافة الله في هذا الجيل، الذي نُزِع فيه الخوف من قلوب الكثيرين، حتى من الصغار.

وأصبح لا خوف من أب ولا من أم، ولا من معلم ولا شيخ، ولا من رئيس.. بل هي ثورة حتى على الأنظمة والقوانين، وعلى كل سلطة في البيت أو في المدرسة أو في الشارع، أو في العمل.. هذا الوقت يلزمه الحديث عن المخافة، أكثر من أي وقت آخر..

وقد يحتج البعض بأن المخافة هي من سمات العهد القديم. أما العهد الجديد فهو عهد النعمة والمحبة.

وهذا تعلم خاطئ لأن الله “هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ” (عب 13: 8). “ليس عنده تغيير ولا ظل دوران” (يع 1: 17). إن كانت هناك مخافة في العهد القديم، فقد كانت فيه وصية المحبة أيضًا “تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك” (تث 6: 5). وقال السيد المسيح إنه بهذه المحبة “يتعلق الناموس كله والأنبياء” (مت 22: 4).

وإذ ثبت العهد الجديد هذه المحبة، فإنه تحدث عن المخافة أيضًا، في أقوال السيد المسيح ورسله القديسين. يكفي أن أسجل قول السيد الرب:

“أريكم ممن تخافون: خافوا من الذي بعد ما يقتل، له سلطان أن يلقي في جهنم. نعم أقول لكم: من هذا خافوا” (لم 12: 4، 5) (مت 10: 28).

وهكذا عبارة الخوف ثلاث مرات في وصية واحدة، بدأها بعبارة “أقول لكم يا أحبائي..” (لو 12: 4). إذن المحبة لا تتعارض مطلقًا مع الخوف.

والقديس بطرس يقول للكل “سيروا زمان غربتكم بخوف” (1 بط 1: 17). ويقول للنساء “ملاحظين سيرتكن الطاهرة بخوف” (1 بط 3: 2).

صدقني يا أبي ومعلمي القديس بطرس، لقد تحدثت عن الخوف في رقة، فهوذا القديس بولس يقول:

“تمموا خلاصكم بخوف ورعدة” (في 2: 12).

فأضاف إلى الخوف كلمة الرعدة، وهي أشد..

ولعل من أوضح الآيات الكتابية عن المخافة في العهد الجديد هي قول القديس بولس الرسول أيضًا “مكملين القداسة في خوف الله” (2 كو 7: 1)

ويقول القديس يهوذا الرسول “ارحموا البعض مميزين وخلصوا البعض بالخوف، مختطفين من النار، مبغضين حتى الثوب المدنس من الجسد” (يه 22، 23).

وبهذا نرى أن الخوف يصلح أن يكون أسلوبًا من أساليب الرعاية وإنقاذ النفوس.

البعض نرحمه مميزين. والبعض نخلصه بالخوف، نخطفه من النار حتى لا يحترق. فالنفوس ليست كلها واحدة. منها بلا شك من ينفعه الخوف.

وفي هذا المعنى نفسه يقول القديس بولس لتلميذه تيموثاوس الأسقف “الذين يخطئون، وبخهم أمام الجميع، لكي يكون عند الباقين خوف” (1 تي 5: 20). هذا الخوف نافع، حتى لا يستهتر الباقون..

وكانت سياسة الخوف نافعة في معاقبة حنانيا وسفيرا.

لأنه كان من الممكن أن يتكرر الخطأ الذي صدر من حنانيا وسفيرا، ويسلك بنفس سلوكهما آخرون. ولكن لما أوقع القديس بطرس عليهما العقوبة، على الرغم من شدتها، يقول سفر أعمال الرسل “فصار خوف عظيم على جميع الكنيسة، وعلى جميع الذين سمعوا بذلك” (أع 5: 11). وكان هذا الخوف لصالح الكنيسة واستقرارها منذ تأسيسها.

هكذا عاشت الكنيسة في تعليمها منذ أيامها الأولى. لماذا يحاول البعض إذن -في هذه الأمور الروحية- أن يفرّق بين تعليم العهد القديم وتعليم العهد الجديد؟! أليس الكتاب وحدة واحدة متجانسة، يقول عنها الرسول:

“كل الكتاب هو موحَى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر” (2تي 3: 16).

إن إله العهد القديم، هو نفسه إله العهد الجديد لم يتغير. فلا تظنوا أن الله كان مشددًا من جهة الخطية في العهد القديم، ومتساهلًا من جهتها في العهد الجديد..!! حاشا. فالخطية هي هي في كل بشاعتها. والله هو هو، الكلي الصلاح، والكلي القداسة، والكلي العدل، في العهدين كليهما..

ليس العهد القديم إذن هو عهد الخوف والعقوبة، وليس العهد الجديد هو وحده عهد النعمة والمحبة.

فالخوف والفرح فيهما كليهما. الفرح للذين يؤمنون ويثبتون في الإيمان. والخوف لغير المؤمنين، وللذين يسقطون أو ينحرفون.

وليس العهد القديم هو عهد التهديد والوعيد، بينما العهد الجديد هو عهد الوعود..!!

فالوعيد والوعد فيهما معًا. ولا ننسى أنه في العهد الجديد يقول الإنجيل:

“كل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا، تُقْطَع وتُلقى في النار” (مت 3: 10).

ويقول السيد المسيح في كل محبته “إن كان أحد لا يثبت فيَّ، يُطرح خارجًا كالغصن، فيجف، ويطرحونه في النار فيحترق” (يو 15: 6).

إن الله يعرف طبيعة الإنسان، ويعرف أن المخافة نافعة ولازمة لهذه الطبيعة. ولذلك تحدث عن المخافة في كلا العهدين القديم والجديد.

وفي العهد القديم، لم يتحدث عن المخافة فقط في مجال التهديد، بل في مجال الحب والنعمة أيضًا.

فقيل في سفر المزامير:

“سر الرب لخائفيه” (مز 25: 14).

“عين الرب على خائفيه” (مز 33: 18)

“ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم” (مز 34: 7)

“خلاصه قريب من خائفيه” (مز 85: 9).

“قويت رحمته على خائفيه” (مز 103: 11)

“يتراءف الرب على خائفيه” (مز 103: 13).

“مَنْ هو الإنسان الخائف الرب. يعلمه طريقًا يختاره. نفسه في الخير تبيت. ونسله يرث الأرض” (مز 25: 12).

ويقول الرب في سفر إرمياء النبي “وأعطيهم قلبًا واحدًا وطريقًا واحدًا، ليخافوني كل الأيام لخيرهم وخير أولادهم“، “وأقطع لهم عهدًا أبديًا أني لا أرجع عنهم، لأحسن إليهم، وأجعل مخافتي في قلوبهم، فلا يحيدون عني” (أر 32: 38-40).

وفي العهد الجديد، وردت مخافة الله مرتبطة بفضائل، وعدم المخافة مرتبطًا بالخطية.

فقد قيل عن كرنيليوس البار إنه “تقي وخائف الله مع جميع بيته يصنع حسنات كثيرة للشعب، ويصلي كل حين” (أع 10: 2).

وامتزج الخوف مع تمجيد بالنسبة للذين رأوا شفاء المفلوج “فأخذت الجميع حيرة، ومجدوا الله وامتلأوا خوفًا، قائلين إننا قد رأينا اليوم عجائب” (لو 5: 26).

وعند إقامة ابنة أرملة نايين “أخذ الجميع خوف، ومجَّدوا الله” (لو 7: 16).

وفي سفر الرؤيا، رأَى القديس “ملاكًا طائرًا في وسط السماء معه بشارة أبدية ليبشر الساكنين على الأرض، وكل أمة وقبيلة ولسان وشعب، قائلًا بصوت عظيم “خافوا الله واعطوه مجدًا” (رؤ 14: 6، 7).

ورأى القديس يوحنا ملائكة يسبحون الله قائلين “من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك، لأنك وحدك قدوس” (رؤ 15: 4).

ويشبه هذا قول القديس بطرس الرسول “أحبوا الإخوة. خافوا الله” (1 بط 2: 17).

وكما تمتزج المخافة بالفضيلة، يمتزج عدم المخافة بالخطية. وهكذا نجد على الصليب، أن اللص التائب ينتهر اللص الآخر الذي كان يجدف، ويقول له “أو ما تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟! أما نحن فبعدل ننال استحقاق ما فعلنا” (لو 23: 40، 41).

وقيل عن قاضي الظلم إنه “لا يخاف الله” (لو 18: 1).

وأبونا إبراهيم أبو الآباء، لما تغرَّب في أرض جرار، وصف شرها بقوله “إني قلت ليس في هذا الموضع خوف الله البتة. فيقتلونني لأجل امرأتي” (تك 20: 11)

3- الباب الثاني: أسباب الخوف 🔗

الخوف يرتبط بالخطيّة 🔗

إن الملائكة -وهم يتكللون بالبر- لا يخافون. أما البشر وهم يسقطون في الخطايا كل يوم، فإن الخوف يلاحقهم، لأنه لاصق بالخطية. هو يسبقها، وهو أيضًا يلحقها. وهو مرتبط بها على الدوام.

أول نوع من الخوف، هو خوف السقوط 🔗

هو خوف يسبق الخطية، وهو نافع إن دفع صاحبه إلى الحرص. الإنسان الذي يحب أن يحيا حياة طاهرة يخاف من السقوط. لأنه قيل عن الخطية إنها طرحت كثيرين جرحَى، وكل قتلاها أقوياء” (أم 7: 26). نعم، هذه الخطية التي أسقطت جبابرة أمثال داود وسليمان وشمشون، والتي أسقطت رسلًا مثل بطرس ومثل توما.. لذلك يقول القديس بولس محذرًا..

“لاَ تَسْتَكْبِرْ بَلْ خَفْ” (رو 11: 20).

حتى الإنسان الروحي، ينبغي أيضًا أن يخاف السقوط، ليس عن رعب، إنما عن حرص. ذلك بسبب عنف الحروب الروحية وقوة الشيطان المخادع الذي قال عنه القديس بطرس الرسول “اصحوا واسهروا، لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو” (1 بط 5: 8). وقال القديس بولس الرسول عن المحاربات الروحية “فإن محاربتنا ليست مع لحم ودم، بل مع الرؤساء مع السلاطين.. مع أجناد الشر الروحية في السماويات..” (أف 6: 12). ولذلك فإنه يقول أيضًا “مَن يظن أنه قائم فلينظر لئلا يسقط” (1 كو 10: 12) بل إنه قال عن نفسه، ليحذرنا:

“أقمع جسدي واستعبده، حتى بعد ما كرزت للآخرين، لا أصير أنا نفسي مرفوضًا” (1 كو 9: 27).

نعم، ما أخطر هذه العبارة، يقولها رسول عظيم قد صعد إلى السماء الثالثة، وتعب أكثر من جميع الرسل. لذلك على الإنسان الروحي أن يبذل كل جهده، ويبعد عن كل أسباب الخطية ومصادرها خوفًا من أن يسقط!!

يفعل هذا، حتى إن كان قد سار شوطًا في الحياة بالروح، لعله يحدث له كما حدث لأهل غلاطية الذين وبخهم الرسول قائلًا:

“أَبَعْد ما ابتدأتم بالروح، تكملون الآن بالجسد؟!” (غل 3: 3).

ليس المهم إذن كيف بدأنا؟ أو كيف نحن الآن؟ وإنما ماذا سنكون، وكيف ستكون نهاية سيرتنا..

هذا هو أول خوف يرتبط بالخطية وهو خوف السقوط. ويستغله الروحيون لفائدتهم، مستمعين إلى قول المرتل في المزمور “طوبَى للإنسان الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس..” (مز 1).

فإن أخطأ الإنسان يقع في خوف آخر، هو خوف الانكشاف.

يخاف أن يعرف الناس خطيئته، وأن ينكشف، فيقع في الفضيحة والعار، ويتعرض لألسنة الناس التي لا ترحم، وتصبح سمعته مضغة في أفواههم..!

لذلك يقول علماء النفس أن المجرم كثيرًا ما يحوم حول مكان جريمته، خائفًا من أن يكون قد ترك هناك أثرًا يدل عليه.. وهذا العامل النفساني يستغله المحققون. فإن أشاروا إلى شيء ممن آثار الجريمة، قد يضطرب المجرم أو ينهار.

ومن أجل خوف الانكشاف نلاحظ ملاحظة هامة وهي:

إن الخطية كثيرًا ما تعمل في الظلام وفي الخفاء.

وهكذا قيل عن الخطاة أنهم “أحبوا الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة” (يو 3: 19) “لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، لئلا توبخ أعماله. وأما من يعمل الحق، فيقبل إلى النور، لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة” (يو 3: 20، 21).

ولهذا فإن الأبرار يلقبون بأبناء النور، والأشرار بأبناء الظلمة لأنهم يدبرون خطاياهم في الخفاء.

لذلك يخافون من اليوم الأخير الذي تنكشف فيه الأعمال، وتفتح الأسفار، وتفصح الأفكار والنيات.

أين يهربون في ذلك اليوم؟ وأين يختفون؟!

إن كانت خطاياهم لا تنكشف على الأرض، بأسباب وطرق شتَّى، فلا بُد أنها ستنكشف أمام الديان العادل وأمام الكل في يوم الحساب.. يخافون من أن الذي يُقال في المخادع، يُنادَى به فوق السطوح. ويخافون من تلك العبارة الرهيبة التي قالها الرب:

“لَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلاَ خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ” (مت 10: 26).

أين يخفون وجوههم إذن؟ حين لا تكون هناك أسرار ولا خفايا بل الكل معلن معروف.

بل هناك أمر أخر يخاف منه الإنسان الروحي، وهو أن خطاياه قد تكون مكشوفة أمام أرواح الذين انتقلوا من هذا العالم، سواء أحبائه الذين كانوا يثقون به فيندهشون! أو أمام الذين كانوا ينتقدونه فيرون أنهم كانوا على حق..!

لعل إنسان يسأل: وماذا تراني أفعل إذن؟

أقول لك إن التوبة تمحو خطاياك، وكأنك لم تفعلها، تغسلك فتبيض أكثر من الثلج.. ولا تعود لك خطايا تخاف من أن تنكشف.. فإن كنت تخاف الانكشاف، تُبْ. وحينئذ يفرح بك ملائكة الله وأرواح القديسين. لأنه “يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ” (لو 15: 7).

نوع آخر من الخوف يرتبط بالخطية، وهو خوف العقوبة، أو الخوف من نتائج الخطية.

أبونا آدم لما أخطأ، خاف واختبأ خلف الشجر. تحولت علاقته مع الله من حب إلى خوف. وقايين القاتل، وقع ليس في الخوف فقط بل في الرعب. وهكذا قال لله “ذنبي أعظم من أن يُحتمل. إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض، ومن وجهك أختفي وأكون تائهًا وهاربًا في الأرض” (تك 4: 13، 14). وداود النبي أيضًا لما أخطأ خاف. وقال “يا رب لا تبكتني بغضبك، ولا تؤدبني بسخطك. ارحمني يا رب فإني ضعيف. اشفني فإن عظامي قد اضطربت” (مز 6).

والخاطئ يخاف من عقوبتين: أرضية وسماوية 🔗

أما العقوبة السماوية، فهي رهيبة وأبدية. وأرجو أن أتحدث عنها بالتفصيل فيما بعد.

وأما العقوبة الأرضية فهي كذلك على أنواع: إما عقوبة من المجتمع: فضحية واحتقار، أو نبذ هذا الإنسان من المجتمع، أو عدم الثقة به في المستقبل.. أو عقوبة من القانون مثل السجون، أو ما هو أشد.. أو عقوبة يوقعها الله عليه من مرض أو عاهة أو اللعنات التي وردت في (تث 28)، أو عقوبة تصيبه في أولاده وأحفاده.

هناك خوف روحي أيضًا يتابع الخاطئ، أو يخافه الإنسان المحترس من السقوط.

إنه يخاف من غضب الله عليه، أو رفض الله له، مثلما رفض شاول الملك من قبل (1 صم 16).

يخاف أن يحزن الروح أو يطفئ الروح، بل يخاف أن يفارقه روح الله (1 صم 16: 14) أو أن تتخلى عنه النعمة، ويسلمه الله إلى ذهن مرفوض، أو يسلمه إلى شهوات قلبه (رو 1: 28،24)، يخاف أن يفقد صورته الإلهية التي خلقه الله بها في البدء. ويخاف لئلا يأخذ أحد إكليله وتتزحزح منارته من مكانها (رؤ 2: 5) يخاف أن يأخذ العدو سلطانًا عليه، ويأتي وقت عليه يفقد فيه إرادته، ويفقد حرية أولاد الله. والشر الذي ليس يريده، إياه يفعل (رو 7: 19).

وهكذا يخاف أيضًا أن يتطور إلى أسفل وإلى أسوأ.

يخاف من قول الرب له: أن عارف أعمالك، أن لك اسمًا أنك حي وأنت ميت (رؤ 3: 1).

يخاف أن يأتيه الموت فجأة، وهو في حالة غفلة، وغير متسع لملاقاة الله..

أحد القديسين قال إني أخاف من ثلاثة أمور 🔗

أخاف من لحظة مفارقة روحي لجسدي. وأخاف من ساعة الوقوف أمام الديان العادل، كذلك أخاف من لحظة صدور الحكم عليَّ..

فإن كان القديسون، يخافون مع ارتفاعهم العجيب في حياة الفضيلة، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟!

الذي يخاف الله لا يخطئ. والذي يخطئ هو إنسان لا يخاف الله.

الذي يخاف الله لا يظلم، لأنه يخاف الله الذي يحكم المظلومين. والذي يخاف الله لا يتدنس، لأنه يعرف أن الله قدوس.

والذي يخاف الله لا يعمل الشر حتى في الخفاء، لأنه يعرف أن الله يرى كل شيء، ويسمع كل شيء، ويفحص حتى أعماق القلوب.

ولعل البعض يسأل: ما رأيك إذن فيمن يفعل الشر ولا يخاف؟

نقول إنه وصل إلى حالة الاستهتار أو اللامبالاة. أو أن ضميره مريض أو متعطل عن العمل. أو أن دوامة العالم تجرفه ولا تعطيه فرصة لمراجعة نفسه ولا للتفكير في أعماله. فهو في غيبوبة روحية: إن استيقظ منها لا بُد سيخاف. وبعض من مثل هؤلاء الناس، نراهم في ساعة الموت، أو إذا اقتربوا من الموت، لا بد أن الخوف يرعبهم. لأنهم لم يعملوا لأجل تلك الساعة ولم يستعدوا لها.. ويشعرون أنهم أضاعوا حياتهم.

تقول: أريد أن أحيا حياة الحب وليس الخوف.

أقول لك: إذن لا تخطئ فالخطية مرتبطة بالخوف.

يقينًا أن الشخص الذي يخطئ، كان في وقت خطيئته لا يخاف الله. أو يقول المزمور عن أمثال هذا الإنسان “لم يسبقوا أن يجعلوا الله أمامهم”. لو كنتم بلا خطية، لا تخافوا.

ولو أخطأتم وعدتم فاصطلحتم مع الله، و ندمتم و وبختم أنفسكم و عاقبتموها، وعشتم في حياة التوبة، حينئذ سوف لا تخافون..

أما ونحن خطاة، فقد وهبنا الله المخافة لكي نصلح مسارنا.

استمع إلى قول الرسول “فلنخف أنه مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته، يرى أحد منكم أنه قد خاب منه” (عب 4: 1).

وإن كنت تريد ألا تخاف في ذلك اليوم، فلتخف الآن. والخوف يمنعك من الخطية، ويمنع عنك الخوف في اليوم الأخير.

4- الباب الثالث: فوائد مخافة الله 🔗

1- مخافة الله توصل إلى التوبة وتنفيذ الوصايا 🔗

إنها تمنع من فِعل الخطية قبل ارتكابها. أما إن ارتكب الإنسان الخطية، فإنها تعطيه رعبًا من نتائج الخطية ومن عقوبة الله. وهكذا تقوده إلى التوبة والرجوع إلى الله..

مخافة الله إذن تحفظنا من السقوط، وأن حدث وسقطنا، تعطينا التوبة..

2- مخافة الله هي بداية الطريق، وهي سياج للحياة الروحية حتى لا تعثر ولا تنحرف 🔗

بها نضع الله أمامنا. ونقول مع يوسف الصديق: كيف أفعل هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله (تك 39: 9). لذلك فالذي يخاف الله لا يخطئ، لأنه يخاف من الله العادل، الذي وضع مبدأ “أجرة الخطية هي موت” (رو 6: 23). كذلك يخاف الله العالم بكل شيء الذي يقول “أنا عارف أعمالك (رؤ 3: 1، 15). يخاف أيضًا من إنذارات الله وعقوباته. ولذلك يمتنع عن الخطية، وينفذ الوصايا. وتكون مخافة الله في قلبه حصنًا يمنعه من السقوط.

