بين الصمت والكلام - كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية للبابا شنودة الثالث
كثيرًا ما يتحير الإنسان: أيهما أفضل: أن يصمت أم أن يتكلم؟ وهكذا عليه أن يحدد موقفه بين الصمت والكلام.
فضيلة الصمت:
نلاحظ أن غالبية القديسين قد فضلوا الصمت، واضعين أمامهم قول الحكيم: “كثرة الكلام لا تخلو من معصية”. وفى ذلك قال القديس أرسانيوس -معلم أولاد الملوك- عبارته المشهورة:
“كثيرًا ما تكلمت فندمت.. وأما عن سكوتي، فما ندمت قط”.
ومن أجل هذا صلى داود النبي قائلًا: “ضع يا رب حافظًا لفمي، بابًا حصينًا لشفتي”.. وقال الوحي الإلهي: “الاستماع أفضل من التكلم”.
وما أكثر ما تحدثت الكتب الروحية عن: “فضيلة الصمت” ودعت إليها، لكيما يتخلص بها الإنسان من أخطاء الإنسان وهى عديدة..
منها الكذب والمبالغة، وكلام الرياء والتملق والنفاق. ومنها التهكم، والكلام الجارح، والسب واللعن والإساءة إلى الآخرين، والتحدث بالباطل في سيرة الناس. ومنها الافتخار بالنفس والتباهي ومدح الذات. ومنها الكلام البذيء، والقصص والفكاهات الخليعة، وكلام المجون. ومن أخطاء اللسان أيضًا: التجديف، وكلام الكفر، والتذمر على الله. ومنها التعليم الخاطئ، والضلالة والبدع.
ومن أخطاء اللسان أيضًا الثرثرة. لأن الله لم يخلق اللسان فينا لكي يتكلم عبثًا بلا فائدة. لكل هذا فضل القديسون الصمت..
ليس فقط، لكي يبعدوا عن أخطاء اللسان، إنما أيضًا لكي يتيح لهم الصمت فترة للصلاة والتأمل..
لأن الإنسان لا يستطيع أن يتكلم مع الله والناس في الوقت نفسه. لهذا قال الشيخ الروحاني:
(سكِّت لسانك، لكي يتكلم قلبك).
وقال مار إسحق: (كثير الكلام يدل على أنه فارغ من الداخل)، أي أن قلبه فارغ من مناجاة الله، فارغ من العمل الروحي في التأمل والصلاة..
كلام المنفعة:
يبقى بعد كل هذا سؤال هام وهو:
هل كل صمت فضيلة؟
وهل كل كلام خطيئة؟
كلا، طبعًا، فقد قال داود النبي في المزمور: “فاض قلبي بكلام صالح”. إذن هناك كلام نافع ومفيد، وذلك حينما نتكلم بالصالحات.
إن الصمت حالة سلبية، بينما الكلام حالة إيجابية.
وإنما يدرب الناس أنفسهم على الصمت، حتى يتدربوا على الكلام النافع. الصمت إذن هو وضع وقائي يحمينا إن كنا نتكلم بدافع بشرى.
أما إن كان الله هو الذي يفتح شفاهنا، وهو الذي يضع كلامًا في أفواهنا، فحينئذ يكون كلامنا –لا صمتنا– هو العمل الفاضل.
كان السيد المسيح يتكلم، والناس “يتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه”. والشهيد اسطفانوس تكلم فأفحم المجامع الخاطئة " ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به". وقد قال سليمان الحكيم: “فم الصديق ينبوع حياة”.
وقد كان حكماء العالم يجوبون البر والبحر، لكي يسمعوا كلمة منفعة من المتوحدين والنساك في براري مصر وقفارها..
كلام المنفعة هذا، هو كلام من الله يضعه في أفوه أحبائه، ليبلغوه للآخرين، هادئًا كان أم شديدًا.
ومن كلام المنفعة: كلمة النصح لمن يحتاج إليها، وكلمة العزاء لقلب حزين، وكلمة التشجيع لناشئ أو ليائس، وكلمة التعليم لبناء النفوس، وكلمة الله للهداية والإرشاد، وكلمة البركة، وكلمة الحق وكلمة الحكمة.. الخ.
نسأل سؤالًا بعد هذا، وهو: إن كان الكلام هكذا نافعًا في بعض الأوقات.
فهل يمكن أحيانًا أن يعتبر الصمت خطيئة، تمامًا كما يحسب الكلام الشرير خطيئة؟ وهل يمكن أن ندان على صمتنا، كما ندان على كلامنا!
نعم، أحيانًا ندان على صمتنا..
إن لكل شيء تحت السماء وقتًا. وقد قال سليمان الحكيم: “للسكوت وقت، وللتكلم وقت”. فإن كان للتكلم وقت، فلا شك أننا ندان إذا صمتنا فيه.
فالبار لا يتكلم حين يحسن الصمت. ويصمت حين يحسن الكلام.
إنما يعرف متى يتكلم، وكيف يتكلم. ويضع لكلامه هدفًا نافعًا روحيًا. وقد قال الحكيم: “تفاحة من ذهب، في مصوغ من فضة، كلمة مقولة في موضعها”.
وكثيرًا ما أمر الله الناس بالكلام، فكان يرسلهم أحيانًا للإنذار، وأحيانًا للتبشير، وأحيانًا لإعلان حقه بين الناس.
إن الله لا يكلم الناس مباشرة، وإنما يكلمهم عن طريق أحبائه من البشر. هو يريدنا أن نعلن وصاياه للناس، وقد طلب إلينا أن نكون شهودًا له على الأرض..
فإن صمتنا عن الشهادة للحق، ندان على صمتنا.
وإن صمتنا، وبصمتنا أعطينا مجالًا للباطل أن ينتشر وأن ينتصر فإننا ندان على صمتنا.
وإن قصرنا في إنذار البعض، فأضر بنفسه أو بغيره، ندان أيضًا على صمتنا.
فإن رأيت إنسانًا يسقط في حفرة وهو لا يدرى، هل تقول إن الصمت فضيلة أم تحذره؟! وإذا لم تحذره، ألا تدان على صمتك، ويطالبك الله بدم ذلك الإنسان؟
بهذا يكون هناك واجب على الرعاة أن يتكلموا، وواجب مثله على الآباء والأمهات، وعلى القادة الروحيين، وعلى المعلمين، وعلى كل من هو في مسئولية.. كل هؤلاء كلفهم الله أن يقولوا كلمة الحق، وأن يشهدوا لوصاياه في العالم.. ومثل هؤلاء يكون كلامهم أفضل من الصمت.
فليعطنا الرب أن نعرف كيف ومتى نتكلم. وليعطنا الكلمة التي تتفق ومشيئته الصالحة، والتي يعمل فيها روحه القدوس فلا ترجع فارغة، بل تثمر ثمرًا في قلوب الناس. ويرى الرب ثمار هذه الكلمة فيفرح وتفرح ملائكته، ويكون هو الذي تكلم وليس نحن.. وليتمجد الرب في صمتنا وفي كلامنا، له المجد إلى الأبد أمين.