لا تُغَطِّ أخطائك بالأعذار - كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية للبابا شنودة الثالث
في حياتك الروحية: واجه الواقع.. كن صريحًا مع نفسك، ومع الناس.. وإن أخطأت، لا تحاول أن تغطي الخطأ بالأعذار.. بل اعترف بالخطأ، في أتضاع وفي صدق وحاول أن تصلحه.
ما أسهل على الضمير الواسع أن يجد عذرًا يغطي به أية خطيئة يقع فيها..!! ما أسهل عليه أن يبرر أي موقف، بأي كلام!
إن الذين قتلوا سقراط Socrates، قالوا إنه يفسد عقول الشباب! ومجمع السنهدريم الذي حكم على السيد المسيح قال إنه مجدف!! وحتى يهوذا الخائن كان يغطي خطيئة بعذر..
إن الأعذار باب واسع إن فتحناه، اتسع لكل فعل..
إن الأعذار لا تعرف الخجل، وإن كان الخجل قد يدفع أحيانًا إليها!!
الدافع الأول للأعذار هو تبرير الذات.
والسبب الحقيقي للأعذار الخاطئة هو كبرياء النفس التي ترفض أن تعترف بالخطأ.
والذات صنم يتعبد له الإنسان، ويريده أن يكون كاملًا وجميلًا في عينيه وفي أعين الناس..
يسئ إلي البعض أن يبدو مخطئًا، لذلك يغطي خطأه بعذر أو بأعذار. ويكون العذر في حد ذاته خطأ آخر قد يحط من قدر الإنسان أكثر من الخطأ الذي يحاول أن يخفيه. وكما قال المثل: “عذر أقبح من ذنب”.
الإنسان الذي يبرر ذاته بمختلف الأعذار، هو إنسان يرفض أن يتوب.
أما الاعتراف بالخطأ فهو دليل على صحة النفس، ودليل على الرغبة في التوبة، وإظهار لندم الإنسان على أخطائه. وقد صدق الكتاب حينما قال: “أنت بلا عذر أيها الإنسان”.
والأعذار قد تكون مكشوفة أحيانًا ومفضوحة، ومجالًا للسخرية، وموضعًا لشك الناس، وبخاصة إذا كثرت، أو إن كان الخطأ واضحًا للكل. لذلك على الإنسان أن يراجع نفسه كثيرًا قبل أن يحاول تغطية أخطائه بالأعذار.
بل قد تكون الأعذار أحيانًا سببًا للإثارة، يتعب السامع.. ويكون خيرًا للمخطئ لو انه يصمت، إن لم يستطع الاعتراف. فالصمت لا يثير كالأعذار التي تدل على استهانة المخطئ بما فعله، وكأنه يظن الأمر طبيعيًا لا إثم فيه..!
والأعذار قد تكون صادقة، وقد تكون مختلفة وغير حقيقية. والكذب معين لكل خطية، يقترب من كل مخطئ وبيده ورقة تين عريضة يحاول أن يستره بها. والأعذار الكاذبة خطيئة مزدوجة تدل على مرض الضمير..
وقد تكون الأعذار لونًا من الخداع، أو شرحًا لما حدث على غير واقعه الحقيقي. وقد يلجأ فيها الشخص إلى الاحتماء وراء أسباب ثانوية عن السبب الأساسي للفعل..
وقد ينكشف عذر، فيغطيه صاحبه بعذر آخر..
وهكذا يدخل في سلسلة لا تنتهي من الأعذار، كلها تصرخ قائلة: (إنني مجرد ستار لنفس أتعبتها الكبرياء أو أتعبها الخجل، فتريد أن تقف بريئة أمام الناس بأي سبب وبأية وسيلة..).
إن الأعذار بهذه الصورة نوع من المكابرة، تحاول أن تخفى الحقيقة، وأن تلبس المذنب ثياب الأبرياء. وهى غير الأعذار البريئة الحقيقية التي تتقبلها النفس في رضى..
ما أجمل أن يعترف الإنسان بخطئه.. فالاعتراف بالخطأ يدل على محبة الإنسان للحق والعدل وعدم تحيزه لنفسه.. وعدم مجاملته لذاته..