3- الذي يخاف الله، يطيع الله، أما الذي لا يطيعه، فهو شاهد على نفسه أنه لا يخاف الله 🔗

إنه يطيع الله، ويفعل ما يوافق مشيئته الإلهية. فقد قال الرب في سفر أرمياء النبي “ويكون لي شعبًا.. وأنا أكون لهم إلهًا.. أعطيهم قلبًا واحدًا، وطريقًا واحدًا، ليخافوني في كل الأيام لخيرهم.. واجعل مخافتي في قلوبهم..” (أر 32: 38 – 40).

4- مخافة الله تعلم الإنسان حياة الحرص والتدقيق 🔗

فالإنسان الذي يخاف الله يكون مدققًا في كل ما يعمله، وحريصًا في كل ما ينوي أن يفعله. لأنه يخاف لئلا يسقط ويغضب الله. بينما يحذرنا الرسول قائلًا “من يظن أنه قائم، فلينظر لئلا يسقط” (1 كو 10: 12). ويقول أيضًا “لا تستكبر بل خف” (رو 11: 20).

صدقوني، إن المخافة وإن كان البعض يتعب منها نفسيًا، إلا أنها تفيده روحيًا لكي يحترس.

ولكي يفكر كثيرًا كلما وقفت أمامه عثرة، ويبذل جهده لئلا يسقط.

أما إذا لم يوجد مخافة الله في القلب، فما أسهل أن ينطبق عليه المثل “إذا لم تستح، فافعل ما تشاء..!!”

5- كثيرون من الذين تركوا المخافة، تحولوا إلى الاستهتار 🔗

وتحولوا إلى اللامبالاة.. يقولون: لِنَعِش في المحبة.. حسنًا وهل المحبة تمنع الحرص والتدقيق في الحياة الروحية؟! وغالبية هؤلاء – في فُقْدَان المخافة وصلوا إلى كبرياء القلب، وإلى قساوة القلب، وفقدوا أيضًا المحبة التي يدعونها..

6- الذي يتدرب على المخافة، يصل أيضًا إلى الأدب في مُخاطبة الله 🔗

لأن الذين يدعون أنهم يحيون في محبة الله، دون أن يعبروا على مخافة الله.. كثيرًا ما يعاتبون الله في صلواتهم بأسلوب خالٍ من الأدب اللائق بمخاطبة الله. وباسم الدالة يخطئون في غير مخافة!!

هوذا أبونا إبراهيم -على الرغم من الدالة الكبيرة التي بينه وبين الله- يقول أثناء تشفُّعه في سدوم: “شَرَعْتُ أُكَلِّمُ الْمَوْلَى وَأَنَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ” (تك 18: 27).

هوذا الله يقول في سفر ملاخي النبي “الابن يكرم أباه، والعبد يكرم سيده، فإن كنت أنا أبًا، فأين كرامتي. وإن كنت سيدًا، فإن هيبتي؟!” (ملا 1: 6).

7- مخافة الله تقود أيضًا إلى الجدية في الحياة الروحية 🔗

بينما هناك أشخاص باسم (المحبة) لا توجد في حياتهم ضوابط على الإطلاق. حياتهم تسيب، بلا جدية!! لا يحرصون على شيء ولا يهتمون بشيء، ولا ينفذون شيئًا. ويظنون أن الارتباط بالجدية في تنفيذ الوصية، نوعًا من الناموس!! ويقولون إننا لسنا تحت ناموس!! وبهذا يصلون إلى التسيب، وعدم الالتزام بشيء!

أما الإنسان الروحي الذي يخاف الله، فإنه يكون ملتزمًا.

ويكون أيضًا إنسانًا جادًا، وأمينًا في القليل.. ذلك لأن مخافة الله على الدوام أمام عينيه.

أما الذي لا يخاف الله، فإنه لا يكون ملتزمًا ولا جادًا. وللأسف نجد هذا أحيانًا في محيط الخادم، فربما يُدعَى أحدهم إلى اجتماع هام للشباب، ويعد ولا يحضر. ويقدم اعتذار بعد فوات الفرصة. أما الذي يخاف الله، فإنه يكون ملتزمًا في مواعيده. ويقول في قلبه إن الله سيحاسبني عن كل نفس أهملتها في الاجتماع.

وتجده مدققًا وملتزمًا في خدمته وأمينًا، ذلك لأن مخافة الله أمام عينيه..

8- مخافة الله تقود أيضًا إلى الاتضاع وانسحاق القلب 🔗

وبالاتضاع يقول: مَن أنا التراب حتى أتحدَّى الله وأكسر وصاياه؟! وحتى إن وقف يصلي، يقول: من أنا حتى أقف أمام الله؟! ومن أنا حتى أتكلم مع الله؟! وأمامنا في هذا المجال قصة الفريسي والعشار:

إن العشار -في مخافته لله- عندما دخل إلى الهيكل، “وقف من بعيد، لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء. بل قرع على صدره قائلًا: اللهم ارحمني أنا الخاطئ “. ذلك لأنه كان واقفًا في مخافة الله. وأوصلته المخافة إلى انسحاق القلب. لذلك خرج مبررًا دون ذلك الفريسي الذي -في غير مخافة- وقف أمام الله مفتخرًا بصومه، وعشوره، بل وقف يدين العشار، ويقول إنه أفضل من سائر الناس الخاطفين الظالمين الزناة (لو 18: 10 – 14).

9- المخافة تلد الخشوع. والخشوع يلد الدموع 🔗

الإنسان الذي يخاف الله، يكون خاشعًا في صلاته، وفي كل عبادته. إنه يأخذ حرارة في قلبه من مخافته لله. وقد تمتلئ صلاته بالدموع، نابعة من انسحاق قلبه.. وهكذا كان آباؤنا القديسون على الرغم من القمم الروحية العالية التي وصلوا إليها، لم تفارقهم مخافة الله، ولا انسحاق القلب، ولا الخشوع ولا الدموع.

والأمثلة على ذلك كثيرة في سير القديسين.

  • القديس العظيم الأنبا أرسانيوس، لما وافته ساعة الوفاة، ارتعب وخاف. فقال له تلاميذه “أحتَى أنت يا أبانا تخاف من هذه الساعة؟!” فأجابهم القديس العظيم وقال لهم “إن رعب هذه الساعة ملازم لي منذ دخلت إلى الرهبنة”.. هكذا كانت مخافة الله ملازمة له حتى ساعة الموت..
  • وكذلك القديس الأنبا سيصوي (الأنبا شيشوي): لما أتته ساعة الموت، خاف. فقال له تلاميذه “وأنت أيضًا يا أبانا تخاف؟!” فقال لهم “على قدر طاقتي أطلعت وصايا الله. ولكن حكم الناس شيء وحكم الله شيء آخر”.. وقيل عنه إنه في ساعة وفاته، كان يطلب فرصة لكي يتوب!!.. هذا القديس المتكامل في الفضيلة، السامي والعالي في مستواه، كان يطلب فرصة لكي يتوب!! فماذا ترانا نفعل نحن؟!..

أما الإنسان الذي يدعي أنه وصل إلى المحبة، ويسلك بالدالة مع الله على طول الخط:

· فمن الجائز أن يصل إلى اللامبالاة، ويفقد كذلك روح الانسحاق. وما أسهل أن هذا التدلل يوصله إلى عدم الاهتمام بكل ما يوصله إلى الله..!

وبعد ذلك يشرب الخطية كالماء.. ويغطي على سقوطه بقوله: إن الله يعرف ضعف البشرية، وهو حنون غفور!!

أما الذي يسلك في مخافة، فإذ يضع خطاياه أمام عينيه كل حين، تمتلئ عيناه بالدموع، وقلبه بالخشوع.

10 – الذي يعيش في مخافة الله، دائمًا يحاسب نفسه 🔗

ولا يحاسب نفسه فقط عن أعماله، وإنما حتى على الأفكار والنيات، ويحاسب نفسه على عدم النمو.. يحاسب نفسه على صغيرة وكبيرة. ويشعر كما لو أنه واقف أمام جهاز تسجيل يسجل عليه كل شيء. يسجل مشاعره وعواطفه، وأفكاره ونياته وأخطاء اللسان، وأخطاء الحواس.. وفي الواقع أن هذا صحيح فكل تفاصيل حياتنا مسجل علينا.

وهذا المسجل علينا، سيذاع في اليوم الأخير.

أمام الملائكة، وأمام البشر، جميعًا.. ولكن ثقوا أنكم إن خفتم من هذا، وتبتم عن جميع خطاياكم، فكل ما تتوبون عنه، ويمحو من جهاز التسجيل، ولا يعود يحسب عليكم. كما قال الكتاب “طوبى للذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم. طوبى للإنسان الذي لا يحسب له الرب خطية” (رو 4: 7، 8) (مز 32: 1، 2).

11- وهكذا فإن مخافة الله، ليست فقط تقود إلى محاسبة النفس، وإنما أيضًا إلى لوم النفس، والندم والتوبة 🔗

والإنسان الذي يخاف الله يستمع إلى قول القديس مقاريوس الكبير “احكم يا أخي على نفسك، قبل أن يحكموا عليك”. وبالتالي يبكت نفسه على كل ما فعلته، وما تنوي أن تفعله، ويبعد عن كل فكر رديء. وكما قال القديس باخوميوس الكبير “إن خوف الله يحرق الأفكار الردية، ويطرد كل رذية، ويطرد من الإنسان”..

لذلك فإن مخافة الله توصل إلى نقاوة القلب. وكيف؟

12- مخافة الله تدفع الإنسان إلى الجهاد والتعب من أجل الله، ومن أجل الوصول إلى مرضاته 🔗

مثال ذلك طالب في الجامعة، وأمام مقرر طويل.. ألف صفحة مثلًا، لم يذاكر منها سوى عشرين صفحة فقط! لذلك يملكه الخوف الذي يدفعه إلى مضاعفة جهده لكي يصل مهما تعب في سبيل ذلك.

ونحن مقررنا الروحي هو القداسة التي بدونها لا يعاين أحد الرب الذي قال “كونوا قديسين، لأني أنا قدوس” (1 بط 1: 16).. بل مقررنا الروحي هو الكمال، حسب قول الرب “كونوا كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل” (مت 5: 48).

ألا نخاف إذن، والطريق طويل بيننا وبين القداسة والكمال؟

أو لا يدفعنا الخوف إلا الجهاد والتعب، وإلى السهر على خلاص أنفسنا [لِئَلاَّ يَأْتِيَ بَغْتَةً فَيَجِدْنَا نِيَامًا!] (مر 13: 36). وكلما سرنا في الطريق، ووجدنا الكمال الكمال لا يزال بعيدًا، نصغي بكل اهتمام إلى نصيحة القديس بولس الرسول “أركضوا لكي تنالوا” ومن يجاهد يضبط نفسه في كل شيء” (1 كو 9: 24، 25) وهكذا فإن الذي يخاف الله، تجده في الطريق الروحي، دائم الجهاد والركض لا يتوقف. وماذا أيضًا:

13- مخافة الله تقود إلى النمو الروحي 🔗

وفي كل يوم يتقدم، لأنه يرى طريق الكمال طويلًا ويخاف أن يدركه الموت قبل أن يصل.

أحد الرهبان كان يقرأ كتاب الدرجي. ووجد فيه ثلاثين درجة في سلم الفضائل، وأولها الغربة والموت عن العالم. فوضع أمامه لافته كتب فيها (لسه بدري عليك).. وجاهد لكي ينمو صاعدًا في هذا السلم الروحاني.

إن الذي يخاف الله، يجاهد باستمرار لينمو صاعدًا، بينما الذي ليست فيه مخافة الله، قد ينحدر إلى أسفل وأسوأ.

14 – الذي في قلبه مخافة الله، لا يخاف فقط على نفسه بل على غيره أيضًا، فيسعى لنشر الملكوت 🔗

يهمه أيضًا مصير كل من يعرفهم، وأبديتهم. يخاف عليهم كما كان أيوب الصديق يخاف على أولاده ويقدم عنهم محرقات (أي 1: 5). وهكذا يخاف على خلاص الآخرين، فيجاهد في الخدمة لأجلهم، وينمو في الخدمة ومحبة الملكوت. كما قال القديس بولس الرسول “كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح، لأجل أخوتي أنسبائي حسب الجسد” (رو 9: 3).

15- كل هذا يجعل مخافة الله تقود إلى الصلاة 🔗

فالإنسان يجاهد، ولكنه يرى جهاده ليس كافيًا. فيلجأ إلى الصلاة المستمرة، طالبًا من الرب معونة ونعمة، له ولغيره. إن الخوف على خلاص النفس، لا يكفيه مجرد الجهاد البشري. فالرب يقول “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو 15: 5) وهكذا فإن المخافة تقود إلى الالتجاء إلى الله. مثلما خاف بطرس من الغرق وهو يمشي على الماء، فصرخ إلى الرب الذي أمسك بيده (مت 14: 30، 31).. المخافة تدعوك أن تحترس وتدقق وفي نفس الوقت للرب “اسندني فاخلص”.

16- مخافة الله أيضًا تدعوك إلى المعرفة، حتى لا تسقط عن جهل. هذا يدعوك إلى القراءة وإلى المشورة 🔗

وهكذا تلهج في كلام الله نهارًا وليلًا، لكي تستفيد نفسك بوصاياه. وإن وجدت ما يحتاج إلى استرشاد، تلجأ إلى الآباء الروحيين لكي يشرحوا لك الطريق، متذكرًا قول الكتاب “وعلى فهمك لا تعتمد” (أم 3: 5)

17- ومخافة الله تدعوك إلى حُسْن التعامل مع الآخرين 🔗

إذ تخاف من قول الرب “ومن قال (لأخيه) يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم” (مت 5: 22). وهكذا فإن الذي يخاف الله لا يجرح شعور أحد ولا يدين أحدًا، خوفًا من أنه بالدينونة التي بها يدين، يدان (مت 7: 2). بل يرحم الكل، لكي يستحق الرحمة، كقول الرب “طوبي للرحماء فإنهم يُرحَمون” (مت 5: 7).

5- الباب الرابع: مخافة الله في الكنيسة الأولى 🔗

ونعني الكنيسة في العصر الرسولي، وفي القرون الأربعة الأولى للمسيحية، حيث كانت الكنيسة تحرص على مخافة الله، وعلى التمسك حياة القداسة، قداسة المؤمنين وقداسة الكنيسة. وكانت حازمة جدًا في حفظ الوصايا الإلهية.

لذلك تميزت الكنيسة بالعقوبات الشديدة التي كنت توقعها على الخطاة في ذلك الزمان حتى يعيشوا في خوف الله.

ونحن لا ننسي العقوبة الشديدة التي أوقعها القديس بولس الرسول على خاطئ كورنثوس، إذ قال قد حكمت.. أن يسلم مثل هذا للشيطان لإهلاك الجسد، لكي تخلص الروح في يوم الرب” (1 كو 5: 5). ونذكر أيضًا حكمة الشديد على عليم الساحر، إذ ضربه بالعمى (1 كو 13: 11).. ونذكر أيضًا قوله لتلميذه تيموثاوس الأسقف:

“الذين يخطئون، وبخهم أمام الجميع، لكي يكون عند الباقين خوف” (1 تي 5: 20).

لأن هذا الخوف يحمي الآخرين من تكرار نفس الخطأ، أو ما يشبهه. وهناك قصة في بدء الكنيسة الأولى لا ننساها: وهي معاقبة القديس بطرس لحنانيا و سفيرا الذين كذبا عليه، أو كذبا على روح الله الذي فيه، فعاقبهما أشد عقوبة حتى دون أن يعطيهما فرصة للتوبة. وقال سفر الأعمال في ذلك:

“فصار خوف عظيم على جميع الكنيسة” (أع 5 : 11).

وكان ذلك الخوف نافعًا لردع الناس عن الخطأ..

ومن العقوبات التي كانت مشهورة في الكنيسة الأولى، هي عقوبة عزل المخطئ من جماعة المؤمنين Excommunication والتي ذكر بها القديس بولس أهل كورنثوس بقوله:

“اعزلوا الخبيث من بينكم” (1 كو 5 : 13).

وكانت هناك عقوبات أخرى خاصة برجال الإكليروس.. قد تصل إلى العزل من الرتبة الكهنوتية (Deposal).

ومن مخافة الله كان البعض يعترف بخطاياه علانية، ولا ننسي اعترافات القديس أوغسطينوس التي كتبها في كتبها في كتاب يمكن أن تقرأه جميع الأجيال.. إذ كانت مخافة الله في قلبه. فأراد أن يعاقب نفسه بذكر خطاياه أمام الكل.

إن الله القدوس لا يمكن أن يرضَى بالخطية ولا الشر. وهكذا كان وكلائه على الأرض أيضًا (1 كو 4: 1) (تي 1: 7). لذلك كانت الكنيسة مملوءة بالقديسين، ولا يدخلها إلا القديسون.

وكانت الكنيسة مقسمة إلى خوارس، إلى مناطق وصفوف خورس الباكين، وخورس الراكعين، وخورس الموعوظين.. إلى أن يصلوا إلى خورس القديسين الذين يسمح لهم بالتناول.

ولم يكن كل أحد يصرح له بدخول الكنيسة. إذ كما يقول المزمور “ببيتك تليق القداسة يا رب” (مز 93). لذلك كان الخطاة يقفون خارج الكنيسة، يتضرعون إلى الداخلين والخارجين أن يصلوا لأجلهم. وكثيرًا ما كانت الكنيسة تحكم بسنوات من الحرمان على مقترفي الخطية.

ونظرًا لأن الكنيسة كانت شديدة في أحكامها، كان الناس يسلكون في قداسة وحرص.

كانت توجد وظيفة هي وظيفة الايبدياكون أي مساعد الشماس. وهذا كان يحرس أبواب الكنيسة من دخول الخطاة، فلا يدخلها أشخاص محكوم عليهم بسبب خطاياهم.

والكنيسة في عقوباتها لم تكن تعرف المُحابة. فكان يحكم على الشخص بالحرمان من الكنيسة، إذا أخطأ خطية تستوجب ذلك مهما كان مركزه أو شهوته..

قصة خاطئة مشهورة 🔗

كانت توجد امرأة من مشاهير الراقصات. ولشهرتها الكبيرة ما كان يصادقها إلا الأثرياء وكبار الموظفين. هذه المرأة ذهبت في إحدى المرات إلى الكنيسة بزينتها فأوقفها الإيبوذياكون ومنعها من الدخول قائلًا لها “لا يحق لك أن تدخلي الكنيسة لأنك امرأة خاطئة”، وقال ذلك لأنه خادم بالكنيسة ومكلف بهذا الأمر. ولا يسمح لأي شخص خاطئ بالدخول إلى الكنيسة كما يقول الكتاب “اعزلوا الخبيث من وسطكم “. ظلت المرأة تتناقش معه بصوت مرتفع إلى أن وصل صوتها إلى الأسقف. فخرج الأسقف مستفسرًا، فقالت له: “يا سيدي أريد أن أدخل الكنيسة”، فقال لها الأسقف: “لا تستحقين الدخول إلى الكنيسة لأنك امرأة خاطئة قالت له: يا سيدي ما عدت أخطئ مرة أخرى”. فقال لها الأسقف: “إن كنت صادقة في توبتك فأذهبي أحضري كل أملاكك إلى هنا”.

فذهبت وأحضرت جميع غناها إلى فناء الكنيسة – التحف والملابس والزينات وكل حاجة تملكها أحضرتها إلى فناء الكنيسة فأمر الأسقف أن يحرق كل هذا، لأنه حسب قوانين الكنيسة لا يدخل في مالية الكنيسة أجرة زانية. فلما نظرت المرأة كل هذا قالت لنفسها: إن كانوا قد فعلوا بك هكذا على الأرض فماذا يفعل بك في السماء؟! وتخشعت وسمح لها بالدخول إلى الكنيسة.. مجرد سماح فقط. وهكذا دخلت مخافة الله إلى قلبها وتابت. وفيما بعد صارت إحدى القديسات.

القديس يوحنا ذهبي الفم والإمبراطورة 🔗

قصة أخرى حدثت في عهد القديس العظيم يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية، أتت إلى القديس امرأة وقالت له “إن الإمبراطورة قد إظلمتها” فطلب القديس إلى الإمبراطورة أن تنصف المرأة، ولكنها لم تنصفها. وفي يوم جاءت الإمبراطورة إلى الكنيسة في موكبها مع العبيد والحاشية وأرادت الدخول، فخرج القديس يوحنا إلى الباب وأوقف الإمبراطورة ومنعها قائلًا: “لا تدخلي الكنيسة لأنك امرأة ظالمة”.

إن الإمبراطورة سببت فيما بعد للقديس يوحنا مشاكل كثيرة ولكن الكنيسة لا يدخلها إلا القديسون، وليتحمل بعد ذلك ما يحدث ولذلك كان القديس يوحنا يقول “إن هيروديا ما زالت ترجوا الملك مرة أخرى لكي يعطيها رأس يوحنا على طبق”. متذكرًا ما حدث لسميه القديس يوحنا المعمدان. ولقد احتمل ذهبي الفم كثيرًا لكي تثبت مخافة الله داخل الكنيسة. ولا فرق في ذلك بين الملكة وأي فرد من الشعب..

قداسة بيت الله 🔗

قداس الموعوظين في الكنيسة هو الجزء الأول من القداس الحالي الذي تقرأ فيه الرسائل والسنكسار والإنجيل وتلقي العظة وكانت الكنيسة في العصور الأولى، قبل أن يرفع الابروسفارين ويبدأ قداس القديسين، كان يقف الشماس ويقول “لا يقف هرطوقي ها هنا، لا يقف موعوظ، لا يقف غير مؤمن”. فيخرج هؤلاء ولا يبقى في الكنيسة إلا المؤمنون القديسون الذين يتناولون من الأسرار الإلهية. ثم يغلق الباب فلا يدخل بعد ذلك أحد، ولا يخرج أحد. لأنه غير جائز أن يدخل إلى الكنيسة إنسان متأخر بعد رفع الابروسفارين، كذلك أيضًا لا يجوز من الكنيسة أحد في اللحظات المقدسة.

لقد كانت الكنيسة شديدة في أحكامها، ولأجل ذلك كانت مملوءة من المؤمنين القديسين.. نحن الآن نتهاون و نسمح بدخول الأشرار والظالمين، وتحدث أخطاء داخل الكنيسة، قد يتشاجر بعض الأشخاص أو يتشاتمون وهذا طبعًا لا يليق بقداسة بيت الله.

يعقوب أب الآباء عندما أسس بيت إيل، عندما ظهر له الله في ذلك المكان قال “ما أرهب هذا المكان، ما هذا إلا بيت الله، وهذا باب السماء” (تك 28: 17).

وفي بعض الكنائس توجد هذه الآية مكتوبة على الجدران. لأن الكنيسة لا يدخلها إلى القديسون أما الخطاة فغضب الله معلن عليهم.

إجراءات كنيسة أخرى 🔗

  • في الكنيسة الأولى التي تميزت بمخافة الله، لم يكن الحل سهلًا من فم الكاهن. فلم يكن الأب الكاهن يقرأ التحليل لإنسان إلا بعد أن يتأكد من توبته، ومن إصلاح نتائج خطيئته بقدر الإمكان، كان يرجع الحق لمن قد ظلم منه، كما فعل زكا العشار (لو 19: 8). وكان الخاطئ التائب يتحمل عقوبة كنسية شديدة لأن العقوبة تشعره بثقل الخطأ الذي ارتكبه.
  • لم تكن الكنيسة تقبل تبرعًا إلا من مال حلال.

حسب قول المرنم في المزمور “زيت الخاطئ لا يدهن رأسي“، وأيضًا حسب تعليم الكتاب “لا تدخل أجرة زانية إلى بيت الرب إلهك عن نذر ما” (تث 23: 18).

وفي قوانين الآباء الرسل توجد قائمة بالعطايا المرفوضة التي لا تقبلها الكنيسة، إذا كان مصدرها غير سليم..

وكما كانت مخافة الله قائمة بالنسبة إلى الخطايا الشخصية..

كذلك كانت مخافة الله قائمة في التعامل مع الهراطقة.

وهكذا يقول بولس الرسول “إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم به، فليكن أناثيما” (أي محرومًا) (غل 1: 8). ويقول القديس يوحنا الحبيب “إنْ كان أحد يأتيكم ولا يجئ بهذا التعليم، فلا تقبلوه في البيت، ولا تقولوا له سلام. لأن من يسلم عليه، يشترك في أعماله الشريرة” (2 يو 10: 11).

وهكذا بمخافة الله كانت الكنيسة مدققة جدًا في أمور التعليم.

وما كانت تقبل أي تعليم غريب. وفي تدقيقها كان كل تعليم غريب، وكل خطأ، يقابل بكل حزم وصرامة وتعقد بسببه المجامع المكانية أو المسكونية، لتقاومه بتحديد الإيمان السليم، وعزل أصحاب ذلك التعليم الخاطئ وقطعهم من جسم الكنيسة مهما كانت رتبتهم..

ليتنا نأخذ درسًا في مخافة الله من الكنيسة الأولَى..

تلك المخافة التي دعتهم إلى التدقيق في كل شيء، وإلى الجدية في الرعاية والخدمة، وإلى الأمانة في القليل وفي الكثير، حتى حفظوا لنا الإيمان نقيًا، وسلموه (2 تي 2: 2).

وأخيرًا، بعد كل المقدمات التي كتبناها أيها القارئ العزيز،

كيف يمكننا الوصول إلى مخافة الله؟

6- الباب الخامس: كيفية الحصول على مخافة الله 🔗

7- يمكنك الحصول على مخافة الله بمعرفة بشاعة الخطية ونتائجها 🔗

1- يمكنك الحصول على مخافة الله بمعرفة بشاعة الخطية ونتائجها 🔗

لكي نصل إلى مخافة الله، لا بُد أن نعرف ما هي حالة الخطية أو ما هي حالتنا أثناء ارتكبنا للخطية:

الخطية تفصلنا عن الله، وعن الملائكة والقديسين..

بل تفصلنا عن الحياة الروحية كلها..

الإنسان البار هو إنسان ثابت في الله، والله ثابت فيه. هو هيكل للروح القدس، وروح الله ساكن فيه (1 كو 3: 16). أما الإنسان الخاطئ، فهو بارتكابه للخطية يحزن روح الله (أف 4: 30) وينفصل عن الله، وعن كل ما يتعلق به، لأنه “أية شركة للنور الظلمة؟!” (2كو 6: 14). فالله نور، والخطية ظلمة والخاطئ هو شخص قد أحب الظلمة أكثر من النور، لأن أعماله شريرة” (يو 3: 19).

ألا يخيفك أذن أن تكون منفصلًا عن الله؟! وأن تحيا خارجًا منه، في الظلمة الخارجية؟!

الابن الضال أنفصل عن أبيه “في كورة بعيدة” (لو 15: 13) وأبونا آدم حينما أخطأ، أنفصل عن عشرة الله، واختبأ وراء الأشجار (تك 3: 8). فالخطية توجد حاجزًا وحجابًا بين الإنسان والله ويبقي عليه أن يختار إما الله، وإما الخطية التي تفصله عن الله!

لذلك فالخطية تخيف الإنسان، حينما يتذكر أنه من أجلها، فضل أن ينفصل عن الله ويختار الخطية..

الخاطئ يعرف تمامًا أنه بعيد عن الله. ولكنه بالتوبة يشعر أنه يقترب من الله ويتلامس معه. أما إذا دخل في حياة القداسة فحينئذ يثبت في الله، والله فيه. وهكذا يقول الرب “أنا الكرمة وأنتم الأغصان.. الذي يثبت في، وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير” (يو 15: 1، 5). والذي لا يثبت، يطرح خارجًا كالغصن، فيجف ويحترق” (يو 15: 6). أليس هذا مخيفًا؟!

لعله يخيف الخاطئ أيضًا، أنه في خصومة مع الله.

لذلك فإن القديس بولس الرسول يدعو الخطاة قائلًا “تصالحوا مع الله” (2 كو 5: 20).

والأمر ليس مجرد خصومة، بل هو أخطر من هذا بكثير فالقديس يعقوب الرسول يقول إن محبة العالم عداوة لله ويؤيد هذا القديس يوحنا الرسول فيقول “إن أحب أحد العالم، فليس فيه محبة الآب” (1 يو 2: 15).. إذن فالخطية موقف يتخذه الخاطئ من الله: عدم محبة خصومه، عداوة..

بل الخطية هي حرمان من الله. هي حالة إنسان يطرده من حضرته.

نعم، ما أبشع حالة أولئك الذين يقول لهم الرب “إني لم أعرفكم قط. أذهبوا عني يا فاعلي الإثم” (مت 7: 23). من يحتمل عبارة اذهبوا عني “.. ولا يخاف؟! إنه نفس موقف العذارَى الجاهلات اللائي أغلق الرب بابه في وجوههن، وقال لهن “الحق أقول لكم إني ما أعرفكن” (مت 25: 12). وهو نفس موقف قايين الذي صرخ قائلًا لله “ذنبي أعظم من أن يحتمل إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض، ومنى وجهك اختفي..” (تك 4: 13).

ألا يخاف هذا الذي يطرده الله من حضرته؟!

ويقول له “اذهب عني يا فاعلي الإثم. لا أعرفك”، ولماذا؟ لأنه إنسان يحب العالم أكثر من الله، ولأنه يحزن روح الله الذي فيه بل أيضًا يعاند ويقاوم الروح مثلما قال القديس اسطفانوس لليهود (أع 7: 51).

بل هو ينفصل عن الله ويخاصمه ويعاديه..

إذا استيقظ ضمير هذا الإنسان، ألا يخاف ويقول: من حتى أعادي الله وأقاومه؟!

مَنْ أنا التراب والرماد، حتى أحزن روح الله، وأعصي الله وأتحداه، وأخاف وصاياه وأثور عليه؟! وأقف ضد سلطانه وملكوته… من أنا؟!

لذلك يخاف، لنه ليس كفئوًا لهذه العداوة وهذا التحدي. ولو تعرض لغضب الله، سيهلك..

إنه يخاف أيضًا من نتائج الخطية.

الخطية التي تجلب له القلق والخوف وعذاب الضمير، والتي تفقده سلامه الداخلي..

ما أكثر الذين جربوا متعب الخطية وآلامها. ومنهم داود النبي، الذي قال: في كل ليلة أعوم سريري، وبدموعي أبل فراشي” (مز 6). “اشفني يا رب، فإن عظامي قد اضطربت، ونفسي قد انزعجت جدًا”.. هذا الذي قال “مزجت شرابي بالدموع”.. هذا الذي قال “مزجت شرابي بالدموع “أنصت إلى دموعي”. وكما بكى داود، بكى بطرس أيضًا.

قيل إنه خرج خارجًا، وبكى بكاء مرًا (مت 26: 75).

وكما تألم القديسون بسبب الخطية، هكذا تألم الأشرار أيضًا.

ومثال لذلك يهوذا الخائن: الذي أتعبته نفسيته بسبب تسليمه لسيده ومعلمه، فارجع المال إلى رؤساء الكهنة قائلًا” أخطأت إذ أسلمت دمًا بريئًا “. ولما وجد أن الأمر قد خرج من يده “مضَى وخنق نفسه” (مت 27: 5). وهكذا مات هالكًا..

وبيلاطس البنطي قيل عنه في بعض القصص إنه عاد إلى منزله، وظل يغسل يديه وهو يقول “أنا بريء من دم هذا البار” (مت 27: 24). وإذ يجدهما ما زالتا ملوثتين، يعود فيغسلهما مكررًا نفس العبارة..

وهناك أشخاص بسبب خطاياهم قاسوا قصاصات على الأرض لكي تذكرهم بخطاياهم وتوصلهم إلى مخافة الله.

كإنسان يصاب بفشل في حياته، أو تتوالي عليه ألوان من الفشل فيقول “هذا بسبب خطاياي”.. أو يصاب بعد هذا هو، أو أحد أفراد أسرته بمرض، يتذكر خطاياه أيضًا ويقول هو السبب.. ثم يقع بعد هذا في مشكلة أو في عدة مشاكل متتابعة، فلا يجد أمامه إلا عبارة “كل هذا بسبب خطاياي”. ويوصله ذلك إلى مخافة الله.

كل هذه نتائج أرضية للخطية، غير العقوبة الأبدية.

إنها تذكرنا بلعنات الناموس التي وردت في سفر التثنية، حينما قال الله لمن يعصَى وصاياه “يجعلك الرب منهزمًا أمام أعدائك في طريق واحدة تخرج عليهم، وفي سبع طرق تهرب أمامهم ولا تنجح في طرقك، بل لا تكون إلا مظلومًا مغصوبًا كل الأيام ولا مخلص” (تث 28: 25، 29). ويكررها الرب مرة أخرى فيقول “ولا تكون إلا مظلومًا ومسحوقًا كل الأيام” (تث 28: 33).

طوبى لمن يستفيد من هذه العقوبات ويصل إلى مخافة الله.

إذا يوصله كل هذا إلى الندم والتوبة، ويعيش في المخافة التي تقوده إلى نقاوة القلب. أما الذي لا يبالي، بل يستهتر، فإنه يصل إلى قساوة القلب التي تهلكه تمامًا..

إن كل العقوبات التي ننالها على الأرض، أو كل المشاكل والضيقات التي نتعرض لها إنما هي تحمل في داخلها صوت الرب يقول “ارجعوا إليَّ فأرجع إليكم” (ملا 3: 7). أترانا نلبي صوته هذا؟! هوذا الرسول يقول لنا “إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم” (عب 3: 15). أن الرسول يقول أيضًا:

“لا تستكبر بل خف.. فهوذا لطف الله وصرامته” (رو 11: 20، 22).

أما الصرامة فعلى الذين سقطوا. وأما اللطف فلك إن ثبت في اللطف. وإلا فأنت أيضًا ستقطع” (رو 11: 22).

لماذا إذن تعرض نفسك لصرامة الله، ولحكم القطع؟! أليس من الأفضل أن تحيا في مخافة الله، ولا تخطئ..؟

إن كنت تختبئ وراء محبة الله، فتذكر قداسة الله وعدله.

تذكر أن الله قدوس، وقداسته لا حدود لها ولا قياس. وإن كان البشر في برهم المحدود يشمئزون من الخطية، فكم بالأولى الله الذي قداسته لا تحد!! كم تكون الخطية إذن بشعة في نظر الله؟! هوذا يوسف الصديق -لما عرضت عليه الخطية- قال وهو يهرب منها: “كيف أخطئ، وافعل هذا الشر العظيم أمام الله؟!” (تك 39: 9). ولم يعتبر أنها شر عادي، وإنما هي شر عظيم..

إنك تخجل أن تفعل الخطية أمام شخص بار. وتخجل أكثر وأكثر إن كان ملاك أمامك. فكم بالأولى أمام الله؟!

عيبك إذن أنك لا تشعر بوجود الله أمامك، حينما ترتكب الخطية. كأولئك الذين قال عنهم المزمور “لم يجعلوا الله أمامهم” (مز 54: 3). لذلك لا تخاف الله. وترتكب الخطية، والله ليس في ذهنك، وكأنه لا يراك!!

ليتك تخاف الله كما تخاف الناس..

وليتك تخجل من الله، كما تخجل من الناس..

وكما تعمل حسابًا لفكرة الناس عنك، وحكم الناس عليك، ليتك تعمل ألف حساب لحكم الله عليك.

الخطية التي تعملها أمام الناس، لأنك تحب أن تكون لك سمعة طيبة أمامهم. أما الله الذي يرى كل ما تفعله أمامه في الخفاء، فلا تعمل له حسابًا، وتفقد مخافة الله!!

لماذا تدقق كثيرًا في تصرفاتك أمام الناس ولا تدفق في تصرفاتك أمام الله؟!

لسبب واحد، هو أنك تخاف الناس ولا تخاف الله.. لأنك شخصان: أحدهم أمام الناس في مظهرية بارة، وأمام الله في حقيقتك الخاطئة. وهكذا ترى أن عدم مخافتك لله قد أوصلتك إلى الرياء.. وإلى تعدد الشخصية، وإلى خداع الناس بمظهر زائف هو غير حقيقتك!!

وبينما تعمل الخطية أمام الله بلا خوف، نراك تخاف أن طفلًا صغيرًا يراك!

بل تخاف أن خادمك أو أحد مرؤوسيك يراك!

وتخاف في بعض المواقف أن تؤخذ لك صورة، أو تسجل لك كلمة، إن كان في شيء من هذا ما ينقص قدرك أمام الناس، أو ما يظهر عيبًا فيك.. لذلك تحترس جدًا في وجود الناس احتراسًا لا تهتم به مطلقًا، حينما تشعر أنه لا توجد عين تراك.

وهذا دليل على عدم مخافة الله؟ لأن عين الله تراك في الوقت الذي لا يراك فيه الناس..

لذلك من التداريب الهامة التي يجب عليك أن تتدرب عليهما لتصل إلى مخافة الله:

أنك لا تعمل في الخفاء، ما تخجل أن تعمله أمام الناس.. ولا تفكر في ذهنك فكرًا لا تقدر أن تعلنه للناس. وقل لنفسك: ينبغي أن أخجل من الله الذي يراني، والذي يفحص أفكار عقلي، ونيات نفسي، وشهوات قلبي. وقل لنفسك أيضًا:

لا يصح أن أكون كالقبور المبيضة من الخارج، وفي الداخل عظام نتنة!!

لأن الرب بهذا الوصف قد وبخ أولئك الكتبة والفريسيين المرائين (مت 23: 27).

حاول إذن أن تكون في داخل نفسك حريصًا على عمل البر على الأقل كما تحرص أمام الناس. والفكر الذي يخجلك أن يعرفه الناس، لا تفكر. وكذلك بالنسبة إلى العمل والمشاعر.

وأقصد بالناس هنا الأبرار منهم الذين يراعون القيم.

ولذلك أدعوك إلى معاشرة الأبرار من الناس الأبرار، حتى تتعلم مخافة الله منهم..

وأيضًا حتى يتحول حرصك في وجودهم إلى عادة عندك تمارسها حتى وأنت وحدك في عدم وجودهم معك..

وفي نفس الوقت ابتعد عن عشرة المستهترين الذين لا توجد مخافة في قلوبهم، لئلا تقلدهم دون أن تشعر.. أو قد يستهزئون بتدقيقك وحرصك، فتظن أنه مبالغة ومغالاة، وتزول بشاعة الخطية من تفكيرك، وتصل مثلهم إلى اللامبالاة وتفقد مخافة الله.

8- لكي نصل إلى مخافة الله علينا أن نتذكر عقوبته ودينونته الرهيبة 🔗

2- لكي نصل إلى مخافة الله علينا أن نتذكر عقوبته ودينونته الرهيبة 🔗

الخوف من العقوبة طبيعة في الإنسان. ولولا هذا الخوف، لا تنشر الشر في كل مكان. إنه نوع من الردع، يمنع وقوع الشر.

بدأ الخوف من العقوبة منذ أيام أبينا آدم:

لقد خاف حينما أخطأ، واختبأ هو وحواء خلف الشجر. واستمر الخوف في الأنبياء والقديسين. واستمر الخوف في نسلها.. حتى في الأنبياء والقديسين. واستمر الله في فرض عقوباته على المخطئين ليقودهم إلى المخافة والتوبة.

وقد سجل لنا الكتاب المقدس عقوبات كثيرة:

ولست أقصد فقط التي وردت في العهد القديم، ولا لعنات الناموس التي كانت تقال على جبل عيبال (تث 27: 13) ولا حتى الضربات والعقوبات التي وردت في سفر الرؤيا (رؤ 8) في العهد الجديد، عهد النعمة والحق. ولا العقوبات التي صدرت من فم السيد المسيح له المجد، ومن أفواه تلاميذه القديسين، إنما أقول:

حتى الوصية الإلهية الأولى، كانت مصحوبة بعقوبة.

نعني وصيه الله لأبوينا الأولين في الجنة. كانت مصحوبة بعقوبة في حالة المخالفة: “موتًا تموتًا” (تك 2: 17).. بينما كانت الوصية موجهة إلى نوعية ممتازة جدًا، هي آدم وحواء في حالتهما السامية الأولى، التي كانت فائقة جدًا لحالة الطبيعة البشرية الحالية. إذ كانا في منتهي البراءة والبساطة لا يعرفان شرا، حيث كانا عريانين ولا يخجلان.

وقد نفذ الله عقوبته على هذا الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله.

الله المحب، الذي كان يتكلم في محبة مع ادم الطاهر البريء، هو نفسه الذي خافه أدم بعد الخطية، وهو الذي عاقب أدم وحواء، وطردهما من الجنة، وفرض عليهما التعب والوجع. والحية التي كانت خاضعة للإنسان، أعطاها سلطان أن تسحق عقبه (تك 3: 15-19).

وقال الله للإنسان -وهو يعاقبه- “لأنك تراب، وإلى التراب تعود” (تك 3: 19).