والذي يعترف بالخطأ يدل أيضًا على صحة فهمه، وعلى أنه غير محب للمغالطة، وغير محب للمكابرة، وغير محب للرياء.
والاعتراف بالخطأ دليل على التواضع..
فالإنسان المتواضع لا يسلك في تبرير الذات، وإنما في تقويم الذات وتصحيح وضعها. وهو يحكم على نفسه، قبل أن يحكم الناس عليه. بل حتى لو كان الناس غير منتبهين لخطيئته، فإن هذا لا يمنعه من أن يعترف بأنه قد أخطأ في هذا الفعل أو ذاك..
ما أقل المعترفين بأخطائهم، وما أكثر المبررين ذواتهم بالأعذار..
و من أخطر الأعذار، الأعذار الشائعة عند الجميع، حتى أصبحت أمثالًا يتداولها الناس..
فقد يجتاح المجتمع خطأ عام، يسلك فيه الكل. وإن عاتبت إنسانًا محبًا للحق في مثل هذا السلوك الخاطئ، ربما يجيبك بهذه الإجابة المحفوظة: (أعمل إيه؟ الناس كلها كده)! كما لو كانت عمومية الخطأ عذرًا يبرر وجوده..!
كلا، فإن الإنسان المحب للحق، لا يصح أن ينحرف في أخطاء المجتمع الشائعة، بل يقاومها، ولو وقف في ذلك وحده.
فهكذا كان المصلحون، بل هكذا كان الأبرار في كل جيل: لهم طابعهم الروحي الذي يميزهم. حتى لو أخطأ الكل فإنهم لا يخطئون، واضعين أمامهم قول الكتاب: “لا تشاكلوا هذا الدهر “، أي لا تكونوا شكله وشبهه. بل إن داود النبي يصرخ في المزمور ويقول: “نجنى يا رب من هذا الجيل”.
لقد كان نوح البار في وسط كله فساد في زمن الطوفان، ولكنه تميز عن معاصريه بقداسته، ولم يجار الوسط الفاسد. وهكذا أيضًا كان لوط في أرض سادوم.. وما أكثر الأمثلة.
إلى جوار عذر الخطأ الشائع، يوجد عذر آخر عام وشائع:
فقد يعتذر إنسان بضعف الطبيعة البشرية، أمام قوة الإغراءات الخارجية.. وقد يظن هذا مبررًا لسقوطه.
والواقع أن الله لا يمكن أن يأمرنا بوصايا فوق مستوى إمكانيات إرادتنا، وإلا كان هذا لونًا من الظلم، وضربًا من التعجيز، كما قال الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
إن الله عندما يأمر بوصية ما، إنما يعطى النعمة التي تساعد على تنفيذها..
وطبيعتنا البشرية ليست واقفة وحدها، وإنما هي مسنودة ومؤيدة بقوة الله. والله يعمل فينا، بقوته، وبنعمته، وبروحه القدوس.. وعندما نتجه نحو الخير، نجد كل قوى السماء تساندنا وتعيننا.. والملائكة، وأرواح القديسين، وصوت الله في ضمائرنا وفي قلوبنا.. وكم من مواقف انتصرنا فيها، وشعرنا يقينا بيد الله في العمل.. إنه هو الذي قال: “بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئًا”.
لا يصح أن نصف الطبيعة البشرية على الدوام بالضعف وبالفساد.. إن الله قد وضع فينا قوى عجيبة، نحن للأسف لا نبصرها، وبالتالي لا نستخدمها. ثم بعد ذلك بكل جرأة نلوم طبيعتنا..
وللأسف أيضًا يوجد من سقط ويقول: “لا يصح أن نقاوم الطبيعة”!!
كلا، ليست هذه هي الطبيعة البشرية التي خلقها الله، لأن الله لا يخلق شيئًا فاسدًا!! حاشا.
سِر أيها المبارك في طريق الله.. وتشدد، وتشجع.. وفي أخطائك لا تلتمس لنفسك الأعذار.
لا تحاول أن تغطى أخطاءك، بل حاول أن تعالجها.