ولعل فكرًا دار في عقل أبينا أدم: “هل أنا يا رب تراب؟! ألست صورتك ومثالك؟! وكأن الله يرد عليه قائلا: لست أن صورتي ولست مثالي. لقد كنت صورتي، حينما كنت نقيا بسيطا ولكنك لما أخطأت فقدت هذه الصورة، وأصبحت ترابا، مجرد تراب كما كنت. وإلى التراب تعود..

إن العقوبة لأزمة للإنسان. شرعها لازمة للإنسان. شرعها الله لفائدته.

حتى الخطايا التي تبدو بسيطة، وضع الله لها عقوبات.

هي كلمة (رقا)، أبسط كلمة تبدو فيها علامة من عدم التوقير (مت 5: 22). بل كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس، يعطون عنها حسابا في يوم الدين (مت 12: 36). وما اخطر قول القديس باسيليوس الكبير:

ماذا أستفيد أن فعلت كل البر ثم قلت لأخي يا أحمق وصرت بهذا مستحقا نار جهنم حسب المكتوب (مت 5: 22)؟!

أن مجرد كلمة واحدة يخطئ بها الإنسان، تسبب له دينونة لأن الإنجيل يقول “وبكلامك تدان” (مت 12: 37). وكلمة شتيمة يمكن يسببها أن يفقد الإنسان الملكوت، لأن الكتاب يقول “لا شتامون يرثون ملكوت الله” (1كو 6: 10) ووضع هؤلاء الذين يشتمون في قائمة واحدة مع الزناة وعبدة الأوثان والفاسقين (1كو6: 9) وكلمة قسم (حلفان) يمكن أن تقعوا بها تحت الدينونة (يع 5: 12).

إذن فلتكن مخافة الله في قلوبنا. لأن خطية واحدة يمكن أن تكون سببًا في هلاك الإنسان. والكتاب يقول:

“لأن من حفظ كل الناموس، وعثر في واحدة، فقد صار مجرمًا في الكل” (يع 2 : 10).

إذن يجب أن نخاف من دينونة الله لنا. ومن يوم الدينونة الرهيب، الذي يسميه الرسول أحيانًا يوم الغضب، فيقول “ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب، تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة، الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله” (رو 2: 5، 6). ويقول أيضًا عن الذين يطاوعون الإثم “سخط وغضب، شدة وضيق، على نفس إنسان يفعل الشر..” (رو 2: 8، 9).

وقد تحدث السيد المسيح نفسه عن الخوف من الدينونة.

فقال “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد وبعد ذلك ليس المهم ما يفعلونه أكثر. بل أريكم ممن تخافون: خافوا من الذين بعد ما يقتل له سلطان أن يلقي في جهنم. نعم أقول لكم من هذا خافوا” (لو 12: 4، 5).

وهكذا كرر نصيحة الخوف ثلاث مرات في عبارة واحدة.

وعلمنا أن نخاف من الدينونة، ومن جهنم، وأن نخاف الله الذي له سلطان هذه العقوبة.

وخوف الدينونة وفقد الخلاص، يتحدث عنه القديس بولس فيقول “فَلْنَخَفْ، أَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ وَعْدٍ بِالدُّخُولِ إِلَى رَاحَتِهِ، يُرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنَّهُ قَدْ خَابَ مِنْهُ!” (عب 4: 1).

إنه يخاف أن نفقد الدخول إلى الراحة الأبدية، مع وعد الله لنا بها. وهو هنا يكلم أخوة مؤمنين لهم المواعيد، يخاطبهم رسالته بقوله “أيها الأخوة القديسون شركاء الدعوة السماوية” (عب 3: 1). إنهم قديسون حقًا. ولكن من الممكن أن يخطئوا ولذلك فهناك خوف عليهم..!

ومع أن الرسول يقول لهؤلاء الأخوة القديسين “فإذ لنا أيها الأخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع..” الثقة من جهة كمال الكفارة إلى قدمها الرب عنا.. ولكن ماذا من جهتنا نحن؟! يتابع الرسول حديثة فيقول:

“فإن أخطأنا باختيارنا، بعدما أخذنا معرفة الحق، لا تبقَى بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف، وغيره نار عتيدة أن تأكل المضادين” (عب 10: 26، 27).

وإذ يذكر خوف الدينونة، يشرح خطورة السبب (الخطية) فيقول: من خالف ناموس موسى، فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بغير رأفة. فكم عقابًا أشر، تظنون أنه يحسب مستحقًا من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قدس به دنسًا، وازدري بروح النعمة” (عب 10: 28، 29).

حقًا إنه كلام خطير، يجعل الذي لا يخاف الله، يفيق من غفلته.. ويكمل الرسول حديثة قائلًا:

مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي (عب 10: 31).

والوقوع المخيف في يد الله، هو في يوم الدينونة. يقول القديس يوحنا في سفر الرؤيا “ثم رأيت ملاكًا طائرًا في وسط السماء، معه بشارة أبدية ليبشر الساكنين على الأرض وكل أمه وقبيلة ولسان وشعب، قائلًا بصوت عظيم: “خافوا الله وأعطوه مجدًا” (رؤ 14: 7).. لماذا هذا الخوف؟ أو ما مناسبته؟

يقول الملاك “لأنه قد جاءت ساعة الدينونة”…

رهيبة هي ساعة الدينونة… كل حياتنا نعدها لذلك اليوم وتلك الساعة…

أنظروا ماذا يقول الكتاب عن ذلك اليوم:

يقول عنه سفر ملاخي النبي يوم الرب العظيم المخوف” (ملا 4: 5). ونقول عنه في القداس الإلهي “وظهوره الثاني من السموات المخوف والمملوء مجدًا”. هذا المجيء الذي يقول عنه الكتاب “يرسل ابن الإنسان ملائكته، فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم، ويطرحونهم في أتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان” (مت 13: 42، 41).

ويقول سفر يوئيل النبي “لأن يوم الرب عظيم ومخوف جدًا من يطيقه؟!” (يوئيل 2: 11). ويقول أيضًا “تتحول الشمس إلى ظلمة، والقمر إلى دم، قبل مجيء يوم الرب العظيم المخوف. يكون كل من يدعو باسم الرب يخلص” (يوئيل 2: 31). وقد تكرر هذا الوصف في كلام القديس بطرس الرسول في يوم الخمسين (أع 2: 21،20).

ويقول القديس بطرس أيضًا في رسالته الثانية: “ولكنه يأتي كلص في الليل يوم الرب، الذي فيه تزول السموات بضجيج، وتنحل العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها… وتنحلّ السموات ملتهبة، والعناصر محترقة تذوب” (2 بط 3: 12،10).

أما عن مشاعر الناس في ذلك اليوم الرهيب:

فيقول سفر إشعياء النبي “هوذا يوم الرب قادم، قاسيًا بسخط وحمو غضب.. لذلك ترخى الأيادي، ويذوب كل قلب إنسان” (أش 13: 9)… ويشبه هذا ما ورد في (صف 1: 14 – 16).

ويقول هوشع النبي عن خوف الناس وقتذاك:

“ويقولون للجبال غطينا، وللتلال اسقطي علينا” (هو 10: 8).

ويتكرر هذا الكلام أيضًا في سفر الرؤيا عند فتح الختم السادس “وإذا زلزلة عظيمة حدثت، والشمس صارت سوداء كمسح من شعر، والقمر صار كالدم، ونجوم السماء سقطت على الأرض، كما تطرح شجرة التين سقاطها إذا هزتها ريح عظيمة… وملوك الأرض والعظماء والأغنياء والأمراء والأقوياء، وكل عبد وكل حر، أخفوا أنفسهم في المغاير وفي صخور الجبال، وهم يقولون للجبال وللصخور اسقطي علينا وأخفينا عن وجه الجالس على العرش وعن غضب الخروف. لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم، ومَنْ يستطيع الوقوف؟!” (رؤ 6: 12 – 17).

لأجل كل هذا، ينصحنا الرب ويقول:

“اسهروا إذن لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم” (مت 24: 42).

ويقول عن حالة ذلك العبد الرديء غير المستعد “يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره، وفي ساعة لا يعرفها، فيشقه من وسطه، ويجعل نصيبه مع المرائين. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان” (مت 24: 51،50) (لو 12: 46). ولهذا يقول “فكونوا أنتم إذن مستعدين، لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان” (لو 12: 40).

اسهروا إذن على خلاص أنفسكم “وسيروا زمان غربتكم بخوف” (1 بط 1: 17) “لتكن أحقاؤكم ممنطقة، وسرجكم موقدة” (لو 12: 35)، واضعين أمامكم هذا الإنذار:

“لئلا يأتي بغتة، فيجدكم نيامًا” (مر 13: 36).

وعن سهركم واستعدادكم لهذا اليوم، لقد وضعت لكم كتابًا اسمه (السهر الروحي) يمكن أن تضيفوه إلى موضوعنا هذا. ومن مخافة هذا اليوم، استعدوا له بالتوبة. وكما يقول الرسول “لا تشاكلوا أهل هذا الدهر، بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم” (رو 12: 2). وتذكروا حالة غني لعازر، الذي كان يشتهي مجرد قطرة ماء يبردَ بها لسانه، لأنه معذب في ذلك اللهيب (لو 16: 24).

ولكن لعل البعض يقول “ما شأننا بذلك اليوم، وهو بعيد؟!” أقول لك: حتى إن كان اليوم الأخير بعيدًا، فإن يومك أنت بالذات لا تدري موعده.. فينبغي أن تكمل خلاصك بخوف ورعدة (في 2: 12).

وخير لك أن تخاف الآن خوفًا فيه رجاء، إذ يدفعك إلى التوبة، من أن تخاف في ذلك اليوم بلا أمل.

وهذا هو تعليم الكنيسة الذي تُعَلِّمهُ لنا في كل يوم.

9- مخافة الله في صلوات الأجبية وفي المزامير وطقوس الكنيسة 🔗

3- مخافة الله في صَلوات الأجبيَة وفي المزامير وطقوس الكنيسة 🔗

إن الكنيسة المقدسة تعلمنا مخافة الله وتدربنا عليها في صلوات الساعات (في الأجبية ).

وبخاصة في صلوات النوم والستار ونصف الليل.

ففي صلاة الستار “يا رب أن دينونتك المرهوبة. إذ تحشر الناس، وتقف الملائكة، وتفتح الأسفار، وتنكشف الأعمال، وتفحص الأفكار. أية إدانة تكون إدانتي، أنا المضبوط في الخطايا؟!”

هذا الخوف من الدينونة والانكشاف أمام الكل…

تصوروا حينما يجمع الله العالم كله والملائكة، ويمر عليهم –كما من جهاز سينما– شريط يحوى كل أعمال الناس وأفكارهم: من خطايا ونجاسات بشعة، ودنس كل نفس..! ويعلن لهم أسرار الناس، وأفكارهم ومشاعرهم ونياتهم. وينكشف أيضًا ما كان فيهم من رياء وخداع.. ويظهرون على حقيقتهم، أي خجل يكون في ذلك اليوم، وأي رعب، حينما تصبح كل خفايانا معروفة للكل؟! لأنه كما يقول الرب “ليس مكتوب إلا ويعلن” (مر 4: 22) “ولا خفي إلا ويظهر” (لو 8: 17).

إذن إن أردت ألا تنكشف في ذلك اليوم وتخجل، تُب. فالتوبة تمحو الخطايا فلا تظهر (أع 3: 19).

أيضًا الكنيسة تعلمنا في صلاة النوم أن نقول:

“هوذا أنا عتيد أن أقف أمام الديان العادل مرعوب ومرتعب من كثرة ذنوبي، لأن العمر المنقضي في الملاهي يستوجب الدينونة. لكن توبي يا نفسي ما دمتِ في الأرض ساكنة.. انهضي من رقاد الكسل، وتضرعي إلى المخلص بالتوبة، قائلة اللهم ارحمني وخلصني”.

ليعود المصلي، ليقول في صلاة النوم أيضًا:

“لو كان العمر ثابتًا، وهذا العالم مؤبدًا، لكان لك يا نفسي حجة واضحة. لكن إذا انكشفت أفعالك الرديئة وشرورك القبيحة أمام الديان العادل، فأي جواب تجيبين، وأنت على سرير الخطايا منطرحة، وفي إخضاع الجسد متهاونة؟!

وهكذا يوبخ المصلى نفسه كل ليلة، متذكرًا الموت والدينونة، والانكشاف، والديان العادل…

وهذه المخافة تدعوه إلى التوبة وإلى طلب الرحمة، وإلى ترك الكسل والتهاون. وإلا فإنه سيقابل يوم الدينونة في رعب وارتعاد.

وفى صلاة نصف الليل، تضع الكنيسة أمامنا فصلًا من الإنجيل عن مثل العذارى اللائي كن ينتظرن مجيء الرب، وكيف دخلت الحكيمات معه، بينما وقفت الجاهلات خارجًا، وقال لهن الرب: الحق أقول لكن إني لا أعرفكن (مت 25: 12). ما أرهبها عبارة!!

وهكذا تذكرنا الكنيسة بيوم المجيء الثاني ورهبته.

بفصل آخر من إنجيل معلمنا القديس لوقا، يقول فيه الرب “فكونوا أنتم مستعدين، فإنه في ساعة لا تعرفونها يأتي ابن الإنسان” (لو 12: 40) (مت 25: 13).

وتعلمنا الكنيسة أن نصلي بعد ذلك ونقول:

“بما أن الديان حاضر، اهتمي يا نفسي وتيقظي. وتفهمي تلك الساعة المخوفة. فإنه ليس رحمة في الدينونة لمن لم يستعمل الرحمة…”.

وتعلمنا الكنيسة أيضًا أن نقول، ونحن نتذكر مثل العذارى “تفهمي يا نفسي ذلك اليوم الرهيب واستيقظي.. لأنك لا تعلمين متى يأتي نحوك الصوت القائل ها هوذا العريس قد أقبل. وانظري يا نفسي ولا تنعسي، لئلا تقفي خارجًا قارعة مثل الخمس العذارى الجاهلات…”.

“انظري يا نفسي لئلا تثقلي بالنوم، فتلقى خارج الملكوت، بل اسهري”.

ومن أجل مخافة الموت والدينونة، تدعونا الكنيسة إلى دوام السهر والاستعداد، وتقدم لنا في صلاة نصف الليل قول الرب في الإنجيل “لتكن أحقاؤكم ممنطقة، ومصابيحكم موقدة، وأنتم أيضًا تشبهون أناسا ينتظرون سيدهم متى يرجع.. طوبى لأولئك العبيد، الذين إذا جاء سيدهم، يجدهم ساهرين…” (لو 12: 35 – 37).

كذلك بسبب خوف الدينونة، تدعونا الكنيسة إلى التوبة.

وتقدم لنا في صلاة نصف الليل أيضًا فصل الإنجيل الخاص بتوبة تلك الخاطئة التي بللت قدمي السيد المسيح بدموعها، ومسحتهما بشعر رأسها (لو 7: 38). وتعلمنا أن نقول بعد قراءة هذا الفصل: “أعطني يا رب ينابيع دموع كثيرة، كما أعطيت في القديم للمرأة الخاطئة…”.

إنها لا تعلمنا فقط المخافة والتوبة، بل الدموع أيضًا.

وتعلمنا أيضًا أن نقول في هذا الجزء من صلاة نصف الليل “إذا ما تفطنت في كثرة أعمالي الرديئة، ويأتي على قلبي فكر تلك الدينونة الرهيبة، تأخذني رعدة، فأهرب إليك يا الله محب البشر. فلا تصرف وجهك عني، متضرعًا إليك يا من أنت وحدك بلا خطية: أنعم لنفسي المسكينة بتخشع، قبل أن يأتي الانقضاء وخلصني”.

وبسبب تلك المخافة، تعلمنا الكنيسة أن نطلب الرحمة:

فنصرخ ونقول “بعين متحننة يا رب أنظر إلى ضعفي. فعما قليل تفنى حياتي، وبأعمالي ليس لي خلاص. فلهذا اسأل: بعين رحيمة يا رب، انظر إلى ضعفي، وذلي ومسكنتي وغربتي، ونجني”.. “لهذا أشفق على أيها المخلص، لأنك أنت هو محب البشر وحدك”…

وعن المجيء الثاني للرب ليدين العالم، تعلمنا الكنيسة أن نقول في مخافة الله:

“في وقت مجيئك لتدين العالم، فلنستحق سماع ذلك الصوت المملوء فرحًا، القائل تعالوا إلى يا مباركي أبي، رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم. نعم يا رب، سهل لنا أن نكون في تلك الساعة بغير خوف ولا اضطراب، ولا سقوط في الدينونة. ولا تجازينا بسبب كثرة آثامنا. لأنك أنت المتحنن الطويل الأناة الكثير الرحمة…”.

وفى مخافة الله تعلمنا الكنيسة أن نقول في صلاة الغروب:

إذا كان الصديق بالجهد يخلص، فأين أظهر أنا الخاطئ؟!

وهي صلاة مأخوذة من الرسالة الأولى لمعلمنا القديس بطرس الرسول حيث يقول، “إن كان البار بالجهد يخلص، فالفاجر والخاطئ أين يظهران؟!” (1 بط 4: 18).

هذه العبارة بالذات، ألا تعلمنا المخافة، التي نبذل فيها كل جهدنا، حتى نحسب مع الأبرار..؟!

وبسبب المخافة، تعلمنا الكنيسة أن نقول “يا رب ارحم” 41 مرة في كل صلاة من صلواتنا اليومية.

بل نكرر عبارة “يا رب ارحم” بهذا العدد في كل صلاة من الصلوات الليتورجية، وفي عشية وباكر، وفي كل قداس. طالبين الرحمة باستمرار. وطلب الرحمة هو دليل على المخافة.

أم ترانا نطلب الرحمة، بغير مخافة؟!

كلا، بل إننا نقول في صلاة نصف الليل:

سمر خوفك في لحمي (مز 119: 120).

الكنيسة إذن تعلمنا مخافة الله، وتدربنا عليها في الصلاة. بل تجعلنا نبدأ كل صلواتنا اليومية والطقسية بصلاة الشكر التي نقول في ختامها:

“امنحنا أن نكمل هذا اليوم، وكل أيام حياتنا، بكل سلام مع مخافتك“. إذن هذه المخافة، نطلبها كل يوم.

وحينما ندخل إلى الكنيسة، نتعلم أن نسجد أمام الهيكل، ونحن نقول للرب: “أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل إلى بيتك، وأسجد قدام هيكل قدسك بمخافتك”. وهي عبارة مأخوذة من المزمور الخامس ويكررها الأب الكاهن في تبخيره أمام الهيكل.

وغالبية طقوس الكنيسة وصلواتها تشتمل على عبارة الخوف أو المخافة.

ففي رفع بخور عشية، يبدأ الأب الكاهن صلاته السرية بقوله “أيها المسيح إلهنا العظيم المخوف الحقيقي”.

وفى صلاة التحليل يقول “طهرنا، حاللنا، وحالل كل شعبك. املأنا من خوفك، وقومنا إلى إرادتك المقدسة”..

وقبل قراءة الإنجيل، يصرخ الشماس ويقول: “قفوا بخوف من الله، وأنصتوا لسماع الإنجيل المقدس” ويقف الشعب كله في الكنيسة، ويخلع رئيس الكهنة تاجه من فوق رأسه، هيبة وتوقيرا لكلمات الإنجيل. كما خلع الأربعة والعشرون قسيسًا أكاليلهم وسجدوا أمام العرش قائلين: مستحق أنت أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة.. “(رؤ 4: 11، 10).

حقًا، ينبغي أن نسمع كلمة الله في خوف. لماذا؟

لأننا نعرف تمامًا أننا لم نطع كلام الله. فكل كلمة من الإنجيل سوف تحكم علينا. سندان بها. كما قال الرب “من رذلني ولم يقبل كلامي، فله من يدينه. الكلام الذي تكلمت به، هو يدينه في اليوم الأخير” (يو 12: 48). إذن أعطنا يا رب أن نسمع ونعمل بأناجيلك المقدسة، لئلا تديننا في اليوم الأخير.

كما نسمع كلمة الخوف في قراءة الإنجيل أثناء القداس الإلهي، كذلك في وقت حلول الروح القدس، يصيح الشماس:

اسجدوا لله بخوف ورعدة.

إنه الخوف الذي يليق بالحلول الإلهي. كما قيل عن موسى النبي وقت إعطاء الرب للوصايا على الجبل، إن موسى قال: أنا مرتعب ومرتعد (عب 12: 21). كذلك قال القديس يوحنا الرسول لما ظهر له الرب في سفر الرؤيا “فلما رأيته، سقطت عند رجليه كميت. فوضع يده اليمنى على قائلا لي لا تخف” (رؤ 1: 17).

الخوف يتعلق أيضًا بالذبيحة المقدسة، لكيما نقدمها ونتناول منها، بغير وقوع في دينونة..

وعبارة (بغير وقوع في دينونة) يكررها الكاهن كثيرًا أثناء القداس الإلهي..

ففي صلاة الاستعداد قبل تقديم الحمل يقول في صلاته السرية “أجعلنا مستوجبين بقوة روحك القدوس أن نكمل هذه الخدمة. لكي بغير وقوع في دينونة أمام مجدك العظيم، نقدم لك صعيدة البركة”.

وفى صلاة الحجاب بعد قراءة الإنجيل، يقول: “نسألك يا سيدنا، لا تردنا إلى الخلف، إذ نضع أيدينا على هذه الذبيحة المخوفة غير الدموية… نسأل ونتضرع إلى صلاحك يا محب البشر، أن لا يكون لنا دينونة، ولا لشعبك أجمع، هذا السر الذي دبرته لخلاصنا”.

يذكر هنا في مخافة دينونة التناول بغير استحقاق، التي ذكرها القديس بولس الرسول (1 كو 11: 27 – 30).

وهكذا يقول أيضًا في صلاة الصلح “أجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نقبل بعضنا بعضًا بقبلة مقدسة. لكي ننال بغير انطراح في دينونة من موهبتك غير المائتة السمائية”.

وعندما يتذكر الكاهن المجيء الثاني للسيد الرب يقول “وظهوره الثاني الآتي من السموات، المخوف المملوء مجدًا”.

أما عن المخافة من الموت، في صلاة الأجبية :

فيكفي هنا تشفعنا بالقديسة العذراء قائلين في صلاة الغروب “وعند مفارقة نفسي من جسدي، احضري عندي، ولمؤامرة الأعداء اهزمي، ولأبواب الجحيم أغلقي، لئلا يبتلعوا نفسي”…

ما أجمل قول القديس الأنبا أرسانيوس عن خوف الموت “طوباك يا أرساني، لأنك بكيت في حياتك كثيرًا من أجل خوف تلك الساعة”.

10- تحصل على مخافة الله بالدقة في محاسبة النفس، وبالتوبة والاتضاع 🔗

4- تحصل عَلى مخافة الله بالدقة في محاسَبة النفس وبتذكرك قول الرب أنا عارف أعمالك (رؤ3، 2) وتصل إلى المخافة أيضًا بالتوبة والاتضاع 🔗

الإنسان الذي لا يشعر بفداحة خطاياه، تزول مخافة الله من قلبه. أما المدقق في محاسبة نفسه، فإنه إذ يشعر بكثرة خطاياه وثقلها، فإن مخافة الله تكون على الدوام راسخة في قلبه…

إننا نصل إلى مخافة الله، إذا كنا نحاسب أنفسنا على كل عمل، وكل قول، وكل فكر، وكل حس، بكل تدقيق. بحيث لا نجامل أنفسنا، ولا نلتمس الأعذار لأخطائنا…

إن المخافة تجلب التدقيق. والتدقيق يجلب المخافة. وكل منها يقوى الآخر…

والعجيب في معاملاتنا للغير، أننا نحاسب غيرنا بكل دقة في أخطائه من نحونا. ولكننا لا نحاسب أنفسنا بنفس الدقة التي نحاسب بها غيرنا!! بل قد لا نحاسبها على الإطلاق!

لذلك إن أردت أن تكتسب مخافة الله التي هي بدء الطريق الروحي، لأن “بدء الحكمة مخافة الله” (أم 9: 10).. اجلس إلى نفسك كل يوم، واسأل ذاتك: ماذا فعلت؟ وماذا قلت؟ وفي أي شيء فكرت؟ فهكذا كان القديس أرسانيوس الكبير يسأل نفسه في كل يوم.

ولا تسأل نفسك فقط عن السلبيات التي سقطت فيها، وإنما أيضًا عن الإيجابيات التي قصرت فيها.

وهكذا تدخل مخافة الله في قلبك، إذ تجد أنك في الموازين إلى فوق (مز 62: 9).

إن الإنسان الروحي يحاسب نفسه حتى على توقف النمو. لأنه يعرف تمامًا أنه مطالب بحياة القداسة في قول الرب “كونوا قديسين، كما أنى أنا قدوس” (لا 20: 26). وهو أيضًا مطالب بحياة الكمال، حسب قول الرب في العظة على الجبل “كونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل” (مت 5: 48). وإذ يجد بينه وبين القداسة والكمال مسافات، يبكت نفسه وتدخله مخافة الله…

الإنسان المبتدئ يخاف أن يخطئ. أما البار فإن مخافة الله تلاحقه، لأنه لم يكمل بعد كل المطلوب منه في حياة البر ويتذكر قول الكتاب:

مَنْ يعرف أن يعمل حسنًا ولا يعمل، فتلك خطية له (يع 4: 17).

وهكذا يبكت نفسه، ليس على خطية قد فعلها، وإنما أيضًا على بر لم يفعله.. وهكذا يسأل نفسه باستمرار: هل بإمكانه أن يفعل أكثر من هذا أم لا؟ هل بإمكانه أن يجاهد أكثر، لكي يمتد إلى قدام، كما كان القديس بولس يفعل (في 3: 13).

الذي فيه مخافة الله، لا يخاف فقط من ارتكاب الخطية، ولا يقف عند حد الوصية، إنما يجاهد لكي ينمو في محبة الله، بغير حدود..

لا يكون دقيقًا فقط في محاسبته لنفسه، إنما هذه المحاسبة تجعله دقيقًا أيضًا في اعترافاته..

فما أسهل أن يفقد الإنسان مخافة الله، إذا كانت اعترافاته ناقصة، أو كان يبرر نفسه في اعترافاته، أو يلقى اللوم على غيره في أخطائه هو.

أو إن كان يظن في وقت الاعتراف أنه يقف فقط أمام الأب الكاهن، وليس أمام الله!! فالواقع إنه يعترف على الله في سمع الكاهن. ويأخذ الحلّ من الروح القدس من فم الكاهن…

أقول هذا لأن كثيرين يخجلون من أب الاعتراف ولا يخجلون من الله، الذي يقول له كل منا في المزمور “إليك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت” (مز50).

إن تبرير الإنسان لنفسه في وقت الاعتراف، وفي أي وقت دليل على عدم وجود مخافة الله في القلب.

فلا تحاول إذن أن تبرر ذاتك، أو أن تبسّط الأمور، أو أن تسمي الخطية باسم آخر يخفف من بشاعتها، أو أن تستتر وراء الظروف والملابسات وتذكر قول أب جبل نتريا للقديس ثاؤفيلس:

“لا يوجد أفضل من أن يرجع الإنسان باللوم على نفسه، في كل شيء”.. بهذا نصل إلى مخافة الله.

ولكي تصل إلى المخافة، ضع أمامك باستمرار قول الرب في سفر الرؤيا “أنا عارف أعمالك”…

إنها عبارة تكررت سبع مرات، قالها الرب لكل ملاك من ملائكة الكنائس السبع “أنا عارف أعمالك” (رؤ3، 2). فيا ليت كل إنسان منا يضع أمامه على الدوام هذه العبارة. ويثق تمامًا أنه سيقف أمام الله الذي سيقول له “أنا عارف أعمالك” ليس فقط في يوم الدينونة. إنما يقول له هذه العبارة آن وكل أوان. بهذا تدخل المخافة إلى القلب..

فكل الخطايا التي أخفيناها على الناس، حتى لا تنحدر كرامتنا أمامهم، الله يعرفها جميعًا. وهي واضحة أمامه لا تخفى. لذلك علينا أن نتذكر قول القديس آبا مقار الكبير، لخاطئ ستره هذا القديس، وقال له:

احكم يا أخي على نفسك، قبل أن يحكموا عليك..

حاسب إذن نفسك، واحكم على نفسك، فليس خفي إلا ويظهر، ولا مكتوم إلا ويستعلن. وما دام الله يقول لك “أنا عارف أعمالك” إذن اعترف بها أمامه، واطلب من القوة على التوبة…

إن الذي يخاف الله، يخاف من كل فكر خاطئ، ومن كل شهور دنس، ومن كل نية بطالة.. من كل هذه الأمور التي لا يلاحظها الناس. ولكن الله يراها ويعرفها.

والذي يخاف الله، يخاف أيضًا من انكشافه وخجله أمام الملائكة الأطهار، وأمام أرواح القديسين.

يخشى من الملاك الحارس. ويخجل حتى من صور القديسين المعلقة في حجرته. وكأن كل واحد من تلك الأرواح يردد أيضًا عبارة الرب “أنا عارف أعمالك”… ويقول هذا الخاطئ في نفسه: قطعًا كل هؤلاء يرونني، وأنا أعمل ما أعمله!!

وطبعًا كل هذا سينكشف. فهناك أجهزة تسجيل مسجل عليها كل شيء، بالصوت والصورة، حتى الأفكار!! وكأن الله يقول: هات يا ميخائيل ملف فلان، افتحه واقرأ أمام جميع الناس… والذي لم نحاسب أنفسنا عليه، سنحاسب عليه أمام الكل…

كأن آلة تصوير تلتقط كل منظر خاطئ.. وكأن آلة تسجيل تسجل كل صوت. تسجل كل ما في داخلنا، وكل ما في الخارج، حتى نوايانا!! ويقول الرب لكل منا “أنا عارف أعمالك”… ألا يقودنا كل هذا إلى مخافة الله؟!

نستطيع أيضًا أن نصل إلى مخافة الله عن طريق تواضع القلب.

إن الإنسان الواثق ببره، الشاعر بقوته، ربما يظن أن السقوط بعيد عنه، وأن الخطية لا تقوى عليه. أما المتواضع فيضع أمامه على الدوام قول الرسول “لا تستكبر بل خف” (رو 11: 20) وأيضًا “من يظن أنه قائم، فلينظر أن لا يسقط” (1 كو 10: 12). لذلك فهو يدقق في كل صغيرة، ولا يلقي بنفسه في مواطن العثرة، ولا يظن في نفسه أنه أكبر من الخطية. ويتذكر كيف أن الخطية “طرحت كثيرين جرحَى، وكل قتلاها أقوياء” (أم 7: 26).

ولهذا تملكه المخافة فيحترس ويدقق. وهذه المخافة تمنحه الحرص وتنقي قلبه.

ويخاف من الفكر الطارئ، لئلا يتأصل ويتطور إلى ما هو أخطر. يخاف من الثعالب الصغيرة المفسدة للكروم (نش 2: 15). يخاف من العثرات ويبعد عنها، ولا يدعى لنفسه القوة التي تنتصر على كل عثرة. ويقول لنفسه: أنا لست أقوَى من أولئك القديسين الذين سقطوا. لست أقوى من داود (2 صم11).

ولست أقوى ولا أحكم من سليمان الذي سقط (1مل11).

والإنسان المتواضع تصحبه المخافة مهما كبر…

مهما كبر في السن، ومهما نما في الروحيات، ومهما كان في بيئة مقدسة. فإن آدم قد سقط وهو في الفردوس، وفي حالة من البراءة فوق الطبيعة الحالية! في حالة البساطة التي لا تعرف خطية، ولم تجرب خطية. وداود سقط وهو مسيح الرب، رجل الصلاة والمزمار. وكان روح الرب عليه (1صم 16: 13). وكان يضرب بالعود، فيذهب الروح الرديء عن شاول الملك (1 صم 16: 23).

سليمان قد سقط، وهو أحكم أهل الأرض كلها، بحكمة ليست بشرية، وإنما هبة من الله نفسه (1 مل 3: 12).

فمادام الشيطان يطارد حتى أعاظم القديسين ولا ييأس منهم. فعلينا إذن إن نضع مخافة الله في قلوبنا.

إن بطرس الرسول لم يضع المخافة في قلبه، وقال للرب “لو أنكرك الجميع، أنا لا أنكرك” “ولو اضطرت أن أموت معك، لا أنكرك” (مت 26: 35، 33). “أنا مستعد أن أمضى معك، حتى إلى السجن” (لو 22: 33). يا ليت بطرس وضع المخافة في فكره. وقال أنا أضعف يا رب من التجربة، ومن غربلة الشيطان لنا (لو 22: 31). اسندن فأخلص. كن معي في ساعة التجربة لئلا أضيع.

الإنسان المتواضع الذي تسكن المخافة في قلبه، يلجأ دائمًا إلى الصلاة طلبًا للمعونة.

في محاسبته لنفسه، يدرك عمق خطاياه، فتملكه المخافة، فيصلي طالبًا المغفرة. وأيضًا في إدراكه لضعفه، تملكه المخافة فيصلي لكي يحارب الله عنه، فلا يقوى عليه العدو…

وفى مخافته أيضًا يسعى إلى التوبة.

حياة التوبة توصل إلى مخافة الله.

ومخافة الله توصل أيضًا إلى التوبة.

والاثنان يعملان معًا، كل منهما يكون سببًا للآخر، ونتيجة له..

الإنسان التائب، خطيته دائمًا أمام عينيه، تذكره بضعفه السابق وهزيمته استسلامه للعدو، فيبكي على خطاياه في مخافة الله. ويقول مع داود النبي في مزمور التوبة “خطيتي أمامي في كل حين” (مز50).

والإنسان التائب كثير الدموع، كداود أيضًا، الذي بلل فراشه بدموعه (مز6). وكل ذلك يثبته في مخافة الله.

والإنسان التائب لم يصل بعد إلى الدالة التي تخفف المخافة.

إنه لا يزال يردد بعد عبارة “لست مستحقًا أن أدعى لك ابنًا..” (لو 15: 19).

والإنسان التائب يكون دائمًا كثير الحرص، يخشى أن تصيبه نكسة فترجعه مرة أخرى إلى السقوط، لذلك تجده يحيا باستمرار في مخافة الله. إنه بالجهد قد وصل إلى مصالحة. وبجهد أكثر يحرص على استمرار المصالحة معه. وهكذا يبقى في مخافة الله.

ليتكم يا أخوتي تبقون في حياة التوبة، التي تجلب لكم الحرص والمخافة.

حتى أن نقلكم الله إلى حياة الحب الإلهي، تستمر مخافة الله في قلوبكم، كلون من المهابة له ولوصاياه ومقدساته.

11- تصل إلى مخافة الله بمهابة الكبار 🔗

5- تصل إلى مخافة الله بمهابَة الكبَار 🔗

إذا تعود الإنسان أن يهاب من هو أكبر منه، أعنى أن يهاب والديه، ومدرسيه، وأقاربه الكبار، وآباء الكهنة، ورؤسائه في العمل.. حينئذ سيصل بالضرورة إلى مخافة الله الذي هو أعظم من الكل..

لأنه إن كان الشخص لا يهاب أباه الذي يراه، فكيف يمكنه أن يخاف الله الذي لا يراه؟!

إن أبا الآباء يعقوب يذكر هيبة أبيه اسحق (تك 31: 42). لهذا فإن الذي يشعر بهيبة أبيه وجلاله ووقاره، لا يستطيع أن يخطئ أمامه، ولا أن يخطئ إليه، من هيبة أبيه. وتقول وصايا العهد القديم “كل إنسان سبّ أباه أو أمه، فإنه يُقتل. قد سبّ أباه أو أمه، دمه عليه” (لا 20: 9). ويقول الكتاب أيضًا:

“العين المستهزئة بأبيها، والمحتقرة إطاعة أمها، تقورها غربان الوادي” (أم 30: 17).

وهكذا أمر الله بطاعة الوالدين، وعدم الاستخفاف بأوامرهما حتى إن كبر الابن، وناقش والده في أمر من الأمور، يكون ذلك باحترام يليق بمعاملة الأب. ولا يجوز له أن يتحدث معه حديث الند بالند، أو يتعامل معه على قدم المساواة.. بل يضع أمامه باستمرار وقار الأبوة، ومستوى السن.

قديمًا كان الصغار لا يستطيعون أن يتكلموا في وجود الكبار، من فرط هيبتهم..

نَرَى هذا واضحًا في قصة أيوم الصديق، الذي كان له ثلاثة أصحاب تناقشوا معه مدة طويلة. بينما صمت رابع كان بينهم. وكان اسمه أليهو بن برخئيل البوزي. ولما أضطر إلى الحديث بسبب أخطائهم، قال لهم “أنا صغير في الأيام، وأنتم شيوخ. لأجل ذلك خفت وخشيت أن أبدي لكم رأيًا. قلت الأيام تتكلم، وكثرة السنين تظهر حكمة” (أي 32: 7،6).

والقديس الأنبا بيجيمي السائح، يتحدث عن بدء رهبنته، فيقول إنه عاش سنوات كثيرة وسط الشيوخ لم يرفع عينيه إلى وجه واحد منهم…

أما في أيامنا هذه، فباسم الحرية والديمقراطية، قل احترام الكبار. وأصبح الصغير يمكنه أن يجادل الكبير ويستخف برأيه، بدون احترام..

وبالتالي يتدرج إلى الجرأة على كل ما هو كبير، حتى على القانون، وعلى النظام العام، ويفقد المخافة، فيتحول إلى الاستهانة بكل شيء… وما أسهل في هذا الوضع أن يفقد مخافته لله أيضًا، ويفقد احترامه لوصاياه. وبدلًا من أن يطيعها، يناقشها!!

ولكن لا يمكن أن يفعل هذا، من تعود احترام القانون والنظام. إن الشخص الذي يحترم إشارة المرور، ولا يمكن أن يكسرها مهما كانت الدوافع، هذا سيحترم بالأولى وصية الله ويهابها…

كذلك التلميذ الذي تعود احترام مدرسه، والجندي الذي تعود احترام قائده، كلاهما سيتعود مخافة الله.

قديمًا، في القرن الأول الميلادي، وقبل الميلاد، كان المعلم أو الأستاذ يجلس على كرسيه في قاعة الدرس، بينما يجلس التلاميذ على الأرض عند قدميه. كما ذكر بولس الرسول إنه تعلّم “عند قدمي غمالائيل” (أع 22: 3).

بهذا الوضع تعود التلاميذ احترام معلميهم. ولكن الوضع تغير الآن.. وأصبح على الأقل، إذا تحدث التلميذ مع أستاذه، يجب أن يقف ليكلمه. ولا يتكلم التلميذ وهو جالس مع أستاذه، بينما الأستاذ واقف!!

بنفس وضع احترام المعلمين. قيل عن مريم أخت مرثا إنها “جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه” (لو 10: 39).

هذه الهيبة تقدم أيضًا لرجال الدين. لأن الذي يهاب خادم الرب، سيهاب بالأكثر رب هذا الخادم…

والذي يهاب وكيل الله (تي 1: 7)، لا بُد أن يهاب الله نفسه.. وهكذا رأينا كيف كانت مهابة داود النبي لشاول الملك باعتباره مسيح الرب، على الرغم من أخطاء شاول، ومحاولته قتل داود!! إلا أنه لما وقع شاول في يده، رفض أن يوقع به، وقال لرجاله “حاشا لي من قبل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي مسيح الرب، فأمد يدي إليه، لأنه مسيح الرب هو” (1 صم 24: 6).

ومن مهابته كمسيح الرب، كان داود يناديه يا سيدي، وكان يسجد أمامه (1 صم 24: 8).

وكمثال من هيبة رجال الله، هيبة المعترف لأب اعترافه، كوكيل لله في سماع خطاياه.

فتكون جلسة الاعتراف لها هيبتها ولها وقارها. يشعر فيها المعترف أنه أمام الله، يعترف عليه في سمع الأب الكاهن. وإنه إلى الله وحده قد أخطأ (مز50) وأنه يأخذ الحل من الله، من فم الكاهن.

والذي يهاب أب اعترافه، بالتالي يهاب الله.. ولكن حذار من أن تعتقد أن العلاقة في الاعتراف هي بينك وبين أب الاعتراف، وليست بينك وبين الله! وتخجل من أب الاعتراف بسبب خطاياك، دون أن تخجل من الله!!

إن المهابة لا نقدمها للآباء الكهنة فقط، وإنما أيضًا للقديسين الذين انتقلوا.

فالرسل مثلاُ ينبغي أن نتحدث عنهم في مهابة.. وإذا اقتبسنا من رسائلهم، لا نقول: يقول بطرس ويقول بولس.. إنما نقول معلمنا القديس بطرس الرسول، ومعلمنا القديس بولس الرسول.. في مهابة لهم.

ونفس الوضع بالنسبة إلى آباء البيعة. فكثيرًا ما يتحدث البعض للأسف قائلين: هذا هو تعليم أثناسيوس وكيرلس. أما الذين لهم في قلوبهم هيبة واحترام آبائنا القديسين، فيقولون: حسب تعليم أبينا القديس العظيم البابا أثناسيوس الرسولي…

والكنيسة كمثال لاحترام القديسين تضع في صلوات البسخة المقدسة لحنًا يسبق عظة القديس التي تقرأ، ولحنًا آخر في ختامها، بكل إجلال..

لحن في منتهى الجمال نبدأ به العظة، ويقدمها المرتل للسامعين. وفي نهايتها يقول “فلنختم عظة أبينا القديس الأنبا فلان، الذي أنار عقولنا وقلوبنا بتعاليمه النافعة”.. حقًا هذا هو احترام القديسين وهيبتهم في الكنيسة.

ولا ننسى الذكصولوجيات العديدة، وكل ما نقوله من تماجيد للقديسين، تجعل هيبتهم مثل محبتهم في قلوب المؤمنين. والزفة بالألحان والموسيقى لرفاتهم في أعيادهم…

وكذلك الاحترام الكبير لأيقونات القديسين.

من حيث تدشينها بالميرون المقدس، لتكون بركة للناس. وأيضًا إيقاد الشموع أمامها لإظهار أن القديس كان نورًا للناس. يضاف إلى هذا تبخير الكاهن أمام أيقونة القديس بكل توقير. وزفة الأيقونة في عيد القديس بالتهليل والألحان.

فإن كنا على هذا القدر نحترم القديسين وسيرتهم وأيقوناتهم وأعيادهم وعظاتهم، فكم بالأولى يكون شعورنا نحو الله خالق كل هؤلاء، وما ينبغي أن نظهره نحوه من مهابة ومخافة.

وكما يتدرب المؤمن على احترام القديسين ومهابتهم، يتدرب أيضًا على مهابة الملاك الحارس له…

فلتكن لك إذن مهابة للملاك الحارس لك، مهابة لقدسيته ورسالته. فتستحي من هذا الملاك أن تفعل خطية أمامه، أو تلفظ لفظة غير لائقة. قل لنفسك: كيف أفعل خطية، ويراني هذا الملاك القديس الطاهر الذي إلى جواري؟! فيشمئز منها ولا يحتمل، فيتركني ويذهب عني، وهو يردد المزمور القائل: في طريق الخطاة، وفي مجلس المستهزئين لا تجلس (مز1).

طبعًا يمكن أن يأتي الملائكة إلى مجالس المستهزئين، لكي يوبخوهم، أو يقودوهم إلى التوبة. أما المستهترون المستمرون في لا مبالاتهم، فإن الملائكة ينفرون منهم، ويتركونهم في لهوهم مع أصحابهم الشياطين. لأنه لا شركة للنور مع الظلمة، ولا خلطة للبر مع الإثم (2 كو 6: 14).

إن خوفك من أن يتركك الملاك الحارس، هو جزء من مخافتك لله.

فاحرص على هذه المخافة، وأحذر من أن تبعد عنك الملاك الحارس بسبب خطية أو نجاسة. وأذكر قول الكتاب “ملاك الرب حال حول خائفي الرب، وليس حول المستهترين والمستبيحين.. وكأنك حينما تخطئ، إنما تطرد ملائكة الرب من حولك!!

هل تظن أن ملاك الرب يقف ليتفرج على منظر نجس شرير. كلا. إن الملاك قديس لا يقبل ذلك، بل يبتعد ويمضى. أو على الأقل يقول: نبعد الآن إلى أن يرجع صاحبنا هذا إلى عقله، أو نعمل على هدايته من بعيد، بأن نشفع فيه…

وما نقوله عن الملائكة، نقوله أيضًا عن أرواح القديسين، وأرواح أحبائك الذين انتقلوا.

إن كنت تخاف أن يروك وأنت في حالة خطية، وتخجل من ذلك جدًا، ابتعد عن الخطية ونجاستها، ويقودك هذا الشعور إلى مخافة الله…

على أن مهابتك لا تقتصر على كل تلك الدرجات العليا، من ملائكة وقديسين وآباء…

بل ينبغي أن تشمل مهابتك كل القيم والتقاليد.

لأن الذي يستهتر بالتقاليد والأنظمة والمبادئ والعادات المرعبة، سيأتي وقت عليه يستهين فيه بوصايا الله..!

والجبل الذي يتمرد على السلطة، كل سلطة، سلطة الأب والمدرس ورئيس العمل، وسلطة الحكام أيضًا، سيأتي وقت عليه يتمرد فيه على الله نفسه…

والذي لا يحترم من هو أكبر منه سنًا، سيأتي وقت عليه لا يحترم فيه من هو أكبر منه مقامًا. وقد يتطور إلى أن يتذمر على الله نفسه، ويفقد مخافته لله..

فلنتدرب إذن على احترام الكبار ومهابتهم، فنصل بذلك إلى مخافة الله ومهابته.

12- تصل إلى مخافة الله بالخشوع واحترام المقدسات 🔗

6- تصل إلى مخافة الله بالخشوع واحترام المقدسات 🔗

إذا وقفت لتصلي، تذكر أمام من أنت واقف؟. أنت واقف أمام ملك الملوك ورب الأرباب.

أمام هذا الإله المهوب، الذي تقف أمامه الملائكة بخشية الشاروبيم و السارافيم: بجناحين يغطون وجوههم، وبجناحين يغطون أرجلهم.. والأربعة والعشرون كاهنا الجلوس على عروشهم، يطرحون أكاليلهم أمام عرشه، ويسجدون للحي إلى أبد الآبدين، وهم يقولون: أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت خلقت كل الأشياء، وهي بإرادتك كائنة (رؤ 4: 10، 11).

وأنت أين مخافة الله في قلبك أثناء صلاتك؟! ليتك تقف أمامه بالهيبة التي تقف بها أمام رؤسائك! يقول مارإسحق عن مخافة الله أثناء الصلاة.

قف أمام الله في الصلاة، كما لو كنت واقفا أمام لهيب نار.

أن أبانا إبراهيم حينما وقف أمام الله، “شرعت أن أكلم المولي، وأنا تراب ورماد” (تك 18: 27).

أتقول إنك في صلاتك تكلم أبا..؟ نعم؟ ولكنه ليس أبًا عاديًّا، وإنما علمنا الرب أن نقول “أبانا الذي في السموات” تذكر إذن عبارة (السموات) هذه، التي هي عرش الله (مت 5: 34). لذلك نحن حينما نصلي، نرفع أعيننا إلى فوق، متذكرين عرش الله في السماء.

مار إسحق يتحدث عن الزي الحسن في أثناء الصلاة. الذي من أهم مظاهره: جمع الحواس، وجمع الفكر.

قف في صلاتك بتوقير، في مهابة، عالمنا أمام من أنت وأقف. قف منتصب القامة. لا تحرك يديك ولا رجليك. ولا تسمح لحواسك أن تنشغل بشيء أخر، ولا أن تقطع صلاتك بأي شيء يستلفت حواسك، فتلتفت إليه وتسرح بعيدًا عن الله. وبين الحين والأخر، تبرهن على احترامك لله. بالانحناء أو الركوع أو السجود، وأنت مركز الفكر في حديثك مع الله.

سألني البعض: لماذا أصلي، وأفكاري تطيش في موضوعات أخرى؟ فقلت له: لأنها صلاة خالية من مخافة الله.

حقًا لو مخافة الله ثابتة في قلبك، لكنت تصلي بفكر مركز، ولا يسرح عقلك في شيء أخر أثناء حديثك مع الله. ولا تظن أن بنوتك لله تنسيك مهابته!! وإن حاول فكرك أن يطيش، أرجعه بسرعة. ربما لم يتعود التركيز بعد.. لذلك دربه على الثبات في الرب..

كذلك الذي يصلي بلا فهم، وبلا مبالاة، أو ينسي ما يقول. هذا أيضًا يصلي، وليست مخافة الله في قلبه.

إنه ليس احترامًا لله، أن تتحدث معه هكذا، بلا خشوع، وبلا فهم. أو أن تنشغل بغيره أثناء حديثك معه، أو أن تكلمه وأنت لا تدري ماذا يقول! أو أن تسرع في صلاتك لكي تنتهي منها بسرعة، كأنك قد مللت من الحديث مع الله!! أو لديك أمور أخرى أهم تريد أن تنشغل بها!! أو أسوأ من هذا، أن تقول: ليس لدي وقت للحديث مع الله!! وكل هذا يدل على عدم المخافة.

إن مخافة الله تمنحك احترام الله في صلاتك.

وأيضًا الخشوع في الصلاة يوصلك إلى مخافة الله.

وتدخل في هذا الخشوع، ألفاظ الاتضاع التي تستخدمها في الصلاة. كأن تبدأ صلاتك بعبارات التمجيد والتسبيح، وتقول “من أنا يا رب حتى أتحدث إليك؟! أنا التراب والرماد، أنا الخاطئ المتدنس.. كذلك تذكر اسم الرب بكل إجلال، وليس مثل الذين يقولون “قدوس، قدوس، رب الجنود. مجده ملء كل الأرض” (أش 6: 3) فتهتز الأساسات لصلواتهم.

وكما تظهر مخافة الله في صلاتك، تظهر أيضًا في علاقتك بكتاب الله وبيت الله، وكل ما يتعلق بالله..

فتدخل إلى الكنيسة بكل احترام، وأنت تصلي في قلبك وتقول للرب “أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل إلى بيتك، وأسجد قدام هيكل قدسك بمخافتك” (مز 5: 7) اشعر وأنت في الكنيسة، أن هذا هو بيت الله وبيت الملائكة، وبيت العبادة. واذكر قول المزمور:

“لبيتك ينبغي التقديس يا رب كل الأيام” (مز 93: 5).

هذا التقديس يمنحك مهابة للكنيسة، ومهابة للهيكل، ومهابة للأسرار المقدسة وللصلوات..

ولا تتكلم في الكنيسة مع أحد في الصلوات، فهذا يدل على عدم احترامك للكنيسة، وعدم احترامك للصلاة. وانشغالك عنها بالكلام، ودم اشتراكك في الصلاة. وكل هذا يدل على أنك قد دخلت إلى الكنيسة بغير مخافة الله! ليتك تذكر قول أبينا يعقوب أبي الآباء:

“ما أرهب هذا المكان. ما هذا إلا بيت الله، وهذا باب السماء” (تك 28: 17).

نعم رآه مكانًا رهيبًا، وخاف، على الرغم من محبة الله التي أظهرها له في ذلك المكان، وافتقاده بالسلم السمائي، وينظره للملائكة.

لا شك أن المكان الذي يحل فيه الرب، هو مكان رهيب والمكان الذي يحل فيه الروح القدس عاملًا في الأسرار المقدسة، هو مكان رهيب.

من أجل هذا، لما اقترب موسى من موضع يكلمه فيه الله قال له الرب، ليدخل الخشية إلى قلبه:

“اخلع حذائك من رجليك. لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة” (خر 3: 5).

ونفس الكلام قيل أيضًا ليشوع النبي (يش 5: 15). إن خلع الحذاء يرمز أيضًا إلى خلع كل الأمور المادية والأرضية، أثناء وجودك في بيت الله.. كما يدل على احترام المكان المقدس.

على الأقل نقف في الكنيسة بمخافة الله، ونجلس فيها -وقت الجلوس- بمخافة الله، لا نتكلم مع مَن يجلس إلى جوارنا ونحكي!! ونعلق على ما نسمعه وما نراه!! إن الذي يفعل هكذا، ليست فيه مخافة الله. وكذلك الذي يدخل إلى الكنيسة وفي يده مجلة، أو في جيب قميصه علبة سجاير!!

الذي لا يوقر بيت الله، طبيعي لا يوقر الله نفسه. فإن وقر الله، سيوقر بيته.

نقول هذا ونحن نأسف لبعض المسئولين في الكنيسة من خدامها، الذين يدخلون إلى الكنيسة بسلطان، بغير هيبة للمكان، يأمرون وينهون، ويرفعون صوتهم، ويمشون في عظمة!! ولا يفرقون بين بيت الله وبيوتهم الخاصة!!

أما الذي يهاب الكنيسة، فمن الطبيعي أن يهاب الهيكل بالأكثر.

ولذلك فنحن في كنيستنا القبطية لا ندخل إلى الهيكل مطلقا بأحذيتنا، كما تفعل كنائس الغرب!! ولا نسمح بالدخول إلى الهيكل، إلا لخدام المذبح فقط. ونحن نسجد أمام الهيكل. والأب الكاهن يبخر الهيكل ونحيط الهيكل بلون كبير من المهابة، وبالأكثر مذبح الله الذي يوجد داخله، والذي نرفع حوله البخور..

أما الذين لا يهابون الهيكل ولا المذبح، فسيأتي وقت عليهم لا يهابون فيه الأسرار المقدسة أيضًا!!

المهابة أيضًا ينبغي أن تشمل الكتاب المقدس.

لذلك فعند قراءة الإنجيل في الكنيسة المقدسة، يصيح الشماس قائلًا “قفوا بخوف من الله، وانصتوا لسماع الإنجيل المقدس” فيقف الشعب كله احترامًا، ورئيس الكهنة ينزع تاجه من فوق رأسه خشوعًا أمام كلمة الله. بل قبل قراءة الإنجيل، يصلي الكاهن أوشية يقول فيها للرب “أجعلنا مستحقين أن نسمع ونعمل بأناجيلك المقدسة، بطلبات قديسيك”. ويرفع البخور ونقبل الإنجيل.

فهل بنفس الاحترام نتعامل مع الكتاب في بيوتنا؟

هناك أشخاص قد يضعون الكتاب المقدس في أي مكان في بيوتهم. وقد يكون تائها وسط الكتب! أما الإنسان الروحي الذي يخاف الله، فلا يضع شيئا فوق الكتاب المقدس.

الكتاب المقدس لا يوضع فوقه إلا الصليب أو كتاب مقدس أخر هكذا نحترمه ونوقره. كذلك نقرأ الكتاب في توقير داخل بيوتنا. وبقدر ما نهاب الكتاب، نهاب أيضًا الوصايا المكتوبة فيه، وتدخل مخافة الله في قلوبنا.

ينبغي أن يفرق كل إنسان بين قراءة الكتاب المقدس وقراءة أي كتاب آخر.

فلا تقرأ الكتاب وأنت نائم، أو وأنت مستلق في استرخاء، أو وأنت تشرب كوبًا من الشاي. كل هذه الأخطاء تطرد مخافة الله من قلبك. هناك من يبدأون قراءة الكتاب بصلاة. وهذا أفضل. كما يصلي الكاهن قائلًا “أجعلنا مستحقين أن نسمع ونعمل بأناجيلك المقدسة”. مجرد السماع يحتاج إلى صلاة وإلى استحقاق، وإلى رفع بخور في الكنيسة. فلنأخذ من هذا دروسًا.

تلزمنا أيضًا المخافة في كل ما يتعلق بالله.

المخافة أثناء حضور القداس الإلهي. هذه المخافة التي يفقدها البعض، وهم يستمعون إلى القداس المذاع أو إلى القداس المسجل على شريط كاسيت أو شريط فيديو. فيستمعون وهم منشغلون ببعض أمور البيت، أو وهم في العربة مركزين في قواعد المرور وهم جلوس!! يستحسن في العربة استبدال القداسات المسجلة، بألحان أو عظات أو تراتيل..

كذلك من احترام القداس أن تحضر إليه مبكرًا، ولا تخرج أثناءه، بل بعد سماع البركة والتسريح. وكذلك كل أنواع المخافة التي تتعلق بالتناول: مثل الاستحقاق للتناول من توبة وصلح وصوم، والهيبة أثناء التناول وعدم التزاحم، والصلاة قبل التناول وبعده، والحرص الجسدي أيضًا..

إن الذي يهاب الكنيسة والهيكل والتناول، لا بُد أن مخافة الله تسكن في قلبه.

كذلك الذي يهاب رجال الله من ملائكة وبشر. فيهاب الملاك الحارس له، ويستحي من أن يخطي أمامه، ويهاب ملائكة المذبح والذبيحة، وملائكة الكنيسة.

كذلك الذي يهاب أرواح الذين انتقلوا، ويخاف أن ينظروا إليه وهو في حالة خطية، أو يروا أي منظر له يعمله في الخفاء، أو أي رياء يظهر به أمام الناس!

كذلك الذي يهاب رجال الكهنوت عمومًا، وأيضًا الأب الروحي الإرشاد الروحي، عالما أنهم وكلاء لله على الأرض (تي 1: 7) ووكلاء سرائر لله (1كو 4: 1).

لا شَك أن الذي يهاب ملائكة الله، ورجال الله، وقديسي الله، لا بُد أن مخافة الله تدخل إلى قلبه.

بل أن كثيرين يحترمون مجرد أيقونة القديس. والكنيسة تبخر أمام أيقونات القديسين المدشنة، وترتل الألحان تمجيدا للملائكة والقديسين. فكم بالأولَى خالقهم.

وكما نوقر رجال الرب، نوقر أيضًا يوم الرب. فالذي بكل مخافة، يخشَى أن يكسر تقديس يوم الرب، لا بُد أن تكون مخافة الله ساكنة في قلبه.

وبنفس الوضع الذي يخشى أن يكسر وصية الصوم لأي سبب من الأسباب، ولا يتهاون في ذلك، لا بُد أن تكون مخافة الله ساكنة في قلبه.

كذلك يصل إلى مخافة الله من يحرص على عهوده مع الله، ويوفي للرب نذره.

ولا يحاول أن ينذر نذرًا، أن يتفاوض في الأمر، من حيث الوفاء بالنذر، أو تغيره أو تأجيله، غير واضع في قلبه أن نذره هو اتفاق بينه وبين الله واجب الاحترام والهيبة، كما قال الكتاب “خير لك أن تنذر، من أن تنذر ولا تفي” (جا 5: 5).

إن الالتزام بالنذور والعهود، توصل الإنسان إلى مخافة الله. وكسر النذر يطرد مخافة الله من القلب.

13- تداريب على مخافة الله 🔗

7- تداريب على مخافة الله 🔗

لكي نصل إلى مخافة الله، حاول أن تسلك في التداريب الآتية:

ضع الله أمام عينيك باستمرار، وتذكر أن أعمالك كلها مكشوفة أمامه.

إنه يرى كل ما تفعله، ويسمع كل ما تقوله. وكما قال القديس مقاريوس الكبير “فلنعلم أن كل ما نعمله عريان ومكشوف لديه، ولا تخفي عليه خافية”.

قال القديس الأنباء أشعياء المتوحد “إذا قمت باكر كل يوم، تذكر أنك ستعطي جوابا عن أعمالك. فإنك بذلك لن تخطيء، ومخافة الله تسكن فيك”..

مشكلتنا أننا لا نضع الله أمام أعيننا أثناء ارتكاب الخطية. لذلك نشرب، ولا نتذكر الله! لذلك ليس عبثا قال داود النبي عن الخاطئ في المزمور:

“اللهم إن الناموس قاموا على – ولم يجعلوك أمامهم” (مز 86: 14). ضع الله أمامك إذن، فتخاف ولا تخطئ.

ما أجمل عبارة كان يقولها إيليا النبي وهي:

“حي هو رب الجنود الذي أنا واقف أمامه” (1مل 18: 14).

ولكي نصل إلى مخافة الله، ضع أمامك باستمرار مجد الله وعظمته، فتملك: هيبته فتخاف.

الله الذي هو ملك الملوك ورب الأرباب (رؤ 19: 16). الله العالي، خالق الكل وسيد الكل الذي نحن أمامه مجرد تراب. كيف نتحداه؟!

ضع أمامك أيضًا عدل الله، الذي سيجازي كل واحد حسب عمله (مت 16: 27) (رؤ 22: 12). وقل لنفسك: أين أهرب من عدل الله، أنا المضبوط في الخطايا؟!

ضع أمامك أيضًا صلاح الله وقدسية الله الذي يشمئز من الخطية.

إن كنت أمام أصحابك الأتقياء لا تجرؤ أن تفعل خطية، أو تتلفظ بكلمة غير لائقة، فكم بالأولى أمام الله الكلي القداسة. لذلك أمام صلاحه تخاف أن تخطئ ويملكك الاستحياء.

وأذكر أن الخطية موجهة إلى الله ذاته فتخاف.

كما قال داود النبي في مزمور التوبة “إليك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت” (مز 50).

أو كما قال يوسف الصديق “كيف افعل هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟!” (تك 39: 9). ليتك تحفظ هذه الآية، وترددها كلما حوربت بالخطية. حينئذ تدخل مخافة الله غلي قلبك.. شعورك أنك بالخطية تجرح قلب الله المحب، وتحزن روح الله القدوس في داخلك (أف 4: 30)، وترفض شركته معك. كل ذلك يجعلك تخاف.

بَكِّت نفسك كهيكل لله يحل الله فيك..

قل لنفسك هل سوف أظل هيكلا لله، ويسكن روح الله في، إن تدنست بالخطية؟! هوذا الرسول يقول “إن كان أحد يفسد هيكل الله، فسيفسده الله. لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم فيه هو” (1 كو 3: 16، 17).

وتذكر أيضًا قول الرسول “ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح، وأجعلها أعضاء زانية؟! حاشا” (1 كو 6: 15).

أيضًا تأتيك مخافة الله أن سلكت في حياة التوبة.

التوبة توصلك إلى مخافة الله. ومخافة الله توصلك إلى التوبة. الذي يسلك في التوبة، يشعر ببشاعة الخطية، وكيف أنها تفصله عن الله وتعرضه للدينونة الرهيبة فيخاف.

والذي يسير في طريق التوبة، يخاف على نفسه من السقوط. ويخاف إن سقط، أن يتطور معه المر إلى أسوأ، من الحواس إلى الفكر، إلى القلب إلى العمل، إلى أن تصبح الخطية عادة عنده تستعبد إرادته لها، فيخاف.. ويقول: أن بدأت الخطية وأنا أظن أني مسيطر على الخطية أستطيع أن أتركها في أي وقت!! فلابد سيأتي الوقت الذي تصبح فيه الخطية مسيطرة عليَّ..

لذلك تصل إلى المخافة، بالمواظبة على محاسبة النفس.

ومع الدقة في ذلك. وكما قيل في بستان الرهبان: يجب أن نحاسب أنفسنا في كل بكرة وعشية: ماذا عملنا مما يحبه الله، وماذا عملنا مما لا نحبه. ونفتقد أنفسنا بالتوبة. وبهذه السيرة عاش القديس الأنبا أرسانيوس.

قال القديس العظيم الأنبا موسى الأسود:

“إذا قمت باكر كل يوم بالغداة، تذكر انك سوف تعطي لله حسابا عن سائر أعمالك في هذا اليوم”.

وبهذا تدخل مخافة الله إلى قلبك..

نعم، نحن محتاجون أن نراجع أنفسنا كل يوم، لكي نصل إلى المخافة. نحن محتاجون أن يفحص كل إنسان قلبه، ويري هل فيه عنصر التهاون، أو فيه شيء من اللامبالاة وعدم الاكتراث وعدم الحرص وعدم مخافة الله..

لنرجع إلى بداية الطريق يا أخوتي، أن كنا قد ضللنا علامات الطريق. نرجع إلى المخافة، ومنها نبدأ. ونتدرج منها حتى نصل إلى الحب.

ولندرك علامات عدم المخالفة، ونبعد عنها:

فالذي يسرح مع الخطية ويتفاوض معها، مخافة الله ليست في قلبه. والذي يتكبر ويتعجرف ويقسو على غيره، واضح أنه ليست في داخله مخافة الله. وكذلك من لا يضع يوم الدينونة أمام عينه على الدوام، ويعمل من اجل رهبة ذلك اليوم، هذا أيضًا بعيدا عن مخافة الله. والذي يستغل طول أناة الله استغلالا رديئا، فيصل إلى الاستهتار بدلًا من التوبة، هذا أيضًا لا توجد مخافة الله في قلبه. أعطيك تدريجا أخر سهلا تصل به إلى مخافة الله، وهو:

حاول أن تخاف الله، كما تخاف الناس.!

الشيء الذي تخاف أن تعمله أمام الناس، خف أيضًا أن تعمله أمام الله. والفكر الذي تخاف أن يعرفه الناس، لا تفكر فيه أمام الله. لأن الله يعرفه ويفحصه. كل ما تخاف أن يعرفه الناس، خف أيضًا أن يراه الله فيك. الخطايا الخفية، التي تعملها في الخفاء، وتخشي من ارتكابها أمام الناس، اخجل من ارتكابها أمام الله وإلا فأن الله يقول لك إنك لم تجعل لي هيبة عندك. مثل هيبتك لباقي الناس!! لم أتساو في اعتبارك مع إنسان من تراب ورماد! هذا التراب والرماد تعمل له ألف حساب، وأنا لا تعمل لي حسابا أبدا..!

دَرِّب نفسك على مخافة الله في حجرتك المغلقة..

لأنك أن كنت في الخفاء، حيث لا يراك أحد، تسلك في مخافة الله، ففي العلن، في محيط الناس، ستكون مخافتك أكثر. إذن فالإنسان الذي يخاف الله، يحترس من كل الخطايا الخفية.

تصوروا فتاة مثلًا لا تتصرف في حجرتها الخاصة باستهتار، وتسلك بكل احتشام في حجرتها المغلقة عليها حيث لا يراها أحد.. هذه من غير الممكن أن تستهتر خارج بيتها. أن كانت مع نفسها تحتفظ بحيائها وبمخافة الله، فطبيعي وسط الناس سيكون حياؤها أكثر..

إن كانت وهي وحدها في بيتها، إن نظرت ملابسها قد انكشفت قليلا، تسرع بتغطية نفسها في خوف الله، بينما لا أحد يراها، ولكنها تخجل من ذلك أمام الملائكة وأرواح القديسين. فهل تظنونها تفقد حشمتها ومخافة الله في وسط الناس؟! مستحيل..

بل الإنسان الذي يخاف الله، يستحي حتى من الفكر الذي لا يراه أحد.

يستحي من مشاعره الداخلية، ومن نياته الخفية، لأنه يعرف تمامًا أن الله يراها. هذه الخفيات هي واضحة وظاهرة أمام الله لذلك كن حريصًا، وبكّت نفسك على كل فكر غير لائق.. وحاسب نفسك على ذلك بشدة، أكثر من شدتك في محاسبة الناس على ما هو ظاهر منهم.

وفى اعترافك أمام الأب الكاهن، لا تجعل اعترافك سهلًا.

أي لا تذكر الاعتراف بالخطية بأسلوب عادى كأنه مجرد قصة ترويها.. وإنما ليكن ذلك في خجل، وفي ندم، وفي حزن بسبب سقوطك. واعرف أنك تذكر ذلك أمام الله نفسه في سمع أب الكاهن. وبمقدار ندمك وحزنك، تدخل مخافة الله إلى قلبك.

ولكي تصل إلى مخافة الله، لا تجعل العالم يطوي في طياته.

بحيث تصير في دوامة من المشغوليات لا تبقى لك وقتًا تفكر فيه في حياتك وأبديتك ومصيرك!! وبحيث يختفي اسم الله من فكرك، وتنساه وتنسى وصاياه.. وبالتالي لا تكون مخافته في قلبك وفي ذاكرتك.

إنما بين الحين والحين، انسحب من هذه الدوامة، وانظر إلى الله، الذي هو دائمًا ناظر إليك..

وكما قال أحد الشيوخ في بستان الرهبان “في كل شيء تصنعه ـ اعلم أن الله ينظر إليك دائمًا، لتكون مخافته فيك”.

إذا أردت أيضًا أن تخاف الله، عاشر الذين يخافونه.

لكي تتعلم من سلوكهم مخافة الله، ولكي يدخل إلى قلبك الحرص والتدقيق الذي فيهم. ومن الناحية الأخرى احترس جدًا من خلطة المستهترين، لأن خلطتهم تبدد مخافة الله فيك، وتشجعك على اللامبالاة. لذلك اضبط نفسك جيدًا، حتى لا تتأثر بالأوساط الخارجية الخاطئة التي لا تخاف الله.. بل ابعد عن المجالس التي ليست فيها مخافة الله.

كذلك لكي تصل إلى المخافة، احذر من التذمر على الله.

وابعد عن معاتبة الله في كل أمر، وكأنك تنسب إليه كل ما ينالك من فشل، وكل ما تصيبك من ضيقات.

إن الإنسان الذي باستمرار يأتي بالملامة على الله، ويقول له: لما تفعل بي يا رب هكذا؟ لماذا تتسبب في فشلي وفي ضياعي..؟ لماذا تعاملني بهذا الأسلوب..؟ مثل هذا الإنسان، بهذا التذمر يبعد كثيرًا عن مخافة الله.

بل قد يصل البعض إلى التجديف، من دوام تذمرهم على الله وبعض الشعوب وصلت بهذا التذمر إلى الإلحاد!

أما أنت فإن عاتبت أحيانًا على فشل ما، إنما عاتِب نفسك، وليس الله. بهذا تصل إلى مخافة الرب…

ولكي تصِل إلى مخافة الله، لا تذكر اسم الله إلا بكل إجلال واحترام “ولا تنطق باسم الله باطلًا” (خر 20: 7).

لا تستخدم اسم الله باستهانة، وفي أية مناسبة تستحق أو لا تستحق، لأن اسم الله قدوس هو.. ولا تجعل اسم الله سهلًا على لسانك، ولو عن طريق الدالة!! فالدالة لا تمنع توقيرك لله.. وتذكر أنك في كل صلاة ربيه، تقول لله “ليتقدس اسمك”.

فالذي يذكر اسم الله بالإجلال، تدخل مخافة الله في قلبه.

وبعد، ها نحن قد تحدثنا كثيرًا عن الوسائل التي توصلنا إلى مخافة الله… أحب بعد ذلك أن انتقل بك إلى العلاقة بين مخافة الله ومحبة الله..

14- الباب السادس: محبة الله وَمخافته: المخافة تسبق المحبة وتستمر معها 🔗

كثيرون ينفرون من مخافة الله، ويتمسكون بالمحبة، دون أن يدركوا ما هي المخافة؟ وما هي المحبة؟ وما العلاقة بينهما. وأود أن أقول لكل منهم: حسن أن تتمسك بمحبة الله. ولكن لكي تصل إلى هذه المحبة، لا بُد أن تبدأ بالمخافة.

مخافة الله هي بدء الطريق، ونهاية هي المحبة.

وأنت لا تستطيع أن تبدأ الطريق من نهايته.

لذلك اسلك حسب المنهج الطبيعي الذي شرحه الكتاب فقال “بدء الحكمة مخافة الرب” (أم9: 10)، “رأس الحكمة مخافة الله” (مز111: 10).

بمخافة الله تتعود طاعة الوصية. أما محبة الله فهي نهاية الطريق وقمة العمل الروحي “بها يتعلق الناموس كله والأنبياء” (مت 22: 40). والذي يصل إليها، لا يحتاج معها إلى وصية أخرى. فهي تشمل كل الفضائل داخلها.

والإنسان الحكيم يبدأ الطريق من أوله، بالمخافة. ومخافة الله توصله إلى المحبة. فكيف ذلك؟

ما دام الإنسان يفعل الخطية، أو يشتهي الخطية، إذن فمخافة الله ليست في قلبه. إذن يبدأ بالمخافة، فيتوب، ويبعد عن الخطية مهما كانت محبتها لا تزال في قلبه، وينفذ الوصايا ولو بالتغصب. ويسلك في وسائط النعمة من صلاة وقراءة وتأمل وتسبيح… ولو من أجل الطاعة ما دام لم يصل بعد إلى الحب. ذلك لأنه في مرحلة “يشتهي فيها الجسد ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر…” (غل5: 17).

والمبتدئ في حياة الروح لم يصل بعد إلى التحرر من الخطية، فهو يغصب نفسه على تركها، خوفًا من أن يغضب الله.

وخوفًا من أن يسقط، ويحزن روح الله، ويتعرض لعقوبته… ولكن الأمر لا يستمر هكذا.

فكلما ينفذ الوصايا، يجد فيها لذة، فيحبها.

يجد أن “وصية الرب مضيئة تنير العينين من بُعد” وأنها “تصيرّ الجاهل حكيمًا” (مز19).. “فيفرح بها كمن وجد غنائم كثيرة” (مز119). ويبدأ في محبة الخير، ويحب الوصية التي أرشدته والتي قادته إلى حياة النقاوة، وإلى حياة القداسة، وإلى الروحيات، التي تذوقها فأحبها.

وبمحبة الخير، يحب الله. وهكذا تكون المخافة جسرًا قد أوصله إلى محبة الله.

ويخطئ من يظن أنه يصل إلى محبة الله، دون العبور على مخافته. فالمخافة هي التي تُنقي القلب، وتؤهله لأن يكون مسكنًا للروح القدس. والروح القدس هو الذي يسكب فيه محبة الله (رو5: 5). وهكذا ينتقل من المخافة إلى الحب…

ولكن هذا التطور لا يأتي دفعة واحدة.

إنما قد يصل إليه بعد فترة طويلة من الجهاد ومن عمل النعمة فيه. وهو بهذا الجهاد وبهذا التغصب، إنما يثبت للرب مدى تمسكه به وتعبه من أجله. وإذ يرى الله جدية هذا الإنسان، يقول له “كفاك تعبًا”. ويسكب محبته في قلبه ويريحه، من كفاح الخطية ومن خوف السقوط.

وعلى الرغم من وضوح هذا الطريق، إلا أن البعض يتمسكون في فهم خاطئ بقول القديس يوحنا الرسول:

“لا خوف في المحبة، بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج” (1 يو 4: 18).

ونحن نود أن نتأمل هذه العبارة ونحللها معًا، ونرى على أية درجة روحية تتكلم؟ وهل تتنافَى مع البداية بمخافة الله…

ولعل الرسول يتكلم عن الخوف بمعنى الرعب في يوم الدينونة، لأنه يقول بعدها مباشرة “لأن الخوف له عذاب”… كما قال القديس بولس الرسول: “مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي” (عب 10: 31). ومع ذلك يليق بنا أن نسأل:

من الذي وصل إلى المحبة الكاملة التي تطرح الخوف إلى خارج؟ وما هي هذه المحبة الكاملة؟

قد يدعى إنسان أنه يحب الله، بينما يكون بعيدًا جدًا عن محبته. أما الاختبار الصحيح لمحبته، فهو هذا: هل هو يحفظ وصايا الله أم يكسرها ويخطئ؟

هوذا السيد الرب يقول “إن حفظتم وصاياي، تثبتون في محبتي.. الذي عنده وصاياي ويحفظها، فهو الذي يحبني” (يو 15: 10) (يو 14: 21).. لذلك فمن غير المعقول أن يدعى إنسان أنه يحب الله، بينما يخالفه ويكسر وصاياه، ولا تكون له شركة معه!

ها هي عبارة واضحة يقولها القديس يوحنا الرسول:

“فإن هذه هي محبة الله: أن نحفظ وصاياه” (1 يو 5: 3).

ويقول الرسول أيضًا “من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذب وليس الحق فيه. وأما من حفظ كلمته، فحقًا في هذا قد تكملت محبة الله” (1 يو 2: 5، 4). إذن علينا أن نسعى أولًا إلى حفظ الوصايا. وهنا تلزمنا مخافة الله التي تمنعنا من ارتكاب الخطية، وتدفعنا إلى حفظ الوصية.. ولا نخدع أنفسنا ونقول إننا وصلنا إلى محبة الله، بينما نحن نخطئ، ونحزن روح الله داخلنا (أف 4: 30).

أن الذي يخطئ، لا هو في درجة المحبة، ولا هو في درجة المخافة، إنه لم يبدأ الطريق الروحي بعد..!

ما دام يخالف الله، فهو لا يخافه ولا يحبه.. وهو لا يزال يعيش في الظلمة، بعيدًا عن نور الله… والرسول يقول في صراحة “إن قلنا إن لنا شركة معه، وسلكنا في الظلمة، نكذب ولسنا نعمل الحق” (1 يو 1: 6)… والسلوك في الظلمة لا بُد يستدعى الخوف.

إذن إن كانت محبة الله، أن نحفظ وصاياه، فما هي إذن (المحبة الكاملة) التي تطرح الخوف خارجًا؟

الذي يصل إلى المحبة الكاملة، يكون قلبه على الدوام مشتعلًا بمحبة الله. وهذه المحبة تحرق في داخله كل شعور الخطية، بل أنه “لا يستطيع أن يخطئ” (1 يو 3: 9)… ومن الناحية الإيجابية نرى محبة الله تسيطر على كيانه كله، على قلبه، على فكره، وعلى وقته أيضًا. فيحب الله من كل قلبه ومن كل فكره، ومن كل نفسه، ومن كل قدرته (تث 6: 5) (مت 22: 37). ويتعلق فكره بالله، فيفكر فيه بالنهار والليل.. هذا شيء من المحبة الكاملة. والذي وصل الله طبيعي أنه لا يخاف…

لا داعي لأن يستخدم البعض عبارة القديس أنطونيوس الكبير حينما قال لتلاميذه.

“يا أولادي أنا لا أخاف الله”…

فلما قالوا له “هذا الكلام صعب يا أبانا”، أجابهم “ذلك لأني أحبه. والمحبة تطرح الخوف إلى خارج”… وهنا اسأل: من منا وصل إلى درجة القديس الأنبا أنطونيوس في محبة الله؟!

هؤلاء القديسون العظام وصلوا إلى درجة عظيمة في عشرة الله، والدالة معه، وفي دوام الحديث معه، وتفريغ القلب من كل شيء، لكي لا يبقى فيه سوى الله وحده…

فهل ندعي لأنفسنا درجات القديسين التي ليست لنا؟! نردد أقوالهم، ونحن لسنا في مستواهم؟!

هل نحن قد وصلنا إلى الدرجة التي تحرق كل ما في القلب من شهوات الجسد والمادة، والتي فيها تتضاءل بل تختفي كل محبة أخرى تنافس محبة الله، حيث يزهد القلب كل شيء، ويحسب كل شيء نفاية إلى جوار محبة المسيح… الدرجة التي قال فيها القديس أوغسطينوس “جلست على قمة العالم، حينما أحسست في نفسي أني لا أشتهي شيئًا، ولا أخاف شيئًا”. هل أنت كذلك؟

أما إن كان لا يزال في قلبك شيء من محبة العالم وشهواته، فأنت لم تصل بعد إلى المحبة الكاملة نحو الله التي تطرح الخوف إلى خارج…

وإن كان القديس الأنبا أنطونيوس قد قال عبارته المشهورة، بعد عشرات السنوات من الخلوة في عشرة الله ومناجاته، فهل تضع نفسك في مستواه؟!

ومع ذلك فالقديس أنطونيوس تكلم عن مخافة الله.

قال القديس الأنبا أنطونيوس “كما أن الضوء إذا دخل إلى بيت مظلم، طرد ظلمته وأناره، كذلك خوف الله إذا دخل إلى قلب إنسان، طرد عنه الجهل، وعلمّه كل الفضائل والحكمة”. وقال أيضًا “في كل موضع تمضى إليه، اجعل مخافة الله بين عينيك. وكل عمل تعمله ليكن لك عليه شاهد من الكتب”. وهكذا نصح القديس تلاميذه بمخافة الله.

لا تقل إذن إنك قد وصلت إلى المحبة الكاملة التي تطرح الخوف خارجًا، إنما قل:

“أنا أريد يا رب أن أحبك. ولكني لم أصل بعد إلى هذه المحبة الكاملة. امنحني إياها… أنا أسلك في المخافة، وأنت تمنحني المحبة”.

ألم تقل “كنت أمينًا في القليل، فسأقيمك على الكثير” (مت 25: 21). ليتني إذن أكون أمينًا في القليل الذي هو المخافة، ولا أعصى وصاياك. وأنت تدربني على الحب، بل تسكبه في قلبي بروحك القدوس…

وحتى المخافة لا أستطيع أن أصل إليها بدونك.

ألست أنت القائل “بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئًا” (يو 15: 5) نعم، لا نقدر أن نعمل القليل ولا الكثير، بدونك. إذن علمني يا رب أن أبدأ الطريق معك. ساعدني أن أصل إلى مخافتك، فأحيا في طاعتك. وأكون أمينًا في هذه الطاعة وفي هذه المخافة. وحينئذ سوف تعطيني المحبة، كعطية مجانية من عندك.

والمخافة هي الأساس المتين الذي نبني عليه المحبة. وهو الذي يحفظها من السقوط والنكسة.

لأن الرب يقول لملاك كنيسة أفسس “عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى” (رؤ 2: 4). والرسول القديس بولس ذكر أن أهل غلاطية: بعد أن بدأوا بالروح، كملوا بالجسد (غل 3: 3)… ولماذا كملوا بالجسد، إلا لأن مخافة الله لم تكن أمامهم.

المخافة إذن هي الأساس القوي الذي يحمي من النكسة. ولذلك فإن ملاك كنيسة أفسس الذي ترك محبته الأولى، عالجه الرب المخافة، فقال له “وإلا فإني آتيك عن قريب، وأزحزح منارتك من مكانها، إن لم تتب” (رؤ 2: 5).

إن المحبة هي الوضع الأصلي، يمكن أن تفقده بالخطية، ولكن تعيدنا إليه المخافة…

إذن هي وقاية علاج. هي وقاية من الخطية تمنعنا من ارتكابه. فإن كانت شهوة الخطية فينا أقوى من مخافة الله وسقطنا، وبالتالي بعدنا عن المحبة. تأتي مخافة الله مرة أخرى فتقيمنا من سقطتنا بالتوبة. وبنفس المخافة نسعى إلى مصالحة الله لنعود إلى محبته..

يبقى بعد ذلك كل سؤال هام وهو:

هل إذا وصلنا إلى المحبة، تنتهي علاقتنا بالمخافة تمامًا؟

كلا… وكيف ذلك؟

15- الباب السابع: المحبة والمخافة معًا: المخافة بمعنى المهابة 🔗

قال ماراسحق “إن مخافة الله تسبق محبة الله”.

وقال “المخافة هي عصا الله التي تسوقنا إلى محبة الله”. وقال أيضًا كما أنه لا يمكن عبور النهر بدون سفينة، كذلك لا يمكن لأحد أن يعبر إلى محبة الله، بدون التوبة والمخافة. لأن التوبة هي السفينة، والمخافة مدبرها. والمحبة هي ميناء السلامة والكرامة، حيث يلقى المتعبون راحتهم”…

المخافة توصل إلى المحبة. ولكن لا تفارقها.

المحبة مستوى أعلى من المخافة، ولكن لا يتعارض معها.

هي مستوى تصعد إليه، ولكن لا تفقد ما تحته. مثل درجات السلّم. أو مستوى طالب جامعي ارتفع فوق معلومات التعليم الثانوي والابتدائي، ومع ذلك لم ينسها، بل يعتمد عليها. هي لا تزال في ذهنه، لم يفقدها، وإنما أخذ شيئًا فوقها.. ولا تتعارض علومه الجامعية، مع التعليم الأساسي في المرحلة الابتدائية والمرحلة الثانوية.

المخافة تقود إلى المحبة، ثم تقف لتحرسها..

والمحبة تحتفظ بالمخافة داخلها، ولو باسم آخر.

الذين في محبتهم تركوا المخافة، هم عرضة لأن يتركوا محبتهم الأولى، ويسقطوا ويحتاجوا إلى توبة، كما حدث لملاك كنيسة أفسس، الذي كان له محبة، وقد تعب من أجل اسم الرب ولم يكل (رؤ 2: 3 – 5). الذي وصل إلى المحبة الكاملة، تبقى في أعماقه أمور عديدة من خصائص المخافة، فما هي؟

يبقى في قلبه الحرص والتدقيق والجدية والالتزام.

ويبقى في قلبه أيضًا للجهاد، حفظ الوصايا، ذلك لأنه تعود كل هذا في حياة المخافة. وتبقى فيه أيضًا حياة التوبة وما يتبعها من انسحاق ودموع. وإن كان الإنسان المحب لله لم يعبر على هذه كلها في طريقه الروحي، ولم يحتفظ بهذه كلها في منهجه الروحي، فلا شك أنه قد أخطأ الطريق إلى الله…

الذي يريد أن يقفز إلى المحبة، دون إن يعبر على المخافة، هذا قد يصل إلى الاستهانة والتدلل!

والقديس الأنبا أنطونيوس الكبير، حينما قال لتلاميذه “أنا لا أخاف الله”، كان يقصد بلا شك ما وصل إليه، وليس ما بدأ به… لأنه واضح تمامًا أنه قد بدأ بالمخافة، حينما نظر إلى جثمان أبيه الميت، وقال له “لقد خرجت من العالم على الرغم منك. ولكنني سأخرج منه بإرادتي، قبل أن يخرجوني كارهًا”.

إن المخافة كالجذور بالنسبة إلى الشجرة، هذه التي تعلو وترتفع وتؤتى ثمارها. وفي كل هذا، تبقى الجذور كما هي، وإن كانت مختفية. ولا يمكن أن تستغني عنها الشجرة، وإلا فإنها تموت..

أما عبارة “المحبة الكاملة تطرد الخوف إلى خارج” فمعناها تطرح الرعب.

الرعب من البحيرة المتقدة بالنار والكبريت في الظلمة الخارجية (رؤ 20: 10) (مت 13: 42) حيث البكاء وصرير الأسنان… تلك النهاية المخيفة التي قال عنها الرسول “مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي” (عب 10: 31). فالإنسان الذي يصل إلى المحبة الكاملة، لا يخاف الانفصال عن الله والوصول إلى الظلمة الخارجية.

ولكن تبقى في قلبه المخافة بمعنى المهابة… مهما وصل إلى المحبة الكاملة.

كانت خيمة الاجتماع في العهد القديم تمثل سكنى الله مع شعبه. وكانت خيام الشعب تحيط بها، ولكن من بُعد، هيبة للمكان الذي يحلّ فيه مجد الله عند تابوت العهد، وحيث يكلم الرب موسى…

وموسى النبي نفسه، كانت بينه وبين الله دالة يستطيع بها أن يقول له “ارجع يا رب عن حمو غضبك، واندم على الشر بشعبك” (خر 32: 12). ومع ذلك لما أتى إلى الجبل ليتسلم الوصايا من الرب، قال “أنا مرتعب ومرتعد” (عب 12: 21)… وهكذا هي هيبة الله “المرهوب على كل الآلهة”.

المحبة إذن تطرد الخوف بمعنى الرعب، وتستبقى المخافة بمعنى المهابة والتوقير والإجلال.

فمع إننا ندعو الله أبانا في الصلاة، إلا إننا مع ذلك، نركع في صلواتنا ونسجد… لأننا لا نتكلم مع أب عادي، وإنما نكلم “أبانا الذي في السموات”… وهنا يمكننا أن نسأل: ما معنى الخشوع في الصلاة؟ أليس هو لونًا من المخافة، بمعنى التوقير والإجلال. كذلك ما معنى التمجيد؟

أليس التمجيد لونًا من مخافة الله وتوقيره؟

كما قال الملائكة في سفر الرؤيا “من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك، لأنك وحدك قدوس، لأن الأمم سيأتون ويسجدون أمامك..” (رؤ 15: 4). وبنفس المعنى رأى القديس يوحنا الإنجيلي ملاكًا طائرًا في السماء، وهو يحمل بشارة أبدية لكل الشعوب، ويقول بصوت عظيم “خافوا الله وأعطوه مجدًا” (رؤ 14: 7).

هنا خوف الله يرتبط بتمجيده. ونحن نرتبط بكليهما، كلما تذكرنا عظمة الله وعلو مجده…

والرب نفسه يطالبنا بهذا، حتى لا ننسى مجد الله وهيبتنا له، فنخطئ إليه… وهكذا لما ظهر الله لموسى في العليقة، قال له “اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة” (خر 3: 5) أليس هذا مثالًا من مخافة الله…

من الأمثلة الأخرى ألا ننطق باسم الله باطلًا (خر 20: 7)، والعقوبة المرتبطة بهذه الوصية.

إنها إحدى الوصايا العشر. وقد قال الله بعدها مباشرة “لأن الرب لا يبرئ مَن ينطق باسمه باطلًا”. وفي العهد الجديد، في العظة على الجبل، نرى نفس الوصية، ليس باسم الرب فقط، بل كل ما يتعلق به. فيقول “لا تحلفوا البتة. لا بالسماء لأنها كرسي الله ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه. ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم…” (مت 5: 35، 34).

إنها المهابة لله، ولكل ما ينسب إليه.

فالإنسان الذي مخافة الله في قلبه، هذا يهاب الله، ويوقره، ويطيعه، ويحفظ وصاياه، ويحترمه، ويحترم كل ما يتصل به: يهاب مواضعه المقدسة ويحترمها. ويحترم كتابه، وخدام مذبحه، ويحترم قديسيه وملائكته، ويحترم اسمه القدوس، فلا ينطق به باطلًا بل يقدسه ويمجده، وينحني حينما ينطق بهذا الاسم القدوس..

إنها المخافة، التي يتصف بها كل من يحب الله…

التي فيها، لا يمكن للإنسان أن يكسر وصية واحدة من وصايا الله. فبالمخافة لا يكسر وصاياه، لأنه يخاف عقوبته. بالمحبة أيضًا لا يمكنه أن يكسر وصاياه، لأنه يحب تلك الوصايا، ويجد لذته فيها. أما الذي يكسر الوصية، فواضح أنه بعيد عن محبة الله، وبعيد عن مخافته…!

والذي يتكلم عن المحبة بينما يكسر الوصية، يكون كلامه باطلًا.

إذ كيف يتكلم عن المحبة التي هي نهاية الطريق الروحي، بينما لم يصل بعد إلى المخافة التي هي بدء الطريق. وما أجمل قول الوحي الإلهي في هذا المعنى “إن جريت مع المشاة فأتعبوك، فكيف تبارى الخيل؟!” (أر 12: 5)..

إن كنت لا تزال تصارع مع الخطية، مرة تسقط وأخرى تقوم، فكيف تضع نفسك مع الذين فعلوا كل ما أمروا به، ويقولون “إنهم عبيد بطالون” (لو 17: 10). ماذا إذن عن مقارنة نفسك بالقديسين أمثال أنطونيوس؟! أو غيره من أصحاب الرؤى والاستعلانات.

فلنتكلم إذن عن مستوانا، ولا ندّعى لأنفسنا درجات لم نصل إليها بعد، ولن نصل..

إنني أكلم بشرًا من نوعى، نجاهد معًا لكي نصل، ولكننا لم نصل بعد.. بل مازلنا في مرحلة الجهاد. فهذا مستوانا معًا… أما المحبة الكاملة التي تطرح الخوف إلى خارج، فلعلها مشوار الحياة كلها… نحاول كل يوم أن نصل إلى شيء منها…

وَيُخَيَّل إلى أن المحبة الكاملة لا نصل إليها إلا في الأبدية.

وفى ذلك العالم لا توجد خطية، وبالتالي لا يوجد خوف. أما في عالمنا هذا الذي توجد فيه الخطية، فلابد أن توجد فيه المخافة أيضًا. لأن الخوف ملازم للخطية بالضرورة.

وكما يقول الكتاب “أتريد أن لا تخاف السلطان، أفعل الصلاح… ولكن إن فعلت الشر فخف” (رو 13: 5، 4). فإن قيل هذا عن السلطان المحدود في تقييمه للشر، فماذا نقول عن الله غير المحدود في الصلاح والقداسة؟

وحذار أن تفهموا خطأ الآيات التي وردت في الكتاب عن حنان الله ومغفرته ولطفه ورحمته…

16- الباب الثامن: اعتراضات والرد عليها 🔗

كثيرون يهربون من عبارة (مخافة الله). ويرون أنها لا تتفق مع عهد النعمة. فما هي أدلتهم:

1- يقول المعترض: لماذا أخاف الله، وقد قبل إليه أوغسطينوس، وكان فاجرًا لزمن طويل؟ 🔗

وقد قبل الله إليه أيضًا موسى الأسود، وكان قاتلًا قاسيًا.. وكذلك مريم القبطية، وكانت في عمق الدنس والفساد.. وقبل إليه كذلك مريم المجدلية التي كان فيها سبعة شياطين (مر 16: 9)، كما قبل إليه المرأة الزانية التي رأته في بيت الفريسي (لو 7: 37).

وأنا أطوّب فيك يا ابني معرفة كل هذه الأمثلة. ولكني في مناقشتها معك، أحب أن أسأل:

هل لك توبة صادقة مثل كل أولئك القديسين؟

هل لك توبة أوغسطينوس وموسى الأسود، اللذين لم يرجعا إلى الخطية مرة أخرى، بل استمروا في النمو الروحي حتى صارا مرشدين لكثيرين، بل لأجيال بعدهما؟

هل لك انسحاق قلب تلك الزانية، التي تذللت جدًا وسكبت دموعها أمام جميع الناس؟

هل تعرف كيف اقتاد الله مريم القبطية بالمخافة، إذ صدتها يد الله عند الدخول إلى الكنيسة، وسمرتها في مكانها، فلم تستطع الوصول إلى الأيقونة المقدسة؟ وهل تعرف كيف جاهدت 17 سنة بعد توبتها وهي في إصرارها ثابتة أمام حروب الشياطين المخيفة المستمرة؟

هل لك الحب الذي كان في قلب القديسة مريم المجدلية، الحب الجبار الذي يمكن أن يبعد عنها المخافة؟

كُنْ مثل كل أولئك في توبتهم وحبهم، حينئذ لا تخاف. وتأمل أيضًا كيف ومتى وصلوا إلى تلك الدرجة.

ولكن لا تفترض نفسك في مستوى قديسين، حالتك غير حالتهم، وتوبتك غير توبتهم، ويوجد فارق كبير بينك وبينهم، بين بدايتك نهايتهم!!

إنما ضعهم أمامك، ليبعثوا الرجاء في قلبك.

وحاول بكل قوتك أن تسير في طريقهم بنفس الجدية، وبنفس العزيمة الصادقة، وبنفس المخافة التي بدأوا بها. وحينئذ لا تخاف..

وتذكر أن الرب قال عن المرأة الزانية التائبة، إنه غفر لها الكثير لأنها أحبت كثيرًا.

إن وصلت إلى تلك المحبة الكثيرة، وإلى ذلك التذلل وتلك الدموع، تكون قد وصلت إلى المخافة التي توصلك إلى المحبة، وتأخذ الوعد الإلهي فلا تخاف.

2- أسمعك تقول: لماذا نخاف، والله أب لنا يتراءف علينا؟ 🔗

إنه أب بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، قال عنه المرتل في المزمور “لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا.. كبعد المشرق عن المغرب، ابعد عنا معاصينا” (مز 103: 11، 10).

حسن يا ابني أنك استخدمت هذا المزمور وهذه الآيات بالذات. وليتنا نقرأها معًا، ونرى ماذا تعني؟ يقول المرنم:

“كما يترأف الأب على البنين، يترأف الرب على خائفيه”.

ولم يقل يتراءف على الباقين في خطاياهم، أو على المستمرين في كسر وصاياه. بل قال يتراءف على خائفيه” (مز 103: 13). وقال في مراحم الرب ومغفرته “لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض، قويت رحمته على خائفيه” (103: 11).

أراك عرضت آيات توافِق فِكرك، وتركت الباقي!

أخذت آيتين 12، 10 من المزمور 103 (مز 103: 10، 12)، بينما تركت آيتين 13، 11 (مز 103: 11، 13). كان ينبغي أن تأخذ المزمور كله، لكي تفهم المعنى متكاملًا في جهة معاملة الله.

فحقًا هو رحيم ورؤوف وطويل الروح.. ولكن لكي نتوب، وحينئذ يتراءف على خائفيه، ولا يجازيهم حسب آثامهم. لأنهم بخوف الله قد تابوا، وبالتوبة محيت خطاياهم. وهكذا لم يعد الله يجازيهم على آثام قد غفرها. ولا يصنع معهم حسب خطايا تابوا عنها..

الله يعاملك كأب، وكان ينبغي أن تعامله كابن له.

حقًا هو أب لنا، ولكنه لا يحابي…

أنظر ماذا يقول القديس بطرس الرسول في هذا المعنى.. إنه يقول “إن كنتم تدعون أبًا الذي يحكم بغير محاباة، حسب عمل كل واحد، فسيروا زمان غربتكم في خوف” (1 بط 1: 17).

إنه أب بكل ما تحمل الكلمة من معنى الأبوة. ولكنه أب قدوس لا يرضى بالخطية. وهو أب عادل لا يحابي أولاده. ومادام سيحكم على أعمالنا بغير محاباة، إذن فلنخف من إغضاب هذا الأب، ولنخف من أن نفقد محبته.

الله أب لنا. وكأب يعاتب أولاده على عصيانهم.

وهكذا تبدأ نبوءة أشعياء النبي بعبارة “اسمعي أيتها السموات، وأصغي أيتها الأرض، فإن الرب يتكلم: ربيت بنين ونشأتهم، أما هم فعصوا عليَّ” (اش 1: 2). وماذا أيضًا؟ يقول الرب في سفر ملاخي النبي “الابن يكرم أباه، والعبد يكرم سيده، فإن كنت أنا أبا، فأين كرامتي؟ وأن كنت سيدًا، فأين هيبتي؟ (ملا 1: 6).

ألا نقول إذن إن الوقوف ضد كرامة الله وهيبته، أمر يدل على عدم وجود مخافة الله في القلب؟! وهذا ضد تعليم الكتاب…

فإن كنت ابنًا لله، فأين كرامة الله كأب لك؟

3- يقول البعض: لماذا أخاف الله، وهو ليس فقط أبًا، وإنما تمتزج أبوته بالطيبة والعطف؟ 🔗

هنا وأجيب: هل لأن الله أب طيب، نستغل نحن طيبته، نتجاهل كرامته وهيبته؟! وننسى جلاله وأبوته؟! أيلزم إذن أن يشتد في معاملته لنا، لكي نطيعه ونخافه ونهابه؟ وإن نسينا هيبة الله باسم الحب، أيكون هذا حبًا حقيقيًا؟

وما دام الله أبًا، أليس من حقه كأب أن يؤدبنا؟ وأن نخشى تأديبه…

هوذا الرسول يقول “الذي يحبه الرب يؤدبه… إن كنتم تحتملون التأديب، يعاملكم الله كالبنين، فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟! ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول لا بنون” (عب 12: 6 – 8).

إذن فلا ننتظر من الأب العطف فقط، بل أيضًا التأديب.

ولنثق أن التأديب نافع لنا. إنه يغرس فينا مشاعر المخافة فنطيع الله، ونحيا…

وهوذا القديس بولس الرسول يتابع كلامه فيقول “قد كان لنا أباء أجسادنا مؤدبين، وكنا نهابهم. أفلا نخضع بالأولى جدًا لأبي الأرواح فنحيا؟ لأن أولئك أدبونا أيامًا قليلة حسب استحسانهم. وأما هذا فلأجل المنفعة لكي نشترك في قداسته” (عب 12: 10، 9).

لأن الرسول يعرف أن المخافة ليست محبوبة عند الكثيرين، وكذلك التأديب، فإنه يختم كلمته بقوله “ولكن كل تأديب في الحاضر، لا يُرى أنه للفرح بل للحزن. وأما أخيرًا فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام” (عب 12: 11).

إذن أبوة الله لنا، ليست لمجرد التدليل!

إنما هي بالأكثر للتقويم والتهذيب والتأديب، لكي ننصلح حياتنا فنحيا. ومن هنا ينبغي أن تمتزج محبتنا البنوية لله بالمخافة. كما قال الرسول عن آبائنا بالجسد “كنا نهابهم” وكانوا “مؤدبين لنا”. هنا المخافة بمعنى المهابة والطاعة، وليست بمعنى الرعب. نخاف لكيلا نخطئ..

4- يقول البعض: لماذا مخافة الله، بينما من صفات الله اللطف والحنان؟ 🔗

والرسول يقول “ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه، لا بأعمال في بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا..” (تي 3: 5، 4).

ونجيب بأن الحديث عن لطف الله هو نصف الحقيقة، فإن الرسول نفسه يقول:

“هوذا لطف الله وصرامته..” (رو 11: 22).

ويكمل “أما الصرامة فعلى الذين سقطوا. وأما اللطف فلك، إن ثبتً في اللطف. وإلا فأنت أيضًا ستقطع” (رو 11: 22).

5- يقول المعترض. ولكن الله طويل الأناة ورحوم 🔗

فنجيب: ولكن لا يليق بنا كأبناء وكمؤمنين، أن نستغل طول أناة الله لنتمادَى في خطايانا! كما لو كانت رحمة الله ستار لاستهتارنا. وهوذا الرسول يوبخ كل من يستغل طول أناة الله، فيقول:

“أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب، تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة، الذي سيجازى كل واحد حسب أعماله..” (رو 12: 4 – 6).

ليس حنان الله إذن مجالًا للاستهتار!! ولا طول أناته معناه أنه راض على الخطية أو متسامح فيها ولا يعاقب!! حاشا. فإن كل هذا لا يتفق مع صلاح الله غير المحدود، ولا مع عدله.

كلا. وإنما الله لا يريد أن يمسك بك وأنت في حالة خطأ فتهلك، بل يعطيك فرصة لتتوب.

عليك أن تخاف إذن من طول أناة الله. لئلا يأتي الوقت الذي يمتلئ فيه كأس الغضب، فينتهي الفرصة التي أعطيت لك للتوبة، وهنا تتعرض لدينونة الله المخيفة (رو 2: 21).

لقد أطال الله أناته جدا على فرعون أيام موسى. فهل معنى هذا أنه لم يعاقبه؟!

وقد أطال الله أناته فترة على الأموريين، لأن كأس الأموريين لم يكن كاملًا وقتذاك (تك 15: 16). فلما أكتمل ذنبهم دفعهم ليد موسى النبي.

6- إني لأعجب لمعترض يستشهد بقول للقديس أوغسطينوس “تحب. ثم تفعل بعد ذلك ما تشاء” 🔗

مُحال طبعًا أن يُفهم من قول القديس أن تفعل ما تشاء من الخطية والاستهتار. بل أن ما يقصده هو أن تفعل ما تشاء داخل محبتك لله. فلا تسلك حرفيًا داخل المحبة.

التصنيفات: كتب
مشاركة: